يوميات الأخبار

اليوم الأول فى مشوار الـ ٤٠ عاماً

علاء عبدالوهاب
علاء عبدالوهاب

الكبير لا يمكن أن يكون متجهماً، أو متعالياً، بل العكس، ثم أن المسئول ينصت بأكثر مما يتكلم،...، وأفقت على سقيع شديد، وصوت من يصحبنى  يقدمنى للشخص الوحيد فى المكان البارد!

السبت ٤ يوليو ٢٠٢٠
ياإلهى..
أربعون عاماً- بالتمام والكمال- مضت منذ خطوت عتبة دار أخبار اليوم، وكانت بداية رحلة ذات اتجاه واحد.
قدرت أن ثلاثين دقيقة- على الاكثر- تكفى لأصل إلى مقصدى، حرصاً على لقاء أظنه فاصلاً فى مشوار العمر، وبعد كل هذه الاعوام، لم يخب ظنى.
تاريخ اليوم محفور فى ذاكرتي: السبت ٥ يوليو ١٩٨٠.

يوم صيفى بامتياز، بلغت درجة حرارته ٤٥ مئوية، لكنها كانت برداً وسلاماً يملأ جوانحى! قبل عشر دقائق من الموعد المحدد كنت أقف أمام موظف الاستقبال، أبلغته أن ثمة موعداً مع الاستاذ موسى صبرى، أجرى اتصالاً سريعاً، ثم ارشدنى إلى مقصدى.

استقبلتنى مديرة المكتب مرحبة، ثم دعتنى للدخول.

العاشرة صباحاً: لقاء لا يُنسى
ثمة ابتسامة تكسو وجه الكاتب الكبير الذى يحتل مقعد رئيس مجلس الادارة، ورئاسة تحرير «الأخبار» كانت كفيلة بإزالة الحواجز منذ اللحظة الأولى. قدرت ان اللقاء لن يتجاوز دقائق معدودات، إلا أنه امتد إلى نحو الساعة!
لفت انتباهى أن الاستاذ موسى ينصت بأكثر مما يتحدث، يطرح سؤالاً، أو استفساراً، ثم يمنحنى الفرصة بما يتجاوز توقعى، ولايبدأ فى الكلام إلا إذا صمت، وكان ذلك مدهشاً لى، وربما قرأ الرجل بفراسة شديدة تميزه ما دار بذهنى،

فأجاب على سؤال لم أطرحه:
- كلامك فرصة للتعرف على كيف يفكر جيلكم عن قرب، ودون أى اعتبارات ربما تؤثر عليك عندما تصبح «واحد مننا».
استوقفنى التعبير، وتجرأت معقباً:
- أفهم أن حضرتك سوف تمنحنى فرصة للعمل بالدار.
عادت ذات الابتسامة التى استهل بها لقائى، ثم ضغط على حروف كلماته: من الآن أنت «تحت الاختبار»، وان تستمر أو تغادر يتوقف على أدائك، لا أحد سواك.
انتهى من عبارته، ثم استدعى بهاتفه سكرتير عام التحرير، واجرى تعارفاً سريعاً بيننا، وشد على يدى متمنياً التوفيق، مؤكداً أن مكتبه مفتوح دائماً.

سرت مع المسئول الذى سلمنى له متأملاً ما حدث؛ خلال ٦٠ دقيقة ثمة دروس مهمة؛ أولها أن الكبير لا يمكن أن يكون متجهماً، أو متعالياً، بل العكس، ثم ان المسئول ينصت بأكثر مما يتكلم، و..،... وأفقت على سقيع شديد، وصوت من يصحبنى يقدمنى الى الشخص الوحيد فى المكان البارد!

الحادية عشرة: صالة أم ثلاجة؟
غادر السكرتير العام سريعاً، ودعانى الزميل للجلوس أمامه، وسألنى عن المشروب الذى أفضله، ولم ينتظر إجابتى، والتفت إلى من أمره باحضار «اثنين حاجة ساقعة بسرعة»! ثم عاد لاستكمال ما كان ينجزه عند قدومى.
لزم الصمت حتى بدأ البعض فى التوافد، وكان يقدمنى لهم باعتبارى: فلان زميلنا الجديد.
كان التعريف يطربنى، وتفاوتت ردود الفعل من جانب كل وافد، ثمة ترحيب شديد من أحدهم، وهزة رأس مع تحفظ واضح من آخر، وتكرر الأمر، لكن ما كان يشغلنى حقاً اننى لم أعتد بعد مرور نحو ساعتين على البرودة الشديدة التى تلف المكان، إلا بعد أن استدارت الشمس لتخترق النوافذ الزجاجية التى تكسو صالة التحرير، فضلاً عن بدء ازدحامها بمن وافق موعد حضوره اختراق اشعة الشمس للمكان.

