يوميات الأخبار

مدرسة الزوجات

طاهر قابيل
طاهر قابيل

«لكن الاطفال فى بلادنا يجهلون ما هو الوطن؟ ولا يعرفون شيئا عنه إلا فى المدرسة بينما محبته يجب أن تغرس بنفوسهم فى البيت أولا».

السبت:
 لكل منا طريقته للاستفادة من ساعات الجلوس فى البيت اثناء حظر التنقل الليلى ومع غلق النوادى والمقاهى ودو السينما والمسرح وتحديد توقيتات للمحلات والمولات واسلوب لعمل المطاعم والتى تربينا وتعودنا عليها واصبحت من اساسيات حياتنا.. مع فيروس كورونا بعضنا منا أخذ حذره خشية انتشار المرض فالزم نفسه بالاجراءات الاحترازية ولبس الكمامة والجوانتى وفرض التباعد الاجتماعى على نفسه ولمن حوله.. وهناك اخرون كما يقولون عنهم انهم « ضاربينها طبنجة» ويمارسون حياتهم بأريحية ويعيشون يومهم كما هو واستبدلوا غلق المقهى والفرجة على المحلات ليلا بالجلوس فى جماعات بالشوارع والحارات الجانبية وتبادل النكات والقفشات..وجدت ضالتى مع اختفاء متع الحياة فى اعادة ترتيب وتنظيم مكتبتى الخاصة بالمنزل ووجدت بها كنوزا كثيرة جمعتها فى السنوات الماضية اهملت بعضها بحجة انى مشغول فى العمل وجلسات النميمة والدردشة والتسلية.. ومن بين تلك الكنوز فى مكتبتى كتاب استاذ الاساتذة المرحوم مصطفى امين «امريكا الضاحكة.. زمان» والذى كنت قد قرأته اول مرة من 25 عاما تقريبا وكتبت فى يومياتى الشهر الماضى جزءا منه يرسم كيف تغيرت امريكا من الضحك إلى العبوس ومن الشباب إلى الشيخوخه ومن البساطة والرخاء إلى الازمة.
  فعندما وصل مصطفى بيه إلى بلاد العجائب وجدها غالية جدا ولفت نظره ان شدة الغلاء تجعل أغنى اغنياء مصر صعلوكا فى نيويورك..فالدولار فى بلاد العم سام مثل القرش صاغ فى مصر.. وكانت اول واقعة سوداء وقع فيها عندما طلب طبقا من الميكرونة بدون لحم او فراخ او حلوى.. وعندما طلب الحساب اخبره الجرسون بان المطلوب ما يوازى 30 قرشا فتحصر على مكرونة «بار اللواء» ايام ما كان أصحابه يحتجون على «بنايوتى» الجرسون لانه يطلب ثلاثة قروش ثمنا لطبق المكرونة ويهدده الصحفيون بنشر مقالات يحملونه مسئولية كراهية المصريين للطليان..وعندما سمع نصيحة مصرى اخر بامريكا وبان اسعار الطيور ارخص فطلب فى مطعم متواضع «نصف حمامة» ووجدها بدون دهن او لحم وبجوارها قطعة بطاطس و8 بسلات واصيب بصدمة عندما عرف ان ثمن جوز الحمام بما يوازى اربعين قرشا وهو فى مصر خمسة قروش...وعندما قال لوزير الزراعة الامريكى فى ذلك الوقت ان اسعار الحياة غالية قال له ان الفلاح الامريكى فى حالة مؤلمة لا يكسب اكثر من 3 دولارات فى اليوم ولا يستطيع شراء سيارة لنفسه ولا يذهب للسينما اكثر من مرة فى الاسبوع وان ربع الفلاحين ليس لديهم اجهزة راديو..فكان رده عليه تصور سيادة الوزير ان الفلاح المصرى لا يكسب اكثر من 3 قروش فى اليوم اذا وجد عملا.. ولا يستطيع شراء حمار ولا يأكل اللحم الا مرة واحدة فى العام.

