ما بعد كورونا.. الصراع الأمريكي ــ الصيني ومحددات الأمن القومي العربية

ما بعد كورونا.. الصراع الأمريكي ــ الصيني ومحددات الأمن القومي العربية
ما بعد كورونا.. الصراع الأمريكي ــ الصيني ومحددات الأمن القومي العربية

بكين عامر تمام

  

"مرحلة كورونا، قبلها لا يشبه ما بعدها".. مقولة رددها قادة دول وساسة وخبراء، لوصف مرحلة أنتجها واقع مفروض على ساحة دولية أنهكتها الصراعات، وأكدتها حقائق على أرض واقع متوتر، ومعطيات لا تحتاج لجهد لمعرفة نتائجها.

 

هزات عدة صاحبت هجوم فيروس كورونا على أرجاء المعمورة، بدأت بهزة داخلية لكل من عاش هذه الجائحة، تتابعت الهزات، لتشمل كل ما له علاقة بحياة البشر، سياسة واقتصاد وعلوم، أولويات تغيرت، وأقدار بشر ودول تبدلت.

 

يقولون الأحداث الجلل، يتبعها أمور جسام، بعد الحرب العالمية الثانية، غربت شمس بريطانيا العظمى، جاءت أمريكا المنتصرة بنظام جديد، فرضته على العالم، كانت فيه هي السيد، والشرطي، من يتحكم في العالم اقتصاديا وسياسيا وعسكريا.

 

جائحة كورونا، حدث جلل، هز العالم، هي ليست حربا، لكن، لا تقل خطورة عنها، ستخرج منها دول منتصرة وأخرى مهزومة، لا يمكن التنبؤ بحجم التغييرات التي ستتبعها، لكن، لا جدال في وجود تلك التغييرات، إرهاصات مرحلة ما بعد كورونا تتوالى؛ تناطح صيني ـ أمريكي غير مسبوق، عولمة على طريق الغروب، نظام اقتصادي عالمي يتداعى، أشد الناس تفاؤلا يبشرون بتعافيه بعد سنوات.

 

بالفعل، اتخذت أزمة كورونا مكانها في عالم السياسة، وبدأت الجهود من القوى العالمية لتوظيفها في تحقيق المصالح الاستراتيجية، وإعادة رسم التوازنات الدولية سياسيا واقتصاديا.

 

الصين، الرابح الأكبر حتى الآن، رغم كونها منشأ هذا الفيروس، لكنها استطاعت توظيفه بما يخدم مصالحها السياسية والاقتصادية، هذا الوباء المعولم، نكأ جراح العلاقات الصينية ـ الأمريكية، واستحضر أزمات مؤجلة بين البلدين، من صراع بحر الصين الجنوبي وثرواته، إلى تايوان وهونج كونج، مرورا بالحرب التجارية، والصراع على تكنولوجيا الجيل الخامس، والانفاق العسكري وصولا إلى التنافس على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، ما يفرض واقعا جديدا على البؤرة الأشد توترا في العالم، هذا التنافس ـ إن أحسنت الدول العربية استغلاله ـ ربما يتحول إلى فرص كبيرة لهذه الدول.

 

القادم أسوأ

اتهامات متبادلة بين واشنطن وبكين حول أسباب التوترات، الصين من جانبها ترى أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تبحث عن كبش فداء ليتحمل مسئولية فشلها في مواجهة تفشي فيروس كورونا، يتوقع الدكتور بينغ تشن جيا الباحث المشارك في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، المزيد من التوتر في العلاقات بين البلدين، محملا في الوقت ذاته الولايات المتحدة مسئولية هذا التصعيد.

 

يقول بينغ في تصريحات لـ«بوابة أخبار اليوم» إن الصين بذلت جهدا كبيرا لمحاربة كورونا سواء على الصعيد الداخلي من خلال محاصرة الوباء والقضاء عليه أو خارجيا من خلال التعاون وتقديم المساعدات لدول العالم، لكن إدارة ترامب لم تقوض المساعي المشتركة للسيطرة على الوباء فحسب، بل سعت أيضا إلى تقديم الصين كبش فداء للتغطية على فشلها في محاربة الفيروس. 

