لبنان ..دولة الفسيفساء !!!

د. غسان محمد عسيلان
د. غسان محمد عسيلان

بقلم/ د. غسان محمد عسيلان

من يطلع على التاريخ السياسى والتكوين الاجتماعى للدولة اللبنانية يدرك أنها خليطٌ من الأعراق والأديان والطوائف والمذاهب؛ إذ يوجد على أرض لبنان نحو 18 طائفة ومذهبا، وفى مرحلةٍ ما من التاريخ اللبنانى كان هذا التنوع عاملًا من أهم عوامل الإثراء الفكرى والثقافى والحضارى اللبناني، لكن بكل أسف أصبح هذا التنوع نِقمة على لبنان وأهله، وتحوَل إلى عامل فُرقة وانقسام بسبب التعصب الطائفى والأحقاد الدينية والصراعات المذهبية، ودُفِعَ البلد بسبب هذا التعصب الأعمى إلى خوض حروبٍ ومذابح طائفية أهلكت الحرث والنسل، وعانى منها اللبنانيون عقودًا من الزمن، ومن أشهر هذه الحروب المدمرة التى خاضها لبنان الحرب الأهلية التى اندلعت عام 1975م، واستمرت لمدة خمسة عشر عامًا، وكانت حربًا مدمرة أكلت الأخضر واليابس، وحوَّلت لبنان إلى دولة كوارث، وجعلت الشعب اللبنانى شعبًا فقيرًا بائسًا ظل سنوات طويلة يعانى الفقر والجوع والقهر والحرمان.
وانطفأت نيران الحرب الأهلية اللبنانية فى 30سبتمبر عام 1989م، وتم توقيع اتفاق الطائف أو ما يُعرف بوثيقة «الوفاق الوطنى اللبناني» والتى نصت على تقاسم السلطة بين المسيحيين والمسلمين على أساس التعايش السلمى والمحاصصة السياسية بين جميع الطوائف اللبنانية.
وكان لاتفاق الطائف عواقب سياسية واجتماعية واقتصادية كثيرة تولَّدت نتيجةً للممارسات السياسيّة التى أعقبت توقيع الاتفاق، فبدلًا من تكريس فكرة الدولة اللبنانية الواحدة القوية بجيشها ومؤسساتها وانصهار شعبها فى بوتقة واحدة، تم تكريس الوضع الطائفى من خلال تكريس زعامات سياسيّة تنتمى للطوائف والمذاهب اللبنانية وتحرص كل طائفة على تقوية نفسها على حساب الوطن اللبنانى والجسد الواحد واللُّحمة الواحدة، وللأسف الشديد أصبحت لبنان موقعًا متقدمًا للصراعات الإقليمية وساحةً للحرب بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية التى تتصارع على الأرض اللبنانية بغض النظر عن مصالح لبنان ومصالح شعبه وأجياله الجديدة، ومع مرور الزمن ترسَخ ح`كم الطوائف الذى يتحكّم فى البلاد والعباد فوق الأرض اللبنانية.
ومنذ توقيع اتفاق الطائف بوساطة سعودية وحتى الآن والطبقة السياسية الحاكمة فى لبنان تُخفق فى إخراجه من دولة الفسيفساء وتحويله إلى دولة المؤسسات، بل حتى المحاصصة السياسية على الأسس الطائفية والمذهبية تم عرقلتها وتعطيلها من قِبل حزب الله الذى يتحالف مع إيران، ويحتفظ بجيشه ومليشياته العسكرية وترسانة غير قليلة من الأسلحة تجعله يتفوق على الجيش اللبنانى الرسمى فى الدولة، وتم رهن عملية صناعة القرار الوطنى اللبنانى برغبة الطوائف والمذاهب اللبنانية التى تتعارض ارتباطاتها وولاءاتها للقوى الإقليمية والدولية بحسب الدعم الممنوح لكل طائفة، بل صار القرار اللبنانى الوطنى عابرًا للطوائف والمكونات اللبنانية وأكثر ارتباطًا بالقوى الإقليمية والدولية التى تؤثر بقوة فى الساحة اللبنانية وخصوصًا إيران وفرنسا.
ونتيجةً لتمترس النخب السياسية اللبنانية خلف الطوائف أدَّى ذلك إلى تضخم غول الفساد السياسي، وتدهورت الخدمات الأساسية فى البلد كالكهرباء وماء الشرب، بل وحتى فشل التخلص من القمامة بالطرق الآمنة، وبسبب تفشى الفساد السياسى والاقتصادى فى جميع مرافق الدولة اللبنانية انتشر الفقر والمرض والجهل والجوع بين قطاعات واسعة من الشعب اللبناني، وأصيبت الدولة اللبنانية بالشلل التام، وتيبَّست مفاصلها الحيوية بسبب تمترس النخب السياسية الحاكمة خلف الطائفية، وحرْصِ المتنفذين فى هذه النخب على مصالحهم الشخصية والعائلية على حساب مصالح الشعب اللبناني، ومن هنا نرى استمرار التعثر فى مشروع التعايش والتوافق السياسى بين جميع أطياف الشعب اللبناني.
لقد كشفت تفجيرات مرفأ بيروت الأخيرة عن تدهور مشروع الدولة اللبنانية القوية لحساب مشروع دولة الفسيفساء ليبقى لبنان دولةً هشة إرادتها السياسية مرهونة بإرادة الطوائف والمذاهب التى تتلاعب بها القوى الإقليمية والدولية، ومن الواضح أن الطائفية السياسية التى تتحكم فى القرار السياسى اللبنانى هى العامل الأبرز فيما نراه من استعصاء سياسى دائم وتأزيم مستمر لمختلف الأوضاع فى هذا البلد المنكوب بطائفيته ونخبه السياسية التى لا تكف عن الاستقواء بالطوائف وهذا ما يدفع الفسيفساء اللبنانى باستمرار إلى مستنقع خطير وجحيم دائم لا تكاد تنطفئ حرائقه!
إن مشاهد تعاطف الشعوب العربية بل وكل شعوب العالم مع أهل لبنان بعد هذا الدمار المروِّع الذى خلَّفه انفجار مرفأ بيروت لتؤكد على مكانة لبنان فى قلوب محبيه حول العالم، فالجميع يحب الخير والسلام والنهوض والتطور لهذا الشعب العربى لترجع بيروت كما كانت باريس الشرق ورمز نهضته الفكرية والثقافية والإعلامية... فهل هذا أمر صعب أوحلم مستحيل بعيد المنال؟!! الإجابة عند أبناء الشعب اللبنانى وحده وخصوصًا الشباب من جميع الطوائف والمذاهب فليس بمنطقى أبدًا أن تظل الإرادة اللبنانية مرهونة لأحد فى الشرق أو فى الغرب؛ إذ يجب أن يمتلكها الشعب اللبنانى وحده بكل فصائله ومكوِّناته .