الإثنين:
 اتجول بين مذكرات الطالب المفلس فى امريكا وامر على عمارة «الامبراطورية» التى يبلغ ارتفاعها 1250 قدما وفيها 103 طوابق بخلاف البدروم والسطوح وتظهر المبانى بجوارها فى حجم علب الكبريت والسائرون فى الشارع منها بالنظارة المعظمة كالنمل او البراغيث..ويحكى مصطفى بك عن لقائه مع مستر سميث بواب العمارة والذى يضع فى صدر غرفته التى لا تقل فى ضخامتها عن حجرة رئيس وزراء مصر صورة اهرامات الجيزة.. ويحكى عن امكانيات العمارة الضخمة جدا وعدد سكرتارية البيه البواب.. اتوقف فى منتصف صفحات الكتاب تقريبا عند «مدرسة الزوجات» فقد اصبح الزواج فى امريكا علما يدرس فى الجامعات مثل الطب والهندسة والزراعة والكيمياء وانشئت كليات خاصة لدراسة هذا الفن الجميل..حضر الاستاذ مصطفى امين هذه الدروس وشاهد المدرسة تشرح للتلميذات ان الفشل فى الزواج يعود إلى ملل الازواج.. فإن قضاء 10 سنوات فى حياة لا تتغيرولا تتبدل تجعلها لا تطاق.. فالزوج فى مثل هذا الملل يعرف كل يوم ما سيأكله وماستقوله زوجته ولهذا فيجب ان تحاول الزوجة التغييرفالزوج سيمل عندما يرى اثاث المنزل هو هو لم يتغير وفى مكانه ونصحت المدرسة الفتيات انه عندما تقتصد الزوجة من مصروف البيت دون ان تخبر زوجها عليها ان تدعوه ذات ليلة للذهاب للسينما على حسابها اولتناول العشاء بالخارج او تقوم بتقديم هدية له.. فهذه المفاجأت تشعر الزوج بان حياته لاتسير على وتيره واحدة..وحذرت المدرسة من بعض الاشياء» التافهه» التى تفسد احيانا الحياة الزوجية مثل زرار البنطلون الذى طلب الزوج اصلاحه ونسيت زوجته ذلك مما وضعه فى موقف محرج خارج البيت وقد يؤدى مثل ذلك الحدث إلى الطلاق اذا تطور النسيان إلى خناقة.. كما حذرت المدرسة من «العادات القبيحة» مثل ان تسأل الزوجة الزوج بعد تناوله طعام «الافطار» ماذا يريد ان يأكل فى «الغداء»؟ وهو سؤال سخيف فكيف سيفكر وهو مازال متخما بطعام الافطار فى وجبة الغداء وان على الزوجة ألا تسأل.. بل عليها فرض الطعام ولكن بشرط ان تطبخ ما يحبه..خاصة ان معظم الامريكيات يطهين الطعام بأنفسهن ولذلك فإن المطبخ انظف مكان فى البيت حتى ان الاسرذات المستوى الراقى يتناولون الافطار فيه وهو ما لا يحدث فى بيوتنا الشرقية.. وقالت المدرسة ان من العادات القبيحة ايضا انه بمجرد عودة الزوج من عمله متعبا تحكى الزوجة له الخناقات والمتاعب التى مرت بها اثناء غيابه مع زملائها واولادهما والجيران..الخ..ونصحت المعلمة الامريكية التلميذات فى احد الدروس بعدم خلع الزوجة ملابسها امام زوجها لانه يجب ان يكون بينهما دائما شئ من التكليف.. ومن حق الزوجة دائما ان تختبئ من زوجها عندما تريد ان تتجمل لان الانسان لا يستطيع ان يتلذذ من تناول لحم رأه يذبح امامة ويطهى فى وجوده فيجب عليها ان لا تكشف لزوجها عن سر جمالها.
من مميزات الزوجة الامريكية التى رأها مصطفى بك انها تبقى «صغيرة» مع اولادها فتلاعبهم وتجرى معهم وتركب الدراجة وتسابقهم ولا تشعر بفارق السن بينهم.. وهى تقبل زوجها دائما وتقول الاحصائيات انها فى كل عام تقف امام المراّة 182 ساعة وتمضى فى «الكوافير» 35 ساعة وتلمع أظافرها 45 مرة وتنظف اسنانها 500 مرة.

