حكايات| صناعة الشموع.. «ورش الغورية» صامدة في وجه المستورد

صناعة الشموع في مصر
صناعة الشموع في مصر

بأنوارها المُبهجة وأجوائها الروحانية؛ ارتبطت الشموع بالتاريخ الإنساني عامة، والحضارة المصرية خاصة.. فالمعابد الفرعونية كانت تُضاء بالشموع منذ فجر التاريخ لأسباب تتعلق بالفرعون والآلهة، كما تُشعل بالكنائس للإنارة والصلاة وارتباطا بـ«سبت النور» في كنيسة القيامة وغيرها من المدلولات العقائدية والروحانية لدى الأقباط، غير أن ما تحمله من أجواء احتفالية في أعياد الميلاد والسبوع وارتباطها بـ«كحكة المولود» أسرار كثيرة، لكن الشمعة المضاءة في المقامات والمساجد لا ينقطع نورها مطلقاً؛ لها عُمق وجمال وجاذبية؛ تحمل الدعاء والصلوات المستمرة والاستغفار وطلب الرضا.

 

 

وللشموع حظٌ وافر من روائع الشعراء؛ إذ غنى الشيخ إمام كلمات الفاجومي - الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم: «قيدوا شمعة يا أحبة ونورولي.. رمشتين من رمش عين وبيندهولي.. من هنا سكة ملامة من هنا سكة ندامة.. سكتين يلا السلامة أمشي فين ياناس قولولي»؛ فدائما ما يُنظر للشموع بأنها صنعت مجد العظماء من علماء ومفكرين وأدباء وشعراء.

من أجل ذلك، كان لابد أن ترتبط وكالة الشموع وأسواقها بالقاهرة التاريخية حيث وكالة الغوري بالقرب من بوابة المتولي القريبة من باب الخلق بالقاهرة، هنا تسحرك الشموع بألوانها وأشكالها وأحجامها المختلفة وروائحها النفاذة، تحدثت «بوابة أخبار اليوم» مع الصُناع والباعة لكشف أسرارها، ونسرد دلالات ارتباطها التاريخي بأعياد الميلاد والسبوع والكنائس ومعابد الفراعنة.

 

 

رحلة الصناعة       

في البداية يقول أبو يوسف الشماع، صاحب الـ55 عاما، مالك محلا لبيع الشموع، إن الشموع يتم صناعتها من تكرير البترول؛ فكما نستخرج من البترول الزيوت والبنزين والأسفلت نستخرج الشموع التي يضاف لها لون أبيض أو ألوان مختلفة وروائح نفاذة.

ويتابع «الشماع»، حديثه لـ«بوابة أخبار اليوم» قائلا: «يوجد شموع بلدي تُصنع من استخراج النحل وتكون لشفاء الأمراض، وكمياتها قليلة وسعرها مرتفع جدا، أما الشموع التي نبيعها فهي تكرير بترول محلي أو شركات استثمارية محلية».

والتقط منه عم جابر أحمد، صاحب الـ60 عاما؛ طرف الحديث قائلا: «تصنيع الشموع يتم عن طريق قوالب معينة تُسمى (استامبة) مصنوعة من الألمونيوم حتى تبرد سريعاً، وكل شمعة لها مقاس استامبة معينة، وبعدما يتم طبها داخل الاستامبة وتأخذ الشكل المناسب نتركها حتى تبرد ثم نفتح الاستامبة، ونستخرج الشمعة ونضع عليها العلامة التجارية».

ويشير إلى أن تلوين الشموع وإضافة رائحة لها يتم عن طريق المواد الكيميائية والأصباغ، وهى الشموع التي تذهب إلى الفنادق والمحلات الكبرى أو يشتريها الأهالي أوقات انقطاع الكهرباء، مضيفا أن الشموع توضع على الموقد المشتعل بالنار، ونرتب الخيوط المصنوعة من القطن على «الطريحة»، ثم توضع الطريحة داخل المادة الخام للشمع، لبضع ثوان وتترك لتجف حتى تصل إلى شكلها الذي نراه.

ويذكر لـ«بوابة أخبار اليوم» أن قوالب تشكيل الشموع كثيرة، فهناك قوالب تستخدم لصناعة شموع الأفراح التي توضع على الماء وتتميز بكبر حجمها وطول عمرها فقد تظل مضيئة لمدة أسبوع كامل ولو وضعت في هواء الصحراء، وقوالب تستخدم لإنتاج شموع الإنارة، لافتا إلى أن الأصباغ والروائح المختلفة تُضاف للمادة الخام لإنتاج شموع تدوم رائحتها حتى نهايتها.

 


الشمع الصيني

أما عم كامل منصور، العامل بورشة تصنيع الشموع بالغورية، فيطالب بالحد من الاستيراد من الصين، حتى لا يتضرر العمال والصنايعية داخل مصر، وتتعرض المهنة للانقراض، مضيفا: «الورش هنا في الغورية بتأكل عيش، ومعانا أولاد وبندفع إيجارات، وهنا نصنع جزء والباقي يأتي جاهز من المصنع، ومصنع العامرية لتكرير البترول أكبر الشركات المنتجة للشمع في مصر».

ويضيف: «صناعة الشموع تحتاج وقت ومجهود ويشتريها المستهلك بأسعار زهيدة، وتجارة الشموع شهدت رواجا كبيرا في فترة تكرار انقطاع الكهرباء في مصر بعد الثورة، لكن لما دخلت الشموع الصيني حدث ركود لدينا، لكن ورشنا صامدة وهتفضل على مر الزمان».

 

 

أسعار الشموع

أما علي الشماع، فيوضح أن الأسعار تبدأ من 6 جنيهات للباكو الصغير، و15 جنيها للباكو المتوسط، أما الشمعة الكبيرة التي تستخدم في الأفراح وأعياد الميلاد بـ20 جنيها، ويوجد شموع سعرها من 10 جنيهات وحتى 50 جنيها.

ويضيف أن الأسعار ارتفعت بنسبة 40% عن الأعوام السابقة، وهناك ركود واسع في الشراء حيث كنا نعتمد على السياحة بشكل كبير وبعدما أصابها ركود انعكس علينا، مشيرا إلى أن الأفراح تقل في فصل الشتاء مقارنة بالصيف ما يقلل الطلب على المحلات، لكن في الصيف يكون الإقبال أكبر.


ويوضح أن الكهرباء وصلت كل القرى والنجوع في جميع المحافظات، وحتى إذا انقطع النور فالبديل هو الكشاف الكهربائي، لكن الذي يحرك الماء الراكد شراء المسيحيين للشموع إذ تعتبر طقوس ثابتة بالكنائس، خاصة في أعيادهم، ويزداد البيع أيضا في أعياد رأس السنة والسبوع للمواليد جيدة.

وتابع عم «علي» حديثه، قائلا: «الشمع يدخل في صناعات عديدة؛ فالشموع النقية بنسبة 100% تدخل في صناعة الأغذية مثل الشوكولاته واللبان، أما الأقل نقاءً فتدخل في صناعة الورق والرخام والأحذية، وهناك شموع الإنارة العادية، وشموع تدخل في تلميع السيراميك والرخام والبلاط، وشموع تستخدم في السيارات التي تحتاج نوعاً من العزل، وأيضا تستخدمها مصانع الزجاج».

 

 

جودة الشموع المصرية

ويؤكد عم «علي»، على جودة الشموع المصرية، قائلا:«صناعة بلدنا الأفضل على الإطلاق وتنافس الشموع التركية والألمانية، فجودتها عالية، واعتمادنا على الشمع المستورد ضعيف، وشركات تكرير البترول المحلية مش مغطية السوق المحلي، وده يسبب أزمة لأن فيه مصانع متقدرش تقف فلازم تستورد من الخارج علشان تشتغل».

 

 

قصة شموع و«كحكة» الميلاد

معظم التفسيرات تتمحور حول عبادة الآلهة؛ فمنذ 4 آلاف عامٍ مضت، في مصر القديمة، كان تاريخ تتويج الفرعون حدثاً جللاً، حيث كانوا يؤمنون بأن هذا الحدث هو وقت تحول الفرعون إلى إله، والذي يُعني ميلاده «كإله».

كما وضع اليونانيون الشموع على الكعكات لسببٍ مختلف، فآرتيميس، ابنة زيوس والأخت التوأم لأبولو، كانت إلهة الصيد والقمر، ولتكريمها كان اليونانيون يخبزون كحكات العسل المستديرة أو تلك التي على شكل القمر لتقديمها وتزيينها بالشموع المضاءة لتماثل توهج القمر المكتمل.

وللشموع تفسيرٌ أبعد من الرمزية، فبعض الحضارات القديمة آمنت أن بإمكان الدخان أن يساعد في رفع الدعوات للآلهة، والبعض يرى أن أول شعب عرف استخدم الكحك للاحتفال بأعياد ميلاد الأشخاص القدامى العاديين هو الشعب الروماني، فقد خبزوا الكحك بدقيق القمح وزيت الزيتون والعسل والجبن المبشور للاحتفال بأعياد ميلاد الأصدقاء والعائلة.

أما أعياد الميلاد في الآونة الحالية؛ فهي مرتبطة بالأطفال أكثر من الكبار، وتعود كحكة عيد الميلاد الحالية إلى احتفالية الطفل الألماني في أواخر القرن الثامن عشر، حين تم الاحتفال بالأطفال بكحكات تحمل الشموع، شمعةٌ لكل عام عاشه الطفل إضافةً لواحدةٍ تمثل أملهم بأن يعيش عاماً آخر، وتتضمن أيضاً إطفاء الشموع وتمني أمنية.

 

 

حكايات شموع الكنائس

لعل أقدم أثر مسيحي باق يفيد باستخدام قناديل الزيت والشموع في جدران مغارة القديس بطرس في مدينة أنطاكية على جبل سيليبيوس بقصد الإنارة والصلاة وتنظيم الكنيسة الجديدة بعد الضيق الشديد الذي حصل على المؤمنين في أورشليم واستشهاد الأرشيدياكون استفانوس أول الشهداء بعد يسوع ونزوح العدد الأكبر من التلاميذ والمؤمنين إلى أنطاكية.

واستخدام الشموع وقناديل الزيت في العبادة المسيحية، كان بتأثير حلول الروح القدس على شكل ألسنة نارية، نور من نار، ونار من نور، تجلى لساناً ملتهبا لا يحرق بل يسبغ الفضائل والمواهب على رأس كل تلميذ، وكذلك بسبب فيضان النور المقدس من القبر السيدي الواهب الحياة يوم عيد الفصح في كنيسة القيامة ومن القرن الرابع المسيحي، وهذه النار ونورها عبارة عن نار اللاهوت التي لا تحرق لأنها نار أتت من النور الإلهي ليسوع.

 

 

كما ارتبط إشعال الشموع في مدافن الشهداء؛ حين التف المؤمنون حول قبور شهدائهم للصلاة وكسر الخبز.

أما الشموع في كتابات آباء الكنيسة فكانوا يستخدمونها في الطقوس الكنسية وفي عشاء المحبة وكسر الخبز، وأثناء الصلوات داخل الكنيسة وخصوصًا في الأعياد، وفي الكنيسة الغربية البابوية كان يتم حمل الشموع المشتعلة عند زياح الأسقف ودخوله الهيكل لبدء الصلاة، وأمامه سبعة شمامسة حاملين شموعًا مضاءة وعند خروج الشماس لقراءة الإنجيل يسبقه شماسان حاملان شمعتين مضاءتين.

كما في الدورة الصغرى في القداس الإلهي لكل من يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير، وفيها يحمل الشماس أو الكاهن الإنجيل المقدس والشموع مشتعلة أمامه، وتمثل هذه الدورة حياة يسوع على الأرض، كما تشعل الشموع في الدورة الثانية وهي دورة القرابين المقدسة حيث يكون الجسد الإلهي موضوعاً على الصينية المقدسة.

أما الفوائد الروحية تظهرها الشموع، وفيض النور المقدس من القبر السيدي في كنيسة القيامة يوم سبت النور، وتعتبر الشمعة تعبيرًا تصويريًا دقيقًا عن وقفة العابد أمام الله فهي تظهر هادئة ساكنة وديعة، وقلبها يشتعل اشتعالًا بنار ملتهبة تحرق جسمها البارد الصلب، فتذيبه إذابة، وتسكبه من فوهتها دموعا تنحدر متلاحقة تاركة خلفها خالة من نور، يسعد بها كل من تأمل فيها أو سار على هداها.

والشمعة كالعابد ليس لها فخر في ذاتها، فهي مفحمة لا نور فيها، باردة لا حرارة فيها، وتظل هكذا إلى أن تلهب قلبها بشعلة من النار، حينئذ تلتهب وتضيء فتبدد حجب الظلام المحيطة، وتبعث الحرارة والدفء إلى مَنْ حولها، فطبيعتها بدون عمل النار تافهة مهملة كطبيعة الإنسان بدون عمل النعمة، حتى إذا اشتعلت بالنار صارت من طبيعة النار، وأنارت لا بطبيعتها الأولى وإنما بطبيعة النار المتحدة بها.

وكلما كان الوسط ظلامًا ظهر نور الشمعة بقوة أكثر، مهما كانت صغيرة وضعيفة، فينتفع بها كثيرون، كذلك المؤمن يظهر نوره واضحًا كلما ازدادت ظلمة الشر في العالم، وكذلك الشمعة تحتاج إلى الهواء النقي، ولكن شدة العواصف خطرة عليها؛ هكذا المؤمن ينمو ويصقل بالتجارب التي تعطي له حسب احتماله، ويكون صبره واحتماله سبب عزاء الكثيرين لكن التجارب الصعبة التي لا طاقة له باحتمالها، فهو يطلب من الله أن ينقذه منها، كما أن هناك أنواع من الشمع تختلف درجة نقاوتها، هكذا هناك درجات بين صفوف المؤمنين والخدام في النقاوة.

كما أن الحرارة تذيب الشمعة، ولكنها تقسي الطين، هكذا يلين قلب المؤمن وينسحق أمام محبة الله، بعكس الشرير الذي يتصلب أمام نعم خالقه، مدعيًا أنه عن استحقاق تشرق عليه شمس الحياة، ولا يعلم أن الله في محبته يشرق شمسه على الأبرار والأشرار.

كما أن الشمعة تضيء فهي أيضًا تحرق وخاصة القش، هكذا القديسون أيضًا يقدمون قدوة صالحة وتعليمًا، وهم أيضا يشهدون على الأشرار ويدينونهم، ونار الشمع يبعث الحرارة والدفء، هكذا حياة القديسين وأقوالهم تلهب المؤمنين شوقًا إلى السير في طريقهم وتتبع خطواتهم.

وتوجد كثير من الدلالات الروحانية لاستخدام الشموع في الكنائس، أوجزنا أغلبها في تلك السطور.