لكن ظل السؤال يتردد داخلي: هل دخلت صالة تحرير الأخبار أم ثلاجة لحفظ الأشياء مع زحف صيف قائظ؟!

الثانية ظهراً: إيقاع سريع
اختلف المشهد تماماً.
لامقعد خالياً، ولا أحد بين الحضور الكثيف لا ينكب على ما أمامه من أوراق.
أصبحت صالة التحرير أقرب إلى خلية نحل، وكأن الجميع فى سباق مع الزمن، ثمة ايقاع سريع يحكم الأداء، وفى تلك الاثناء وصل الاستاذ سعيد اسماعيل، ورغم أن ظهرى للداخل، فإننى أدركت أن من استقبلته الصالة شخص مهم من الحركة التى اعترت الجالسين.
إنه كبير المخرجين، ونبهنى احد الزملاء، فانتصبت واقفاً، وقدمنى اليه من استقبلنى قبل ثلاث ساعات.
كان باشاً ودوداً، رحب بى، ثم دعانى لانتقل للجلوس امامه، وتجاذب معى اطراف حديث مزج فيه بين الانسانى والمهنى.
ولا أنسى نصائحه الذهبية:  يا ابنى «نص العلام فرجة».. لا تتعجل الخبرة سوف تحصل عليها مادمت تحب المهنة، دع الأمور تنضج داخلك، وان تأخذ حقها حتى لا تكون كمن يحرث فى البحر، خد بالك الصحافة لاتحب ضرة، ولا تقبل شريكا و..و..
كانت صفحات العدد الجديد، الذى سيصدر صباح يوم الأحد تتدفق على مطبخ الجريدة، وفق نظام منضبط على مستوى المسئولية والتوقيت، وإذا ما تأخرت مادة صحفية تدق أجراس التنبيه أحياناً بنبرة هادئة، وأحياناً أخرى بحدة وصرامة، وفى كل الاحوال يرتفع صوت نائب رئيس التحرير أو الاستاذ سعيد: ياجماعة فى مواعيد طبع وتوزيع وسفر قطارات وطائرات، وطبعة ثانية،..،..، «وهَّم ما يتلم»!

الخامسة عصراً: عالم مسحور
فى هذا الوقت؛ كانت معظم صفحات العدد الجديد قد تم تصميم ماكيتاتها، وبدأت دورة أخرى من العمل، لتحويل كل ماكيت الى «فورمة» أو صفحة من سطور الرصاص التى تم جمعها، وتحويل الصور والرسوم إلى زنكات، لتشكل هذه وتلك الصفحات التى يدفع بها إلى مكبس يضغطها فوق سطح من ورق مقوى، فتنتقل صورتها مطبوعة فوقه تحت درجات حرارة هائلة، وما تلبث أن يُصب فيها الرصاص المصهور مرة أخرى، فى شكل نصف اسطوانى، فيكون مجموعها صفحات الجريدة، يتم تركيبها بماكينة الطباعة، وما إن تدور نستقبل المولود الجديد.
تلك الدورة شاهدتها من قبل، لكن اليوم فإن رؤيتى لها تكتسب مذاقا مختلفا، فكلمة الاستاذ موسى «واحد مننا» مازال صداها فى أذنى، بل تسرب إلى كل خلية فى جسدى مخلفاً نشوى لم اتذوقها من قبل، ومازلت أبحث عن سرها!
عند أذان العصر - تقريبا - استدعى الاستاذ سعيد رجلا نحيلا طويلا علمت أنه المسئول عن «توضيب» الجريدة، كان اسمه: عم حسن النحاس، اصطحبنى فى رحلة سريعة لأرى ذلك العالم المسحور الذى تتحول فيه الأوراق إلى شىء مختلف، تكون ثمرته الجريدة التى تصل للقارئ دون أن يدرك الجهد الهائل، والجنود المجهولين وراء صناعتها.
عدت لأجلس مرة أخرى أمام الأستاذ سعيد، وقد تجمعت لديه مادة الصفحة الأولى، وشرع فى تقييمها، وجرت مناقشات سريعة مع نائب رئيس التحرير، ثم أجرى مكالمة مقتضبة أدركت انها مع الاستاذ موسى، بعدها طلب فنجاناً من القهوة وكوباً من الليمون المثلج معاً، ورشفة من هنا، وأخرى  من هناك، وسرعان ما بدأ يضع خطوطه ليصنع ماكيت الصفحة الأولى.
كنت أتابع ما يخطه من عناوين، واستوقفتنى مفارقة مثيرة، فاليوم الذى اجتاز فيه عتبة «الأخبار» يتزامن مع كتابة صفحة جديدة فى تاريخ الصحافة المصرية، ثمة مشروع قانون جديد للصحافة «يُطبخ» فى أروقة الحزب الحاكم والبرلمان!