الأربعاء:
 اتنقل إلى مشاهدات استاذ الاساتذة مصطفى بك امين  - رحمة الله عليه - عن الطفل الامريكى فيقول ان تربيته مزيج من العلم والخبرة فلا يكاد يأتى المولود حتى تعد له امه «البوما»تضع فيه صورته كل 3 اشهر وتكتب وزنه وملاحظاتها عن ميوله ونوادره وما يصاب به من امراض فيصبح الالبوم سجلا تاريخا واقعيا ومفصلا لحياته..كثيرا من الاطفال الامريكان وهم يستعدون للنوم يضعون ايديهم على صدورهم ويقولون :»اللهم احفظ امريكا».. ولكن اطفالنا فى بلادنا يجهلون ما هو الوطن ؟ ولا يعرفون شيئا عنه إلا فى المدرسة بينما محبته يجب ان تغرس بنفوسهم فى البيت اولا.. فلماذا لا تدعو امهاتنا اولادهن ليصلوا لمصر كل ليلة قبل ان يذهبوا إلى فراشهم فيغرس فى نفوسهم قدسية الوطن ويعيش فى قلبه إلى ان يكبر ويصبح رجلا او سيدة.. والغريب ان قصص الاطفال لدينا لا تحتوى اى قصص مسلية عن الوطنيين المصريين.. فإذا شب الطفل وهو يعرف بطولاتهم فإنه بلا شك سيحاول ان يكون مثلهم.
 قبل ان انهى كتاب امريكا الضاحكة زمان تأخذنى شخصية « صاحبنا» التى ابتكرها مصطفى بيه لتقديم صورة احتفالنا بالاعياد قائلا انها ايام ميتة لا يشعر بها الا الصغار ولولا تعطيل المصالح الحكومية لما احس بها الناس.. فأولاد البلد يركبون عربات «الكارو» وبجوارهم النساء والفتيات بملابس صفراء وخضراء وحمراء يرقصون ويغنون «سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة» كأنهم ذهبوا للقطب الشمالى او صعدوا قمة «افيرست» بينما كل مشوارهم انهم ذهبوا إلى حديقة الحيوانات..فهل كانوا يشكون فى خروجهم منها سالمين.. والغريب انه لا يحلو للسيدات الذهاب إلى «القرافة» إلا فى الاعياد لتحتفل الاسرة بالعيد فى دنيا القبور!.. ورغم ان ذلك دليل على الوفاء ولكن للموتى جلال خاص والمقابر ليست للاعياد والافراح فكثيرا كنا نرى فى جانب القبور اطفالا ينفخون فى المزمار او يلعبون ويتشاجرون اويتشعبطون على شواهد القبور.

الخميس:
 كل منا سافر للعديد من الدول الشقيقة والصديقة..وقد سافرت فى مهام عمل للعديد من الدول الاوروبية والشرق اسيوية ليس من بينهم امريكا وكلما عدت وخاصة فى اول الامر كان يشغلنى نفس الشعور الذى غلب على «صاحبنا» عندما رجع إلى مصر حائرا تتقاذفه ثقافتان تشده من احدى يديه تقاليد عتيقة وحياة ساكنة هادئة وتجذبه من يده الاخرى حياة متحركة مرحة تتجدد فى كل لحظة..فقد احب امريكا ولكنه قبل ذلك احب بلاده وما الحب الا للحبيب الاول..وهكذا لم يترك امريكا مجنونا بكل شئ فيها..فلم يتزوج امريكية لانه يؤمن بأن المصرية تستطيع لو ارادت ان تكون خير الزوجات.. ولم يخلط كلامه باللكنة الامريكية لانه يعتقد ان اللغة العربية تستطيع ببساطتها ان تؤدى كل المعانى.. ولم يعد إلى بلاده وهو يقول لاهلها انهم متأخرون جاهلون واقفون فى مكانهم نائمون بينما الامريكان يتقدمون ويتعلمون ويتحركون ويستيقظون.. وجد فى امريكا نقائض ومزايا ولم يستطع كشرقى ان يفهم روح المادية التى صبغت كل شئ بلون الدولار.. فالكل يتكلم عن المال والامريكى يفخر بانه يكسب صفقة كما يفخر الشرقى بان ينال رتبة او وساما.. فكلمة المليون دولار دخلت الادب الامريكى وعندما يصف شابا فتاة يقول لها انها جميلة مثل المليون دولار..وقيمة الرجل فى بلاد العم سام بما يملكه والكتاب بالمبلغ الذى بيع به والممثل بما يدره اسمه على شباك التذاكر..فالامريكى يجمع الصدقات كما يجمع طوابع البريد ويقولون ان رجلا رأى صديقا له يغرق فى البحرفوقف على الشاطئ ولم يفكر فى ان يقفز إلى البحر لانقاذه واكتفى فقط بقوله ان هذا صديقه منذ عشر سنوات..رحمة الله على استاذ الاساتذة واستاذى مصطفى بك امين فقد تعلمت منه كثيرا فى الماضى واتعلم منه حتى الأن من كل كلمة وجملة فى مؤلفاته او عموده اليومى «فكرة».