من دفتر الأحوال

اقتراح «أرثر ميللر»

جمال فهمى
جمال فهمى

«المكارثية»، هل تعرفها؟! إنها عنوان واحدة من الحكايات المحزنة فى التاريخ الإنسانى الحديث.. اسمها مشتق من اسم نائب فى الكونجرس الأمريكى يدعى جوزيف مكارثى، أما مختصر حكاية هذا الرجل الذى تخلد اسمه وصار اشتقاقه تعبيرا دالا على أبشع وأحط ممارسات الإرهاب الفكرى والتفتيش فى ضمائر خلق الله، فهى تعود إلى نهاية أربعينات القرن الماضى حين استلم مكارثى هذا راية الإرهاب وتفتيش الضمائر من سلفه وأستاذه السيناتور «بارنيل توماس» الذى كان بدوره قد أسس وترأس فى العام 1947 لجنة نيابية سماها «لجنة النشاطات المعادية لأمريكا» لاحقت بالعقاب والتنكيل العشرات من أكبر الكتاب والفنانين والمبدعين الأمريكيين بتهمة اعتناق الأفكارالشيوعية، لكن التلميذ سرعان ما تفوق على الأستاذ ونسى الناس جرائم وفضائح «التوماسية» (نسبة للسيد توماس) بعدما كابدوا فضائح وفظائع أكثر فحشا وأشد قسوة اقترفتها لجنة مكارثى.
هذه اللجنة المشئومة يكفى للدلالة على بشاعة المناخ المسموم الذى أثقلت به أجواء المجتمع الأمريكى منذ نهاية الأربعينات حتى منتصف خمسينات القرن الماضى، ذكر بعض أسماء القامات الفكرية والإبداعية التى زينت القائمة الطويلة لضحاياها، إذ ضمت شخصيات بحجم ومكانة: شارلى شابلن، وبريتولد بريخت، وجريجورى بيك، وهمفرى بوجارت، وفرانك سيناترا، وجيمس ستيوارت، وجين كيلى، وريتا هيوارث، وآفا جاردنر، وأرثر ميللر!!
وعلى ذِكر «ميللر» الذى يعد واحدا من نخبة صناع أعظم إنتاج الأدب والمسرح الأمريكى، فقد عانى هذا الأديب الكبير، كما غيره، من الممارسات القمعية للجنة مكارثى، حتى أنها فى العام 1954 أمرت السلطات التنفيذية بمنعه من السفر إلى بلجيكا لحضور افتتاح عرض واحدة من مسرحياته.
ومع تصاعد وتفاقم ممارسات مكارثى ولجنته سيئة السمعة، كتب ارثر ميللر فى العام 1956 مقالا ساخرا وقويا جدا نشرته وقتها مجلة the nation قال فيه إنه: إذا استمر الوضع فى المجتمع الأمريكى على هذه الحال، وتسهيلا للأمر على السلطة، فلا مناص من اختراع نص قانونى (أو دستورى) يقضى بأن «يتقدم كل مواطن أمريكى يبلغ عمره الـ 18 عاما نفسه طوعا لأجهزة السلطة لكى تعتقله مرة كل عامين حتى تتأكد من وطنيته وتثق من أنه مواطن صالح بحق فلم يسبق له المشاركة فى نقاشات حول موضوعات تعتبرها السلطة مضرة بأمن أمريكا وتمثل خيانة، كما تتأكد أيضا من أن هذا المواطن لم يسبق له مجرد الاستماع إلى نقاشات من هذا النوع (وإن لم يشارك فيها)، وكذلك ألا يكون ممن جرى تسجيل اسمه فى سجلات أى من المكتبات العامة ولا اقترف فعل شراء كتاب من أى نوع، ولا يستثنى من هذا الحكم الواجب على كل مواطن أمريكى، إلا الأطفال والذين شاركوا فى الحرب الأهلية (التى انتهت منذ أكثر من قرنين!)، وكذلك المرضى نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية..
هكذا كتب ميللر متهكما، قبل أن تزال الغمة ويتم رفع ثقل لجنة «مكارثى» عن صدر المجتمع الأمريكى وينزل عقاب السماء على هذا السيناتور الشرير، إذ لم تمهله العدالة الإلهية حتى يموت ويذهب إلى الجحيم، وإنما وهو مازال على قيد الحياة، حلت عليه اللعنة نفسها التى أصابت من قبل أستاذه فى الإرهاب بارنيل توماس، فكما سقط هذا الأخير بعد إدانته بالفساد، جرت محاكمة جوزف مكارثى أيضا بتهمة التزوير والفساد فانتهى مدمنا على تعاطى المخدرات ومات وهو لم يبلغ بعد عتبة الخمسين عاما بعدما استقرت سيرته السوداء فى سلة زبالة التاريخ.