السابعة مساء: لحظات حاسمة
خلية نحل أخرى فى صالة التوضيب، الاعصاب مشدودة، الاصوات ترتفع، الاوامر صارمة، انها اللحظات الحاسمة فى إعداد ما تبقى من صفحات للدفع بها إلى المطبعة.
يصل مهرولاً من يطلب بروڤة على صفحة رقم كذا، والخبر الفلانى للاستاذ موسى، الذى يتعجل -أيضاً- بروڤة الأولى.
الاستاذ سعيد ينظر إلى الماكيت، ثم يشير إلى الصفحة المنفذة من الرصاص، ودون ان ينطق بحرف يترجم المنفذ ما قرأه فى عين مايسترو الاخراج، فى مشهد يضاهى ما نشاهده فى الفرق الموسيقية!
تعود البروڤات من مكتب رئيس التحرير، وثمة ملاحظات بالقلم الأحمر، تتحول فى لمح البصر إلى قرارات واجبة التنفيذ فى اللازمن، فللدقيقة ثمن باهظ فى هذه اللحظات.
فى هذه الآونة الفاصلة، ربما يتصور من يرى المشهد دون أن يدرك أبعاده أن الانضباط يغيب، أو أن الأدوار تتداخل، لكن من يكون جزءاً مما يجرى يعلم أن كل ما يجرى انما هو بقدر، وأن ثمة حدوداً، ومسئوليات محددة لايجرؤ أحد أن يتجاوزها.
«عربية للأولى» هكذا يصرخ الاستاذ سعيد اسماعيل، فيتقدم من يدفع بعربة ذات عجلات تحمل «فورمة» الصفحة الأولى للمكبس، فتكون آخر الصفحات التى يتم الدفع بها للمطبعة، لتدور الماكينة العملاقة، وننصرف مرة أخرى الى صالة التحرير، للإعداد لـ «غيار سريع»، ثم الطبعة الثانية، ليأتى فريق السهرة مشاركاً فى إعدادها، ومن بعدها الطبعة الثالثة، التى غالباً ما تكون الأخيرة فى يوم العمل الطويل.

التاسعة مساءً: تسليم وتسلم
كان طاقم الطبعة الأولى قد التقط انفاسه، وانتهى من انجاز «الغيار السريع» للطبعة، بتنقيح بعض الصفحات، أو اجراء تعديلات مهمة على عدد من الأخبار، ثم تمت عملية التسليم والتسلم بين هذا الطاقم، واعضاء الطاقم الجديد الذى عليه ان يتحمل مسئولية اعداد الطبعتين الثانية والثالثة.
أشار لى الاستاذ سعيد بالعودة للجلوس أمامه، وسألنى مبتسماً: ما رأيك؟
> العمل ممتع حتى وإن كان مرهقاً، إنه عملية خلق رائعة.
- أتمنى ألا يتغير رأيك بعد وقت، فلاتكمل المشوار.
> لن يحدث ذلك أبداً، إن شاء الله، إننى اليوم أحقق حلماً راودنى منذ كنت فى العاشرة من عمرى.
- بالمناسبة هى الآن العاشرة، ولك ان تغادرنا حتى تعود فى الصباح الباكر، لتبدأ يوماً جديداً.
ودعت الزملاء الجدد، وقد ملأنى شعور جامح بأننى سأكون ما حييت عضواً فى هذه الأسرة التى منحتنى احساساً بأننى منهم منذ يومى الأول بينهم.

الحادية عشرة: وحدى بالمنزل
ثمة إحساس تملكنى حين أدرت مفتاح منزلى، لست نفس الانسان الذى غادر المكان صباحاً!
تتابعت المشاهد، وكأنها شريط سينمائى، رحت أتأمل ما حدث على مدى يومى الأول فى «الأخبار»، تفاصيل اضعاف ماسطرته الآن، للمكان، والناس، وحركة الزمن غير المعتادة لى، ولا أظنها تتكرر فى أى موقع آخر، إلا فى ذلك الكوكب المثير بتضاريسه الرائعة، المسمى «الأخبار».
بدأ المشوار، ولا رجعة، جملة رددتها فى صدرى، ثم وجدت صوتى يعلو، ويعلو، وكأنى أؤكد لنفسى ان الهواية والدراسة، أصبحت مهنة تكلفنى حياتى، أهب لها كل سنوات العمر.
لا أعرف كم من الوقت ظللت أمارس دور الطائر الذى ينظر وهو يحلق إلى كل ما مر به، حتى غلبنى النعاس.
........................
يقودنى- الآن- حنين خفى، جارف، إلى ذلك اليوم البعيد، السبت الأول من يوليو ١٩٨٠.