يوميات الأخبار

آدى الخريف.. عاد من تانى

يوسف القعيد
يوسف القعيد

الخريف يأخذك من هدير حر الصيف إلى زمهرير برد الشتاء. وكأنه معبر آمن بين الحر الذى لا يُطاق والبرد الذى لا نقدر عليه.

.. أحب فصول السنة لنفسى هو: الخريف. ولدىَّ أسبابى التى هى ابنة تفكيرى. يخلو من برد الشتاء الذى يُجمِّد الأطراف. قد يحول بين الإنسان والحركة. ويجافى حر الصيف الذى يجعل الواحد منا «عرقه مرقه». ويكلفنا التغلب عليه والتقليل من آثاره علينا الكثير.

وإن كان الإنسان الأول - أجدادنا القدامى - قد هداه إحساسه بالحر إلى الظلال ليحتمى بها من لهيب الحر. فإن التكييفات - إحدى اختراعات البشرية الحديثة - تكلفنا فوق ما لا نطيق. فضلاً عن أن أضرارها لا أول لها ولا آخر. الربيع من زحام جماله تشعر أنه يعبر عن خيلائه وغروره بصورة قد تفرح البعض. لكن كثرتها قد تزعج الآخرين.
إنه أكثر الفصول الذى أنشد الشعراء الشعر عن عذوبته. وغنى المطربون لرقته. لدرجة أن الناس جمعت بينه وبين الحب. العاطفة التى تمنح الإنسان إنسانيته. ولكنها أصبحت شبه مستحيلة فى زمن تحكم سلوكيات الناس المادة وتسيطر على ما يقومون به المنفعة.

الخريف يأخذك من هدير حر الصيف إلى زمهرير برد الشتاء. وكأنه معبر آمن بين الحر الذى لا يُطاق والبرد الذى لا نقدر عليه. فى قريتى البعيدة، قرية الضهرية مركز إيتاى البارود محافظة البحيرة. كنت أعرف الخريف من أوراق الأشجار المتساقطة تحتها. وقد فرشت الأرض السمراء ببساط من سندس أخضر ذهبى. تأخذنى أوراق الشجر على الأرض. فلا أشاهد الأغصان العارية التى تبدو ليلاً وكأنها تصاوير الرعب.
أبحث عن تجليات الخريف فى الكتابة الأدبية. رواية: السمان والخريف، لعميد ومؤسس الرواية العربية: نجيب محفوظ. وكتاب: خريف الغضب، لمن نشتاق له آناء الليل وأطراف النهار: محمد حسنين هيكل. وخريف البطريرك، لجارثيا ماركيز. أديب نوبل فى أمريكا اللاتينية. والذى حصل عليها قبل مبدعنا الكبير بثلاث سنوات.

وهكذا جمعت بينهما الجائزة الفريدة. وأيضاً زوجة ماركيز: مرسيدس - وهذا هو اسمها - ولدت فى أمريكا اللاتينية لأسرة هاجرت إلى هناك من بورسعيد المصرية. ورغم هذه المصاهرة والنسب لم نتمكن من استضافة ماركيز فى بلادنا. التى لا حد لجمالها. والأسباب كثيرة.

ورغم أن الخريف فصل الجمال المنسى. فإن معظم الأدباء الكبار تركوا لنا فى يومياتهم ومذكراتهم وتأملاتهم ما يقطع بأن الخريف حسب توقيتات بلد هذا المبدع أو ذاك هو فصل الكتابة والإبداع. ما إن ينتهى حضوره الصامت وجماله الذى يتسلل إلى النفس حتى يستعد الإنسان لكى يبدأ البيات الشتوى.

لكل منا فصله الذى يحبه ويعشقه. بل يفضله على باقى فصول السنة. ولكل إنسان من الأسباب والمبررات ما يدفعه لذلك. وكونى خَرِيفىّ الهوى. فهذا لا يمنع أن أجد فى الفصول الثلاثة الأخرى بعض المزايا والجمال. وأحاول التأقلم مع ما فى هذا الفصل أو ذاك من مزايا. وأتجنب ما يطرحه علينا من عيوب. وأقول لنفسى فى كل الأحوال إنها إرادة الله سبحانه وتعالى منذ قديم الأزل وحتى آخر لحظة فى الدنيا.

