من دفتر الأحوال

فى علاقة الخدامين بالأسياد

جمال فهمى
جمال فهمى

فى مسرحية رائعة للكاتب والشاعر الألمانى ذائع الصيت برتولد بريخت اسمها «السيد بونتيلا وتابعه ماتي»، تتوالى أمام جمهور المشاهدين من بداية المسرحية حتى نهايتها، لوحات متقنة خفيفة الظل تعرض سلسلة طويلة من مفارقات وتناقضات صارخة تطبع أفعال وسلوك ذلك الإقطاعى الفلندى المدعو «بونتيلا» الذى يعرفنا به بريخت فى أبيات التمهيد الشعرى للعرض، واصفا إياه بأنه «يعيش فى ضيعته حياة حيوان منقرض لاحدود لنهمه وجشعه».
فأما المفارقة الأساسية التى يقوم عليها بنيان المسرحية فهى ذلك التناقض والتضاد بين سلوك «بونتيلا»فى الليل وهو سكران وبين سلوكه وأفعاله النهارية حين يفيق ويعود إليه وعيه الذى غيبته قوارير الخمر التى يَعب منها و«يقربعها» كل مساء!
ففى غيبوبة السكر تنتاب هذا الإقطاعى حالة يبدو فيها إنسانا طيب القلب رحيم وعطوف على الفلاحين والعمال الفقراء فى ضيعته، حتى أنه فى إحدى نوبات الإنسانية والكرم الليلى التى تصيبه وهو مخمور يعلن أنه سيزوج ابنته الوحيدة «إيفا»لتابعه وسائقه «ماتي»بدلا من خطيبها صاحب الوظيفة المرموقة فى السلك الدبلوماسى، والذى كان هو نفسه قد اختاره لها طمعا فى المجد والشهرة ضاربا الصفح عن شكوكه بل اقتناعه بأن هذا الشاب ليس رجلا بما يكفى.. أو ليس رجلا بالمرة.
لكن بونتيلا إذ يدركه صباح اليوم التالى ويستيقظ من نومه فإن أشعة شمس النهار تبدد تلك الصورة الإنسانية التى تقمصها فى الليل وهو سكران، إذ يرتد لحالته الأصلية، وحشا قاسيا جشعا لايهمه إلا المال والثروة والجاه، ومن ثم يعود يعامل تابعه «ماتي»بغلظة وفظاظة ويلحس وعده الليلى له بالزواج من «إيفا»، بل أكثر من ذلك يتهم السائق المسكين بأنه يحاول استغلال ضعفه وغفلته وهو سكران لكى يخطف منه ابنته وينهب ثروته ويخرب بيته!!
هكذا ـ باختصار ـ يوضح لنا بريخت من خلال حكاية هذا السيد الإقطاعى وتابعه، إلى أى مدى العلاقة دائما معقدة بين السادة والأتباع، وقد شرح بنعومة ولطف كيف أن الود والصدق الحقيقيين فى هذه العلاقة أمر مشكوك فيه أصلا أو بالأحرى، مجرد أوهام لايمكن التعويل عليها.
هذه المسرحية والفكرة اللامعة التى تنبنى عليها والدرس الثمين الذى انتهت اليه وقائعها، تصلح تماما لفهم تعقيد العلاقات داخل المجتمعات المحلية بين مكوناتها وطبقاتها المختلفة، كما أن الفكرة نفسها تبدو قادرة بدقة وعمق على تفسير الكثير من المشاهد التى تجرى على مسرح المجتمع العالمى، حيث إن وجود علاقة متكافئة ومتوازنة بين عمالقة ووحوش النظام العالمى، وبين دول وكيانات صغيرة وضعيفة لا تمتلك، أولا تسعى بجدية لامتلاك شيئا من أسباب القوة والتأثير، يبدو أمرا كوميديا تماما.
والحال أنه لا يوجد ما يثير الشفقة والممزوجة بالضحك المُر أكثر من عبارات نسمعها كثيرا من مسؤولين كبار فى دول وكيانات لا تكاد بعضها تُرى بالعين المجردة، تؤكد أن علاقات تحالف وصداقة متينة تربطها بوحوش عملاقة على الساحة الدولية.
أن الاستقامة والصدق مع النفس يفرضان على هؤلاء المسؤولين الكبار فى كيانات صغيرة، أن يتحلوا بقدر من التواضع والحكمة التى تحلى بها الخادم «ماتي»عندما أنشد فى ختام مسرحية بريخت، معبرا عن إدراكه لطبيعة الوعود الليلية الكاذبة التى ينطق بها سيده وهو مخمور، قائلا مع الكورس: يا أيها السيد شكرا.. لا أستطيع، ابنتك لاتناسب سائقا تعيسا بائسا مثلي.