 

ويشير بينغ إلى أنه حتى الآن تحافظ الصين على دبلوماسيتها الرصينة ورد الفعل الهادئ على الاستفزازت الأمريكية، لكنه يؤكد أن هذا وحده لن ينقذ العلاقات الأمريكية الصينية من التدهور.

 

 

هل الطلاق الاقتصادي ممكن؟

 

بلا شك، مستقبل العلاقات الاقتصادية بين الصين وأمريكا لن يؤثر على اقتصادات البلدين فحسب، بل على العالم أجمع، ومستقبل النظام العالمي الحالي، لذا حاز تهديد الرئيس ترامب بالطلاق الاقتصادي أو قطع العلاقات الاقتصادية مع الصين اهتماما عالميا كبيرا.

 

هذا الخيار استبعده الممثل التجاري في الإدارة الأمريكية روبرت لايتهايزر والذي كان أيضا على رأس الفريق الأمريكي المفاوض مع بكين في الحرب التجارية، وأكد أمام الكونجرس أن الانفصال بين الاقتصادين الأمريكي والصيني في الوقت الراهن مستحيل، مشيرا إلى أن هذا الخيار كان متاحا منذ سنوات مضت. ورغم ذلك عاد ترامب وجدد التهديد مرة أخرى عبر تغريده له على تويتر.

 

لكن الدكتور بينغ له رأي آخر، حيث شكك في قدرة ترامب على اتخاذ مثل هذه الخطوة، قائلا:"لست متأكدًا ما إذا كان ترامب قادر حقا على قطع العلاقات الاقتصادية. أشك في ذلك تمامًا، أعتقد أن العولمة لا تزال قوية". الخارجية الصينية أيضا ردت على ترامب قائلة" الانفصال الاقتصادي سيضر بالولايات المتحدة".

 

 

رغم هذه الرؤية الواثقة، ناقش بينغ تبعات الاحتمال الأسوأ، مشيرا إلى أنه حال اتخاذ ترامب لهذه الخطوة، فإن الصين ستعتمد على شركاء تجاريين آخرين على طول مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها بكين في عام 2013، مشيرا إلى هؤلاء الشركاء سيرحبون بالتعاون المربح للجانبين.

 

مضيفا، أن من بين خيارات التعامل، امتلاك الصين سوقًا محليًا كبيرًا تضم ​​1.4 مليار شخص، لذا يمكنها أن تسعى لمزيد من الاعتماد على الذات أيضًا.

 

 

الحرب الباردة الثانية

 

الحرب الباردة الثانية، بدأت بالفعل، تحت هذا العنوان كتب نيال فيرجسون الباحث في معهد هوفر بكلية ستانفورد بالولايات المتحدة مقالا في صحيفة نيويورك تايمز أشار فيه إلى بدء حرب باردة جديدة بين الصين والولايات المتحدة، مشيرا إلى أنها تختلف عن سابقتها مع الاتحاد السوفيتي. وعدد فيرجسون أوجه الاختلاف ومن أهمها: عدم وجود رغبة توسعية لدى الصين كما كان حال الاتحاد السوفيتي، أيضا الحكومة الصينية تنفق أموال الشعب على مشاريع البنية التحتية والاستثمارات الخاصة التي تحقق مصالح شعبها، ولا تنفقها على دعم دول أو جماعات مارقة.

 

 وأخيرا قال إنه رغم الجدال الكبير بشأن مبادرة الحزام والطريق إلا أن هذه المبادرة تهدف في المقام الأول إلى تحقيق نفوذ اقتصادي وليس ثورة عالمية وتغيير للنظام العالمي.

 

وخلص فيرجسون إلى أن الحرب الباردة الثانية لن تشهد مثلا أزمات مثل صواريخ كوبا بين أمريكا والاتحاد السوفيتي عام 1962، مشيرا إلى انها ستقتصر على منافسة اقتصادية وتكنولوجية بين أول وثاني أكبر اقتصاد في عالم.

 

لكن فيرجسون أشار إلى وجود تحديات كبيرة ستواجه الولايات المتحدة في هذه الحرب الجديدة، أبرزها القوة الاقتصادية الكبيرة للصين التي تجعلها منافس قوي للولايات المتحدة وربما تتفوق عليها في بعض القطاعات، على عكس الاتحاد السوفيتي.

