يوميات الأخبار

سنوات فى «بيت العرب»

 أسامة عجاج
أسامة عجاج

كم تمنيت أن تكون مناسبة الاحتفال بالعيد الماسى لإنشاء الجامعة العربية، فرصة لمؤتمر يشارك فيه مفكرون عرب وسياسيون سابقون، لتدارس وضعها الآن بعد مرور ٧٥ عامًا على إنشائها.

عندما يرتبط مبنى بسنوات تتجاوز نصف عمرك، فهو يمثل لك أهمية استثنائية، لأنه وببساطة يصبح جزءا من تاريخك، هذا هو الحال مع مبنى الأمانة العامة للجامعة العربية، القابع فى ميدان التحرير، فقد دخلته للمرة الأولى عام ١٩٨٩،عندما امر الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك بإعادة تجهيزه من جديد، وترميمه؛ لاستقبال القادة العرب فى اول قمة عربية، تتم فى عهده بعد ان نجح بسياساته المسئولة - وهذه شهادة حق للتاريخ - فى دفع القادة العرب فى قمة الدار البيضاء بالمغرب، إلى اعادة النظر فى قرارهم بتجميد عضوية مصر فى الجامعة.. يومها ذهبت إلى المبنى لإعداد تحقيق عن تنفيذ أمر مبارك، وحتى أسابيع قليلة تابعت مئات الاجتماعات العربية لوزراء الخارجية والإعلام، ولقاءات عديدة خاصة وعامة مع الأمناء العامين، وكبار المسئولين فى المبنى العتيق، وخلال تلك الفترة اقتربت من الأمناء العامين الأربعة، ولى مع أكثرهم علاقات وثيقة وذكريات طيبة.
بداية التصحيح
والعجيب فى الأمر أن اقترابى من العمل العربى المشترك الذى تجسده الجامعة العربية، بدأ قبل ذلك بسنوات، وتحديدًا بمشاركتى فى التغطية الصحفية لقمة عمان بالأردن 1987، يومها لم يكن هناك أصلا مشاركة مصرية، ولكن قراءتى للمشهد العربى ومتابعتي كانت تشير إلى أن القمة على موعد مع قرار مهم يخص مصر، وبالفعل انتهى المؤتمر بقرار تاريخى نص على اعتبار المقاطعة لمصر من "أعمال السيادة"، وبالتالى فهى مسألة تخص كل دولة وبموجب دستوريتها وقوانينها وكانت هذه إحدى خطوات علاج الأزمة الأولى للجامعة، بدأت بعد توقيع الرئيس الراحل محمد انور السادات لاتفاقية كامب ديفيد، حيث دعى العراق إلى قمة فى بغداد، للنظر فى الموقف من خطوة السادات، وقام بإعداد مسودة القرار وزير الخارجية العراقى سعدون حمادي، حيث تضمن القرار طرد مصر من الجامعة العربية، باعتبارها العقوبة الوحيدة فى الميثاق، وأثناء نظر المسودة أمام القادة، طرح الملك حسين ملك الأردن سؤالا أربك حسابات الجميع، قائلا «هل نطرد ثلث الأمة العربية»، فاقترح فكرة تجميد العضوية، فوافق الجميع حيث تدخل محمود رياض وكان أمينًا عامًا للجامعة معترضًا، على مخالفة ميثاق الجامعة والإجراءات التى تمت وغادر القاعة، ولم تنته أزمات الاجتماع فكان هناك نص فى مسودة القرار، يربط التجميد أو الطرد بإلغاء مصر للاتفاقية، فغير القادة النص إلى «حين تغير الظروف التى اقتضت ذلك».
 استعادة العضوية
ولم تمر سوى عشر سنوات فقط، وتغيرت الظروف فى قمة الدار البيضاء بالمغرب، وكانت فى مايو ١٩٨٩، وجنى حسنى مبارك ثمار ما صنعه منذ ان تولى الرئاسة بعد اغتيال السادات فى اكتوبر ١٩٨١، وتم الاتفاق على مشاركة الرئيس مبارك فى أعمال القمة فى اليوم التالى لانعقادها، مع مناقشة الموضوع فى أعمال اليوم الأول، وخرج قرار القادة بالترحيب باستئناف جمهورية مصر العربية لعضويتها فى الجامعة وشارك مبارك فى الاجتماع، بما يتناسب مع قيمة مصر ودورها التاريخى فى المنظومة العربية.
