يوميات الأخبار

هوامش على دفتر «الكورونا»

نوال مصطفى
نوال مصطفى

عقارب الساعة تكاد أن تتوقف فى العالم كله ! هذا العالم الذى كان ملبوساً بالسرعة الفائقة فى كل شيء قبل أسابيع قليلة، الإيقاع اللاهث كان قانونه، وسمته. كيف تتعرض حافلته لفرملة مفاجئة، وبهذه الشدة؟

استيقظ البشر جميعاً فجأة على كابوس مخيف، شكروا ربهم على كونه حلمًا أو هكذا تخيلوا فى بداية الأمر، حتى بدأ المشهد يقترب أكثر وأكثر، وتظهر صورته الضبابية المتشحة بالسواد. هنا فقط أيقن سكان الأرض أن ما سمعوه لم يكن هلاوس، وما رأوه لم يكن كابوسًا، بل حقيقة فاقت خيال كل روايات وأفلام الخيال العلمى وتجاوزتهم بكثير!.
كنا نقول «العالم أصبح قرية صغيرة» تعبيرا عن اتصال البشر ببعضهم عن طريق شبكة الانترنت بالصوت والصورة رغم وجود أحدهم فى أقصى شمال العالم والآخر فى أقصى جنوبه. لكن ما حدث خلال الأسابيع القليلة الماضية زرع داخل كل منا الإحساس بأننا نعيش فى حارة صغيرة وليس قرية. فى مركب واحد إما أن نطفو معًا أو نغرق معًا.
فى السابق كانت معظم الكوارث تكون من نصيب البلاد النامية، وكان الاعتقاد السائد هو أن الأغنياء لا يصابون بالكوارث، وحتى إن أصابتهم فإنهم يملكون القدرة والنفوذ والفلوس التى تجعلهم قادرين على عبورها والانتصار عليها. عكس الدول النامية والفقيرة التى لا تملك ما يملكه الأغنياء، وبالتالى تحصل على نصيب الأسد فى الكوارث من مجاعات، جفاف، أمراض، صراعات طائفية.
كل هذا أصبح الآن فى خبر كان مع هذا المارد الجبار الذى خرج إلى العالم كله بلا استثناء، بل ربما استهدف بشكل مباشر وأولى دول العالم الأول: الصين «البؤرة الرئيسية» ومنها إلى إيطاليا، إيران، إسبانيا، ألمانيا، فرنسا، سويسرا، إنجلترا وغيرها من دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا والدول الآسيوية.
فيروس كورونا أو «كوفيد- 19» الذى يهدد البشرية الآن والذى جعل كل سكان الكوكب يجلسون فى بيوتهم، يحدق كل منهم فى وجه الآخر بدهشة وأحيانا بذهول: ما الذى نحن فيه؟ ما الذى نعيشه؟ خطوط الطيران فى دول أوروبا تتوقف، الحدود تغلق بين دول الاتحاد الأوروبى، بعض البلدان العربية تتخذ نفس الموقف وتوقف الخطوط الدولية للطيران ومنها مصر، المغرب، العراق، السعودية، الأردن، والإمارات. المملكة العربية السعودية توقف العمرة حفاظاً على أرواح الناس، الكنائس المصرية توقف الصلاة فى الكنائس لنفس السبب. ومصر تقرر وقف صلاة الجماعة والجمعة فى المساجد حتى تنتهى المخاطر التى تحاصرنا مع «كورونا» الفيروس اللعين.
عقارب الساعة تكاد أن تتوقف فى العالم كله ! هذا العالم الذى كان ملبوساً بالسرعة الفائقة فى كل شيء قبل أسابيع قليلة، الإيقاع اللاهث كان قانونه، وسمته. كيف تتعرض حافلته لفرملة مفاجئة، وبهذه الشدة؟ هل سيستمر العالم هكذا؟ هل يمكن أن يصمد البشر لو امتد المارد المخيف وقرر ألا يرحل سريعا، ويسمح للعالم بنفس عميق بعد طول انتظار وصبر؟.
لأول مرة ربما فى التاريخ الإنسانى كله، يتشارك حكام العالم فى نفس الكارثة، ويواجهون نفس الأزمة ويتخذون تقريبا نفس القرارات، تعليق المدارس والجامعات، تخفيف العمالة، منع التجمعات، إلغاء المؤتمرات والمهرجانات ومباريات كرة القدم. وقف خطوط الطيران. كأن الكون يعلمنا درسا لا يمكن نسيانه: أن الخطر الذى يحاصر بنى البشر واحد لا يستثنى أحدا. وأن الدول القوية يجب أن يكون لديها إحساس إنسانى ومسئولية أخلاقية تجاه غيرها من الدول الفقيرة التى تحتاج إلى دعم. لقد قالت لنا تلك «الكورونا» الكثير، وعلمتنا أن الحلول الفردية لن تنقذ دولة منفردة، فالعالم متصل»connected» ولن تنجو دولة أو قوة مهما كانت عظمى وحدها بينما يفنى الآخرون.
من ستر ربنا أن مصر -حتى الآن- من الدول الأقل تضررا من فيروس كورونا، بالطبع هناك احتمالات قوية أن يتغير الموقف وهو ما نبذل جميعاً كل ما فى وسعنا لتجنبه وكذلك تقوم الحكومة المصرية بكل أجهزتها بجهد مشكور ومحترم للسيطرة على انتشار الفيروس.
من المؤكد أن هناك دائما حكمة إلهية وراء الكوارث العظيمة مثل التى يعيشها العالم كله الآن، تأمل الجانب الإيجابى الذى تعلمناه من الكارثة كمصريين مهم ومفيد، أولا العودة إلى الاهتمام بالقواعد الصحية السليمة من غسل الأيدى إلى استخدام المناديل الورقية فى حالة العطس واتخاذ مسافة بين الناس وبعضها، وكذلك تعلمنا كيف نقلل سرعة الإيقاع المجنونة التى كادت أن تخلق منا جميعا كائنات فضائية، مندوهة إلى عوالم غريبة. الآن تجلس العائلة فى البيت بشكل إنسانى، حتى لو اعتراه الملل أو عدم التأقلم فى البداية، والأهم من كل هذا هو تأمل ما يحدث بقلب مؤمن بإرادة الله، وعقل يفكر فى الحكمة وراء ما يحدث والدروس المستفادة من الكارثة.
الغريب وكامو
من أهم إيجابيات الأزمة الكونية التى نعيشها امتلاك الوقت لأشياء كنت تبذل جهدا كبيراً لإفساح وقت لها. بالنسبة لى كانت القراءة وستظل على رأس تلك الأشياء. لذلك اسمحوا لى أن أكتب فى تكثيف وتلخيص شديد عن بعض الكتب المهمة التى كانت صديقة عزلتى خلال الأسابيع الماضية. سأبدأ بالحديث عن رواية «الغريب» للأديب الفرنسى الشهير ألبير كامو وقد قرأتها مؤخرا فى طبعة حديثة صادرة عن الدار المصرية اللبنانية ترجمها إلى العربية دكتور محمد غطاس. بالطبع قرأتها أكثر من مرة على مدى حياتي، لكن راودنى الحنين لقراءتها هذه الأيام فى طبعتها الجديدة.
«أمى ماتت اليوم. وربما كان ذلك بالأمس، لست أدرى! فقد تلقيت برقية من دار المسنين تقول:» ماتت الأم. الدفن غدًا. تحيات طيبة» وهذا لا يعنى شيئاً. فربما كان ذلك بالأمس».
صنفت هذه المقدمة كواحدة من أجمل وأغرب مقدمات الروايات فى العالم. والغريب أن رواية «الغريب» كانت أول رواية لألبير كامو ومع ذلك نالت شهرة عالمية واسعة، وترجمت إلى معظم لغات العالم.
تبدأ الرواية ببرقية تصل «ميرسو» الشخصية المحورية التى تدور حولها الرواية تخبره بموت أمه فى دار مسنين. ونعرف من تتابع الأحداث أنه قد أودعها هناك لعدم قدرته المالية على تلبية احتياجاتها، بعد دفنها بيومين يتنزه بصحبة فتاة ويتورط فى جريمة قتل. لن أكمل الرواية حتى لا أفسد عليكم متعة قراءتها، لكنى سأكتفى بنقل بعض من سطورها التى توقفت عندها بتأمل للأسلوب المميز جدا لكامو وكيف كانت رؤيته للحياة.
يتحدث فى هذه الفقرة عن أمه عندما دخلت دار المسنين: « كانت تبكى كثيرا فى الأيام الأولى، وكان ذلك بحكم العادة، ولكن ذلك لم يدم، فبعد عدة شهور كانت ستبكى إذا ما انتزعناها من تلك الدار. كانت قد تعودت عليها». إنه هنا يتحدث عن قوة العادة وهى أحد العناصر الأساسية التى تشكل حياة ومصير الإنسان.
مات كامو فى سن صغيرة 47 سنة، وحصل على جائزة نوبل فى الآداب عام 1957.
فى كل أسبوع يوم جمعة
تابعت بترقب وشغف المسلسل الرائع «فى كل أسبوع يوم جمعة» المأخوذ عن رواية أدبية تحمل نفس العنوان للأديب القدير ابراهيم عبد المجيد. المسلسل تم بثه عبر منصة «شاهد» الإليكترونية التابعة لقنوات MBC فى عشر حلقات مليئة بالإثارة والتشويق. هذا يقودنى إلى الحديث عن أهمية العودة إلى الروايات الأدبية كمصدر مهم ورئيسى فى انتاج دراما تليفزيونية أو سينمائية على مستوى فنى يحترم عقل المشاهد ويرتقى بذائقته الفنية.
فرحت فعلا بفكرة العودة إلى الأدب كمصدر للأفكار والأعمال الدرامية، وتمنيت أن تستمر هذه الموجة المتطورة لاستغلال كنوزنا الأدبية الكفيلة بإخراجنا من حالة الهطل الدرامى الذى نشاهده فى الكثير من مسلسلاتنا، أعمال الأديب ابراهيم عبد المجيد تقدمت المسيرة وهو قامة رفيعة فى مجال الأدب حصل على جائزة نجيب محفوظ عام 1996 وجائزتى الدولة التفوق عام 2004 ثم التقديرية عام 2007 فى الآداب وترجمت أعماله إلى عدة لغات أجنبية.
كحال
عرفت الشاعر محمود رضوان من خلال دواوينه «حافى وحر» و»دبدوشكا» و»قبل ما تخلص الحكايات» التى ترجمت قصائد منها إلى الإيطالية، كما غنى له عدد من نجوم الغناء ومنهم: محمد منير، أصالة. كذلك قدم عددا من قصائده مطربون منهم هانى عادل، وفرقة وسط البلد وكايروكى. لذلك فوجئت بصدور أول رواية له تحمل عنوان «كحال» وثار فضولى لقراءة الرواية، وقد كان. رأيت أن أول ما يميزها هو الخط الصوفى المنثور فى ثنايا الأحداث، الفواح فى كلمات الحوار، وملامح الشخصيات. حياة المشايخ والموالد والمداحين والغجر. ينسجها الكاتب فى فصول قصة مضفرة بخيوط الواقع والأسطورة معا، والجميل هو التلقائية وعدم التصنع أو الافتعال فى الحكى، نرى بعيون «مروان» الشخصية المحورية فى الرواية حياة القرية بتفاصيلها المنعشة للروح، تنسج حوله حكايات أسطورية تشير إلى قدرته على التنبؤ بالمستقبل وقراءة الطالع، مجسدًا النفس الشفافة، والروح المشبعة بالفن، المغسولة بماء الحب، القادرة على بث الحياة فى كل من حولها. إنها رواية تحمل نفس شاعر، روائى ممسك بأدواته، ودرويش يعيش الحياة بتلقائية، وإنسانية لا حدود لها.
تأشيرة سفر
أسعدنى جدا هذا الكتاب المميز فى فكرته الثرى فى مضمونه الذى صدر للكاتب الصحفى الزميل علاء عبد الهادى وعنوانه «تأشيرة سفر». السبب الأول لسعادتى هو أنه ينتمى إلى «أدب الرحلات « وهو نوع من الأدب له بريقه وجمهوره العريض، السبب الثانى هو أننى أيضا مثل علاء عاشقة للسفر ومؤمنة أنه ثقافة مهمة وحية تثرى العقل وتشكل رؤية مختلفة وغنية للحياة والبشر، السبب الثالث هو الغنى الذى وجدته بين غلافى الكتاب وتنوع التجارب مع اختلاف البلدان والقارات التى حط عليها الكاتب رحاله، من اليابان المختلفة تمام الاختلاف عن بلدان الكون على حد وصفه، إلى بريطانيا واسطنبول وفرنسا، الأرجنتين، أوسلو وغيرها من البلاد.
يتميز أسلوب الكاتب بالبساطة والجاذبية فى الحكى، وهذا يقرب المشهد لقارئه ويجعله يعيش التجربة بخياله، كما لو أنه سافر وشاهد وعاش تلك المواقف والحكايات التى تضمنها الكتاب. تحية إعجاب وتقدير بهذا الكتاب الشائق والعودة إلى أدب الرحلات الغنى بالتجارب القيمة الممتعة.

 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي