.. وكم من نظم سقطت لأنها صادرت الحريات واستبعدت المعارضة.. ولم تفهم توق شعوبها للديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية إلا بعد فوات الأوان.

لو قلتُ إن الصحافة المصرية تعيش أزمة خطيرة تصل حد «الموت السريري» لرماني البعض بالمبالغة وتضخيم الأمور..ولكنها الحقيقة المُرة التي يتعين أن يُدركها مَن يعنيهم الأمر..والخطر لا يتعلق فقط بأزمة اقتحام النقابة من قِبل عناصر أمنية في سقطة غير مسبوقة..وإنما يشمل الأوضاع المالية والإدارية والهيكلية للمؤسسات الصحفية القومية والحزبية والخاصة..فما لا يعلمه الكثيرون أن معظم هذه المؤسسات توشك علي الإفلاس والانهيار نتيجة عوامل كثيرة يطول شرحها..والمؤكد أن الهجمة المنظمة الحالية لتشويه وشيطنة الصحافة والصحفيين ستزيد الطين بلة وتُعجِل بدفع المهنة إلي نفق مظلم بلا ضوء في نهايته..والغريب أن بعض من يقودون الحملة ينتسبون للمهنة التي كانت سبباً في شهرتهم وثرائهم الواسع أو مِمَن ساهمت الصحافة في نجوميتهم ورفعهم إلي مكانة ليسوا جديرين بها.
الصحافة هي صوت الشعب صاحب السلطة الأعلي، وهي أداته في المحاسبة والرقابة علي كل السلطات ومِن هنا جاءت تسميتها «السلطة الرابعة»..ولو حوصرت الصحافة أو فقدت حريتها فقل علي الدنيا السلام..لن يجد المواطنون مَن يدافع عن حقهم في الحياة الكريمة والسكن والصحة والتعليم الجيد وسيفقد الغلابة والمظلومون سندهم الأوحد..وينعم الفاسدون واللصوص بما سرقوا ونُصبِح مثل كوريا الشمالية أو مثل النظام القمعي الكريه الذي صوره جورج اورويل في روايته الرائعة «1984» حيث لا كلمة إلا «للأخ الأكبر» ولا وجود سياسياً إلا للحزب الأوحد ولا صوت إلا لصحيفته الرسمية التي لا تنشر إلا بيانات النظام وتعليماته للحفاظ علي الأمن والاستقرار ومواجهة أعداء الخارج وأشرار الداخل.
فقط أرجو من شعبنا الطيب ألا يصدق مَن يحاولون تشويه الصحفيين ويعتبرونهم من المغضوب عليهم والضالين ويروجون الأكاذيب حول رواتبهم وثرواتهم..فالصحفيون ككل فئات المجتمع فيهم الصالح وفيهم الطالح، ولكن الأغلبية الساحقة مواطنون عاديون «أغلب من الغُلب» ويعانون الأمرين، وربما يتعرضون للضرب والموت من أجل الحصول علي خبر أو صورة تُشبِع فضول القراء وتؤَمِنُ حقهم في المعرفة..ناهيك عن أنهم في المرتبة 33 علي لائحة الأجور!!..أما أبناء المهنة الذين يهاجمون زملاءهم ويتجسسون عليهم فهم خدم كل الأنظمة وأتحدي أياً منهم أن يكشف عن أرصدته في البنوك!!..
مشكلة أي نظام ديكتاتوري مع الصحافة تتمثل في أنه يريدها مجرد محظية وسط حريمه..تسمع كلام سيدها فقط وتلهج بالثناء علي حسناته وإنجازاته آناء الليل وأطراف النهار.. وذلك حكم بالإعدام علي «السُلطة الرابعة» التي لا تحيا إلا بالحرية والتعددية واحترام الرأي الآخر..والفارق الجوهري بين النظم القمعية المستبدة ونظيرتها الديمقراطية هو احترام حرية الرأي والتعبير..وكم من نظم سقطت لأنها صادرت الحريات واستبعدت المعارضة من اللعبة السياسية ولم تفهم توق شعوبها للديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية إلا بعد فوات الأوان.
بقيت نقطة أخيرة هي أن الصحافة انتصرت لحريتها في كل المعارك التي واجهتها حتي وهي في أضعف حالاتها..ولم يسبق أن نجح نظام في قمع الصحفيين أو تكميم أفواههم..ذهب كل الطغاة وبقيت الأقلام حرة ومشرعة..ومن يشك في ذلك عليه أن يقرأ كتاب «الصحافة والحكم» لأستاذنا محمد العزبي الذي يعرض بأسلوبه الممتع محاولات السلطة «لتركيع» الصحافة!!..فضلاً عن أن حكم التاريخ سيكون قاسياً علي كل من يخون المهنة ويشي بزملائه لدي السلطات..وفي الكتاب حكاية شهيرة يعرفها الصحفيون نقلاً عن الراحل الكبير أحمد بهاء الدين الذي سأل وزير الداخلية الراحل ممدوح سالم «لماذا تعتمد أجهزة الأمن علي تقارير يقدمها صحفيون من أسوأ نوعيات البشر»؟!!.. فأجابه علي الفور «إيدي علي إيدك..هاتلي صحفي ابن ناس وموهوب يرضي يشتغل مخبر أو ناضورجي»؟!!..