لا أذكر اننى تعاملت مع الشاذلى القليبى الأمين العام فى ذلك الوقت،فلم يمارس عمله من المقر فى القاهرة، الا انه ادار من منصبه اجتماعات وزراء الخارجية العرب، والتى انعقدت فى احد فنادق القاهرة القريبة من مبنى الجامعة العربية، فى الأسبوع الأول من اغسطس ١٩٩٠، وكانت بداية الأزمة الثانية أو الزلزال الجديد فى العمل العربى المشترك، والذى خصص لمناقشة الموقف العربى من الغزو العراقى للكويت، ولعل البداية الحقيقية فى الاقتراب المباشر والمداومة المستمرة على تغطية أعمال الجامعة العربية،مع تولى الدكتور عصمت عبدالمجيد للمنصب، وقد عرفت الرجل قبلها بسنوات عندما اجريت معه حوارًا، عندما كان نائبًا لرئيس الوزراء ووزير الخارجية، وقد رافقته فى رحلات خاصة إلى بغداد فى زمن الرئيس صدام حسين، وبيروت ودمشق وغيرها، والى ليبيا وهى زيارة استثنائية، حيث سفرنا بطائرة خاصة، وكنا ستة أفراد اثنين من مكتبه وثلاثة صحفيين، وحطت بنا الطائرة إلى مطار جربة فى جنوب تونس، ومنها بسيارات المراسم الخاصة بالقيادة الليبية حتى طرابلس، وحضرنا الجلسات المغلقة، والتقينا بالزعيم الليبى معمر القذافي، وبكل المقاييس فقد تولى الرجل المنصب فى ثانى اخطر أزمة واجهت الجامعة العربية والمنطقة كجزء من تبعات الغزو العراقى للكويت وتحريرها،  ولكن الرجل وكان صاحب باع طويل فى الدبلوماسية الهادئة، استطاع العبور بالجامعة إلى بر الأمان، وسعى إلى تحقيق الشعار الذى رفعه لإنهاء حالة الانقسام العربى بعد الغزو «المصارحة قبل المصالحة»، وأشهد للرجل انه لم ينحاز فى تلك الأزمة سوى للحق والعدل، دون ان يكون مع هذا الطرف أو ضد الآخر، وهو ما وافقنى عليه الدكتور نبيل نجم مندوب العراق، بعد الغزو وأحد الذين لعبوا دورا مهما فى تلك الفترة فى لقاء اخير لى معه منذ أسابيع.
عمرو موسى صاحب المبادرات
لم يختلف الأمر مع عمرو مرسي، عندما جاء إلى رئاسة الأمانة العامة للجامعة العربية، وقد سبق لى ان تعرفت عليه وحاورته عندما كان مساعدًا للوزير لشئون الهيئات الدولية فى مكتبه بمبنى الخارجية فى الجيزة،وقد جاء وهو يدرك بحكم عمله السابق، حجم التناقضات فى المواقف العربية، وتعددت اللقاءات ومهمات السفر مع عمرو موسي، فى العديد من المناسبات والقمم العربية، ومن أهمها زيارتان للعراق الأولى قبل الغزو الأمريكى للعراق بأسابيع، لتحذير صدام حسين بخطورة القادم،والثانية فى يناير ٢٠١١ قبل أيام من ثورة ٢٥ يناير وتوالى ثورات الربيع.
وتميزت فترتى عمرو موسى بأنها زمن المبادرات الخلاقة، وأتوقف عند مبادرة قمة تونس ٢٠٠٤، حيث تم إقرار وثيقتين الأولى «العهد والتضامن» والخاصة بتطوير آليات العمل فى الجامعة ومؤسساتها، والثانية «التحديث والتطوير» والتى كانت ردًا على رؤية امريكا لتطوير المنطقة تحت مشروع الشرق الأوسط الكبير، أما المبادرة الثانية فكانت إقامة رابطة دول الجوار، وتتلخص فى منظومة تضم الدول العربية ككتلة واحدة، مع دول الجوار، خاصة إيران وتركيا وبعض دول إفريقيا المتاخمة، وفى المقدمة إثيوبيا ودول من جنوب أوروبا، والتى تم إجهاضها فى قمة سرت فى سبتمبر ٢٠١٠.
 مرحلة السيولة
انتهت فترتا عمرو موسى وأصبحت الجامعة على أبواب مرحلة جديدة، بعد ان تأثرت بثورات الربيع العربى، التى خلقت حالة من السيولة فى العمل العربى المشترك، خاصة بعد ان تم تجميد عضوية ليبيا، وبعدها بأشهر لحقتها سوريا، ودخل مبنى الأمانة العامة العريق شخصيات معارضة للأنظمة، فى هذا التوقيت تم التوافق على اختيار الدكتور نبيل العربى أمينًا عامًا للجامعة العربية، بعد معركة غير معهودة،فقد جرى العرف على ان يكون الأمين العام من دولة المقر، وكانت المفاجأة ان هناك مرشحين للمنصب لأول