 

 

مصر في عين الحدث

 

لم تكن منطقة الشرق الأوسط بمنأى عن التنافس الأمريكي ـ الصيني، لما لهذه المنطقة من أهمية كبرى سياسيا واقتصاديا، يرى الدكتور إدموند غريب أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جورج تاون في تصريحات للأخبار إن منطقة الشرق الأوسط تحولت بالفعل إلى ساحة صراع بين الولايات المتحدة والصين.

 

من جانبه أشار الدكتور دوان جيو تشوي الباحث في معهد البحوث الدولية والإقليمية في جامعة تسينغهوا إلى الدور الهام والمحوري الذي تلعبه مصر في مبادرة الحزام والطريق، مشيرا إلى أن مصر التي انضمت للمبادرة في 2014، تحتل المرتبة الثانية من حيث عدد مشروعات البنية التحتية التي تقام على طول المبادرة بعد روسيا.

 

قال تشو في تصريحات للأخبار إن هناك 109 مشروعات ربط بيني في مصرـ منها ما اكتمل والبعض قيد الإنشاء ـ باستثمارات تقدر بحوالي 100 مليار دولار أمريكي، لتحتل المرتبة السابعة في دول الحزام والطريق، مضيفا، بلغت الاستثمارات الصينية المباشرة في مصر حوالي 7 مليارات دولار أمريكي، 90 في المائة منها جاءت في السنوات الخمس الماضية.

 

وأشار إلى أنه عندما بدأ تفشي الوباء كان ثمة تعاون كبير بين البلدين يعكس العلاقات القوية والعميقة، حيث تبادل البلدان إرسال المساعدات، وكانت مصر من أوائل الدول التي قدمت مساعدات إلى الصين وقامت وزيرة الصحة المصرية بزيارة دعم لا تنسى إلى بكين.

لكنه حذر من محاولة الولايات المتحدة استغلال بعض الملفات، لتعكير صفو العلاقات بين مصر والصين، منها ملف سد النهضة الذي تقف فيه الصين على الحياد رغم عمل بعض الشركات الصينية في بناء السد، مشيرا إلى أن الصين عرضت الوساطة بين مصر وأثيوبيا لإنهاء هذا الملف.

 

 

الدول العربية والخيارات الصعبة

 

التعاون الصيني مع الدول العربية من الممكن أن يضعها في اختيار صعب، خاصة أن حجم التبادل التجاري بين بكين والدول العربية بلغ حوالي 250 مليار دولار، وتمر حوالي 50 في المائة من واردات الصين من النفط من مضيق هرمز، ما يشير إلى الأهمية الكبرى لمنطقة الشرق الأوسط بالنسبة للصين.

 

ويقول الدكتور غريب إن الصين لديها طموح خاص بتأمين احتياجاتها من الطاقة وكذلك تأمين أسواق لمنتجاتها في المنطقة.

 

وقال إن الصين أعدت العدة لصراع طويل مع الويات المتحدة عبر العديد من الشراكات مثل مبادرة الحزام والطريق والبنك الأسيوي للبنية التحتية ومجموعة البريكس.

 

وتوقع ان تمارس الولايات المتحدة ضغوطا لوقف مشروع الصين الخاص بمبادرة الحزام والطريق، لكنه في نفس الوقت يرى أنه حتى الان من غير المعروف مدى جدوى هذا المشروع مقارنة بالتكلفة الخاصة به والتي تقدر بتريليون دولار والبعض يتوقع أن تصل إلى 3 تريليونات دولار.

 

على الجانب الآخر، تستخدم الولايات المتحدة نفوذها العسكري لإزاحة الصين من المنطقة ، حيث أشار قائد القيادة الأمريكية الوسطى كينيث ماكينزي إلى أن مبيعات الأسلحة الأمريكية لدول الشرق الأوسط تساعد على منعها من "التحول إلى الصين".

 

وقال إن منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ستكون مسرحًا لمنافسة بين الولايات المتحدة والصين. وأوضح خلال كلمة في معهد الشرق الأوسط: "المنافسة بين القوى العالمية لا تحدث في مناطق محددة بدقة". مضيفا "ليس لديك ترف التركيز على مسرح واحد فقط." مؤكدا على عدم السماح بالتحول إلى الأسلحة الروسية أو الصينية ما يؤثر سلبا على نفوذ بلاده.

 

تعد منطقة الشرق الاوسط أكبر سوق للأسلحة الأمريكية، حيث استقبلت هذه المنطقة ما يزيد عن نصف صادرات الولايات المتحدة من الأسلحة، خلال السنوات الخمس الماضية.

 

وبلغت حجم مشتريات السعودية وحدها حوالي 25٪ من صادرات الأسلحة الأمريكية في هذه الفترة، بحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.

 

اتساع دائرة الصراع

 

يرى غريب إن الصراع لن يقتصر على الشرق الأوسط بل أيضا سيصل إلى مناطق أخرى منها أفريقيا على سبيل المثال. وأشار غريب إلى أن التنافس لن يقتصر على الولايات المتحدة والصين بل سيكون مع قوى أخرى حليفة لأمريكا مثل كوريا الجنوبية، اليابان أو الدول الأوروبية. ويقول إنه "ما من شك أن الولايات المتحدة ستقوم بممارسة ضغوط على حلفاءها في المنطقة لتقليص أو وقف التعاون مع الصين".

 

وهنا تجدر الإشارة إلى الحالة الإسرائيلية، حيث شهدت الفترة الماضية طفرة في العلاقات الصينية ــ الإسرائيلية، ما أثار قلق الولايات المتحدة الحليف القوي من تل أبيب، هذا القلق بدا واضحا خلال الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي بومبيو إلى إسرائيل في الثالث عشر من مايو الماضي، والتي اعقبها إلغاء تل أبيب لاستثمارات ضخمة مع الصين.

 

السفير الأمريكي في تل أبيب ديفيد فريدمان حذر مما وصفه باستخدام الصين للاستثمارات في التسلل للعديد من البلاد في العالم، وقال فريدمان في تصريحات صحفية بعد زيارة بومبيو " ليست إسرائيل فقط، أتحدث عن جميع حلفائنا".

 

وأضاف" الاستثمار الصيني المتنامي في الدول الحليفة سيؤثر على التعاون مع الولايات المتحدة".

 

من المستفيد؟

 

بات من المؤكد أن العالم في طريقة إلى نظام متعدد أو ثنائي الأقطاب خلال مرحلة ما بعد كورونا، يرى غريب أن النظام العالمي الجديد سيكون أفضل للدول العربية، فكلما كان هناك تعددية قطبية، يكون لدى الدول العربية هامش للمناورة والعديد من الخيارات ما سيمنح هذه الدول القدرة على تنويع شراكاتها.

 

وأشار غريب إلى أن عالم ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بكل تأكيد أفضل من عالم القطب الواحد. ويؤكد أن احتمالات الصراع بعد كورونا كبيرة، فالولايات المتحدة لا تقبل الحلول الوسط فهي إما ان تكون منتصرة أو مهزومة.

 

لكنه أكد أن هذا الصراع سيكون على الصعيد السياسي والاقتصادي مستبعدا تحوله إلى صراع عسكري لأنه ليس من مصلحة الطرفين ذلك.

 

ويتفق الدكتور بينغ مع هذا الطرح، مستبعدا الوصول إلى صدام عسكري، قائلا: "لا أعتقد ذلك. هناك عدة عوامل للتفاؤل. الأول هو وجود أسلحة الردع النووية الموجودة لدا البلدين، وعول كثيرا على من وصفهم بالعقلاء في الصين وأمريكا وجميع أنحاء العالم لتجنب هذه الكارثة.

 

على الجانب الآخر يرى بينغ أنه لن يكون هناك تغييرات جوهرية في العلاقات بين البلدين في المستقبل القريب أو حتى بعد الانتخابات الأمريكية، مشيرا الى اتفاق الحزبين الجمهوري والديمقراطي على العداء للصين، لكنه أشار إلى أنه ربما يكون هناك تغييرات في استراتيجية التعامل حال هزيمة ترامب في الانتخابات القادمة، ما ينتج عنه إدارة أفضل للخلافات ما يخفف من حدة التوتر بين البلدين.