ومن المؤكد أن لكل منا فصله الذى يحبه. ويستمتع به. ويراه أفضل بكثير من فصول السنة الأخرى. وأنا أكتب هذا الكلام موهماً نفسى أننا ننظر إلى الصيف مستعجلين نهايته لكى نُلوِّح له بمناديل الوداع. ونقول له: إلى اللقاء فى العام القادم إن كانت فى العمر بقية. لكنى مضطر أن أعترف - والاعتراف سيد الأدلة - أننى خريفى الهوى.

- مذبحة الأكشاك الصحفية:
أعترف أن ما يجرى فى مدينة نصر الآن يوشك أن يكون إعادة بناء لها من أول وجديد. لدرجة أننى أقول عنها مدينة نصر الجديدة. وأنا سعيد بأن كل شبر من الأرض فيه إنشاءات وحفر وبناء. بل إننى لا أُبالغ عندما أقول أن ملامح الشوارع والميادين تتغير. تودع شكلها القديم منتظرة ما سيستجد عليها بعد التطوير الشامل الذى يتم.

لكن - وآه من لكن هذه - لكل جانب مشرق ما يمكن أن نراه غير ذلك. وبالنسبة لشارع الطيران، وشارع يوسف عباس، وهما من شوارع مدينة نصر الرئيسية. بل ويُعدان أقدم شارعين فيها. وعندما كنت أتمشى فى شارع الطيران كانت تسعدنى بلا حدود أكشاك الصحف والمجلات والكتب.

أزيلت الأكشاك فى عملية التجديد. إما بسبب الكبارى التى أُنشئت وما أكثرها أو ربما بسبب التخطيطات الجديدة. أعرف أن إرضاء الناس - كل الناس - غاية مستحيلة التحقيق. ورغم سعادتى بكل هذا التطوير الذى انتظرته مدينة نصر طويلاً. إلا أننى أتمنى لو وجدنا مرة أخرى أكشاك الصحف والجرائد والكتب والمجلات. فوجودها يسهل وصول الجريدة والمجلة والكتاب للقارئ العادى الذى ربما لا يجد وقتاً للذهاب إلى مكتبة هنا أو هناك.
فضلاً عن أن الكلمة المطبوعة قد تنير عقل من يقرأها. ومصر الآن فيما تتعرض له من حروب قوى الظلام والشر والبغى والتطرف والعدوان فى أمس الحاجة لأن يكون إبنها البار على دراية بما يجرى. فهو رصيد الأمة وزادها وزوادها.

لا أعرف من نخاطب. فالشركات التى تطور الحى تقوم بعمل سرعان ما تمضى لحال سبيلها. فهل أوجه رجائى لرؤساء أحياء مدينة نصر بأن يعتبروا أن أكشاك ولأتخلى عن كلمة أكشاك وأقول المكتبات المتنقلة التى نشترى منها الصحف والمجلات والجرائد. نحن سكان مدينة نصر فى أمس الحاجة إلى عودتها مرة أخرى.

- المقاهى الثقافية الغائبة:
اعتراف مبدئى لا بد منه. ولا مفر من البدء بكتابته. فأنا - وأعوذ بالله من كلمة أنا - لست مريضاً بالنوستالجيا. ولا أعانى من حالة حنين للماضى تمنعنى من رؤية ما يتم فى الحاضر. ولست من الذين يرون أن ما مضى هو جنتنا المفقودة. وأن حاضرنا إن لم أجد فيه ما أبحث عنه أُركز على ما لا أجده. وهذا خطأ لأن ما هو ماثل أمامى أكثر من الكثير.

أكتب عن المقاهى الثقافية. التى كانت تملأ القاهرة. وتنتشر فى كل المدن. وقد حلمت ذات مرة أن تصل للقرية. رغم أن القرية لم تعرف لا تجربة المطعم ولا شكل المقهى. هذا على الأقل فى الفترة التى كنت أعيش فيها فى قريتى. لكن ثبات الحال على ما هو عليه من رابع المستحيلات.

ومثلما كانت أحياء المدن تمتلئ بالمقاهى الثقافية. أبحث الآن ولا أجد. وأنا أقصد بالمقهى الثقافى المقهى العام الذى يتردد عليه زبائنه. لكن فيه ركن أو جزء يجتمع فيه عدد من المثقفين لمناقشة قضايا بلادهم. ولكى يتلو بعضهم آخر ما كَتب ويستمع إليه الآخرون. ويبدأ نقاش لا ينتهى حول الكتابة والإبداع والثقافة.

كان لدينا مقهى الفيشاوى فى سيدنا الحسين. وعرابى فى العباسية. وريش فى قلب القاهرة. بل إن كازينوهات الزمن القديم كانت تقتطع جزءاً نجلس فيه لنقرأ ولنتناقش ولنتكلم. ولعل أشهرها كازينو قصر النيل. كل هذا أصبح يذكر فعل الماضى التام. ولا أعرف كيف نستعيده مرة أخرى. هل هى مشكلة أصحاب المقاهى؟ أم أزمة المثقفين؟ أم يكمن جوهر المسألة فى المجتمع الكبير الذى نعيش فيه جميعاً؟.

وإلى أن نستعيد ما مضى. مع أن مهمتنا الأساسية يجب أن تكون أن نحلم بما هو آت. وأن نرسم صوره كما نراه فى أحلامنا. فإنى أعتقد أن نوادى الأدباء مثل جمعية الأدباء، ونادى القصة، ودار الأدباء، يمكن أن تسد هذا الفراغ وتلعب هذا الدور. المهم أن تطل علينا وأن تفتح أبوابها وأن تضاء أنوارها وأن تقول لنا أهلاً وسهلاً.

لا تنسى أننى أكتب عن القاهرة. ولا تسأل نفسك وماذا عن المدن الأخرى؟ ماذا عن الإسكندرية وأسيوط وأسوان؟ أما البنادر الصغيرة والقرى فأكتفى بالحلم. مع أنه قد يكون أضعف الإيمان.

- خير جليس:
لا حياة بدون كتاب. ولا منزل يخلو من الكتب. لن أتحدث عن غرفة مكتب. ولكن يكفى فى أى ركن من البيت دولاب صغير فيه بعض الكتب. وفائدته ستعود على كل سكان البيت. من الكبير للأوسط للصغير. لا أجازف وأتحدث عن بيوت دخلتها. فأنا لا أتردد إلا على بيوت الأهل وبعض الأصدقاء. ولكن مما أسمعه وأشاهده أكتشف أن مكتبة البيت ربما تراجعت من حياتنا. مع أن القراءة سلاح مصر الأساسى هنا والآن. هذه مسألة الناس وقضيتهم. ولا أريد أن أعوم فى بحار المبالغة. فشقق هذه الأيام من الصعب وصفها. وقد لا تكفى للحياة فيها بالكاد. فكيف آتى الآن وأتكلم عن ركن للكتب فى البيت؟ وإن وجد هذا الركن وهو مجرد حلم من الأحلام. فهل ألقينا نظرة على أسعار الكتب؟ إبتداء من المطبوعة فى مصر. ولن أحلم بالآتية إلينا من خارج البلاد.

أعرف أن من يريد يقرأ سيقرأ. وأن ما أثيره من قضايا وهموم ربما لا يوجد فى أرض الواقع. ولن أتكلم عن العائلات القديمة. تعالوا نحصر المسألة فى العائلات الجديدة يؤسسها ويبنيها شباب مثل الورد. وهم نواة المجتمع القادم. فكيف يدركون جميعاً أو يدرك البعض منهم أن مكتبة فى البيت لا تقل أهمية عن وجود المطبخ؟.

- «إنت أهلاوى ولا  زملكاوى »:
يقع النادى الأهلى بمدينة نصر بالقرب من بيتى. قال لى فتحى غانم أن ميزة النادى أن تصل إليه على قدميك. إذا استخدمت سيارة فى الذهاب إليه لم يصبح نادياً. ومع هذا عندما كنت أذهب- قبل إغلاق النوادى بسبب الكورونا - لا أتردد سوى على المكتبتين: مكتبة الإستعارة ومكتبة البيع.

بعد عضويتى بمجلس النواب منحنى زميلى مرتضى منصور عضوية فى نادى الزمالك. شكرته. وخجلت أن أحدثه عن بُعد النادى. وكنت أتمنى الذهاب إليه. أتابع أخبار النادى. وبحب نشأة الستينيات فربما كان الأهلى يعنى الأهل. أما الزمالك فهو حى أغنياء أهل مصر. أحسد من يحرصون على الذهاب إلى النادى كل صباح. وهم يتجهون إلى ملاعب الهواء الطلق المفتوح. وليس للأماكن المغلقة مثلى.

- قالـــــوا:
- أحب النساء اللاتى إن خلعن ثيابهن لم يصبحن عرايا.
إمرؤ القيس
- لا أحب كل ما عندى، ولكن عندى كل ما أحب.
النابغة الزبيانى