مرة،الدكتور مصطفى الفقى دون ان يكون مرشحا رسميا لمصر، فى ظل حالة الارتباك العارمة فى مرحلة ما بعد ثورة يناير ٢٠١١،كما انه ليس عضوا فى نادى وزراء الخارجية، المصدر الوحيد لمنصب الأمين العام، أما المرشح الثانى فكان عبدالرحمن العطية القطرى، واستمر الحال حتى جلسة التصويت وفى الجلسة تم الاتفاق على سحب المترشحين، وتقدم مصر وزير خارجيتها فى ذلك التوقيت نبيل العربي، ومرت الجلسة بسلام واستطاع الدكتور العربى بما يملك من قدرات دبلوماسية عالية، وخبرات قانونية بحكم عمله طويلا فى الإدارة القانونية، ان يمر بالجامعة إلى بر السلام، لتنتهى حالة السيولة فى العمل العربى المشترك، وإعادة التأكيد على انها جامعة حكومات، وتعبير عن العمل العربى الرسمي، وللتاريخ حاول الدكتور نبيل العربى فى العديد من الملفات العربية، خاصة فى سوريا وليبيا بحثا عن حلول عربية لها، ولكن الأوضاع كانت صعبة، ويكفى للتدليل على ذلك ضياع فرصة حقيقية للتقدم عمل عليها كثيرا، وهى تشكيل القوة العربية المشتركة التى تم الموافقة عليها فى قمة شرم الشيخ فى مارس ٢٠١٥، تم تأجيل الأمر، لأسباب يطول شرحها، ليس هذا مجال الخوض فيها، وان كانت ستمثل نقلة مهمة فى العمل العربى المشترك.
وعادت مصر من جديد إلى نادى وزراء الخارجية، لاختيار أمين عام جديد، بعد ابداء نبيل العربى رغبته فى عدم التجديد، فلم يكن هناك أفضل من احمد أبو الغيط الذى انهى مهمته كوزير للخارجية فى عام ٢٠١١، ولكنه لم يغب عن المشهد السياسى والإعلامي، محتفظا بوجهة نظره فى التبعات الكارثية لثورات الربيع العربي، وراءه تاريخ طويل من العمل فى الدائرة الضيقة لصنع القرار، منذ التحاقه بالعمل فى الخارجية المصرية فى ستينيات القرن الماضى، ومذكراته «شاهد على الحرب والسلام» وكتابه «شهادتي» خير دليل على ذلك، وتشهد من خلال عمله انه من مدرسة الدبلوماسية الهادئة، كجزء من طبيعته وسماته الشخصية،يختار تصريحاته بعناية شديدة، والخلاصة انه اختيار مصرى خالص،عزز دور الجامعة فى مواجهة حملات بعضها دولي، لتهميش وجودها خاصة فى الأزمات العربية.
نبوءة أديب
علاقتى بالأدب هو الاستمتاع بالقراءة فقط،ولكن الزميل على حلبى الصحفى النابه والأديب المتميز، أضاف لى بعدا جديدا عندما فاجأنى بإنجازه روايته الثانية «زحام الموت»،  وكان ذلك منذ عدة اشهر، عندما التقينا فى مكتبي، مستمعا إليه فى دهشة واعجاب، وهو يتحدث عن وقائع روايته التى تحكى عن عالم ما بعد الصراعات الكبرى، ومصير العالم نتيجة ذلك، وجهود وعلاقات مجموعة محدودة استطاعت الفرار من الموت، وتصارع من اجل البقاء،  تكرر مشهد الحوار مع الأديب على حلبى مرتين،الأولى عندما تحاورنا كثيرا عن التفاصيل الخاصة بتنظيم داعش،وطبيعة أعضائه وسلوكياتهم، وأساليب التجنيد، وكان هذا موضوع روايته الأولى «بوكا» أما فى روايته «زحام الموت»خرج الأديب على حلبى من استقراء الواقع برؤية أدبية، إلى استشراف المستقبل، فبعد أسابيع قليلة من صدور الرواية، عاش العالم نفس الظروف بكل التفاصيل التى تحدث عنها على حلبي، وهو حالة الشعور بنهاية العالم بالفيروس، الذى سيقضى على جل مظاهر الحياة، وينهى حياة الملايين مع حالة الرعب العام من فيروس كورونا المستجد، ولعل هذا هو مكمن عبقرية على حلبي،و تميزه كأديب، فهو صاحب نبوءة، سعادتى الشخصية لا توصف مع النجاح المبهر لمولد على حلبى الثاني، الذى يقول، نحن أمام مشروع أديب كبير، فانتظروه.

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي