القبلات تحت تهديد كورونا.. لماذا لا يتخلى الناس عن التقبيل؟

القبلات تحت تهديد كورونا
القبلات تحت تهديد كورونا

لا يعتبر فيروس كورونا هو الأخطر في تاريخ البشرية إلا أنه يأتي من ضمن الأسرع انتشارًا، ولأنه سريع العدوى وغير معروف للأطباء تزداد خطورته كل يوم منذ اللحظة الأولى التي أُعلن فيها عن اكتشافه في ديسمبر 2019 بمدينة ووهان الصينية، وعلى الرغم من محاولات الأطباء والمنظمات في كل مكان دراسة الفيروس الجديد والمرض المسبب له "كوفيد-19"بهدف مواجهته والسيطرة عليه، تبقى الوقاية هي أفضل الحلول، وأول قاعدة ببساطة، هي تجنب مصافحة الأيدي، والاحضان والتقبيل.

وتعتبر الاحضان والتقبيل في بعض الدول جزء من الثقافة للإعلان عن شعور الحب والود أو حتى الترحيب لكي يشعر الآخرين بالحب والقبول ممن حولهم، وهو شعور عرّفه عالم النفس أبراهام ماسلو في ورقته البحثيّة «نظريّة الدافع البشري» عام 1943 والتي أعلن فيها عما يُعرف حاليًا بهرم ماسلو لحاجات الإنسان، حيث تأتي الاحتياجات الاجتماعية في المرتبة الثالثة بعد الاحتجاجات الفسيولوجية في المركز الأول واحتياجات الأمان في المرتبة الثانية.

كان غريبًا وصعبًا من كثرة ما نفعله بشكل يومي واعتيادي، أن يقرر الأشخاص بين يوم وآخر التخلي عن – الاحتضان والقبلات -  هذا السلوك الذي ينقل ببساطة انطباع الحب والقبول، وظهرت عدد من الحملات الدعائية -والغنائية أحيانًا- لإقناع الأشخاص العادين بأن عليهم التخلي عن طرق السلام المتعارف عليها لتجنب تفشي الفيروس، وبالتالي حدوث كارثة يصعب السيطرة عليها.

لماذا يصعب على الإنسان التخلي عن الاحضان والتقبيل؟

وقف الأسترالي جون مان في 30 يونيو عام 2004، بشارع بيت في الحي التجاري المركزي بسيدني حاملًا لافتة مكتوب عليها «أحضان مجانية» وظل واقفًا مكانه لمدة 15 دقيقة حتى اقتربت منه أول سيدة كبيرة في السن لتكون الأولى، بمرور الوقت انضم لمان عدد كبير من الأشخاص ممن أعجبوا بالفكرة التي تهدف بالأساس لتقديم الدعم والتعاطف مع الآخرين بشكل عشوائي وفي أماكن مختلفة، حتى أنها وصلت للعالمية بحلول عام 2006.

لمعت الفكرة في عقل جون مان لأول مرة عندما كان يمر في حياته بعدد كبير من الضغوط والأزمات التي دفعته للشعور بالوحدة والعزلة، وفي يوم من الأيام ذهب لحفلة في منزل أحد أصدقائه، وبشكل غير معتاد بينما كان واقفًا، اقترب منه شخص غريب واحتضنه لثواني ثم اختفى، فشعر بأن حالته النفسية تبدلت، وأنه ببساطة كملك.

جون مان، كان رجلًا عاديًا، لم يختلف كثيرًا عمن حوله سوى أنه كان يعاني من حالة نادرة تسمى بـ«الجوع الجلدي»، لم يكن مدركا لها، وربما لا يدركها أي ممن يصابون بها لأنها تبدو مصطلح غير معتاد.

وتعتبر حاسة اللمس هي أحد أهم الحواس لدى الإنسان، وهي تعمل كمستقبل متصل بالعقل، والجلد نفسه يوجد به عدد من الخلايا الحسية القادرة على استشعار الضغط والألم والبرد والحر وغيرها من الأحاسيس المختلفة، ومن ثم، إرسالها للعقل للتعامل معها. من أهم الأماكن التي تتواجد بها الخلايا الحسية هي الأطراف كاليدين والقدمين، وتكثُر في مناطق محددة بالجسم كأطراف الأصابع والشفاه واللسان، ولأن الجلد يشعر، فهو ايضًا يُمكن أن يُصاب بالمرض.

يرى كوري فلويد، الحاصل على الدكتوراه في الصحة والعلاقات الاسرية من جامعة أريزونا الأمريكية، في مقال له نشره بموقع "فسيولوجي توداي" إن جون مان كان محرومًا من الاتصال البشري والإنساني، حتى أنه عرض أن يقدم هذا الاتصال مجانًا لغرباء في الشارع.
يشرح فلويد أكثر قائلاً،  إن كثير منا قد يشعرون بالوحدة والعزلة أحيانًا وأنهم بحاجة لأن يُظهر لهم أحبائهم وأصدقائهم وشركائهم الدعم والاهتمام بسلوكيات مختلفة، والشعور بشكل دائم ومستمر بأنك في حاجه لتلقي التعاطف من الآخرين هو ببساطة حالة تسمى بالجوع الجلدي.

تمامًا كحاجتنا للماء عند الشعور بالعطش، والطعام عند الشعور بالجوع، والنوم عند الشعور بالتعب والإجهاد، فإن جسم الإنسان يحتاج للعاطفة. ففي دراسة أجريت على 509 شخص لاختبار ما يسمى بالجوع الجلدي، وتأثير ذلك على سلوكهم اليومي ونشاطهم الاجتماعي تبين ان الأشخاص الذين يشعرون بمستويات عالية من الجوع الجلدي يشعرون بالإحباط والوحدة، كما أنهم أكثر عرضة للاكتئاب والتوتر ويعانون من اضطرابات المزاج والقلق.

والجوع الجلدي ببساطة وفقًا لمُحاضرة جامعة إلينوي الشمالية سوزانا وايت، حاجة الإنسان للشعور بالاتصال مع الآخر، فاللمس هو أول حاسة يكتسبها الإنسان، والجلد هو العضو الأساسي لهذه الحاسة. وهذا الشعور يمكن رؤيته ببساطة في احتضان الأم لرضيعها، ورغبة الأطفال المستمرة في أن يتم حملهم واحتضانهم من أجل الشعور بالأمان.

وفيما يخص الأشخاص البالغين، فإن الاحتضان من قِبل من نحبهم ونثق بهم يمكن أن يكون له أكثر من نتيجة، من ضمنها تخفيف القلق والتوتر وضغط الدم وزيادة الشعور بالأمان. كما توضح وايت في مقالتها أن الاحتضان اليومي له تأثير عن سلوك الإنسان خلال اليوم ويعزز من شعوره بذاته.

كما يلعب الاحتضان دور فعال في المساعدة على إفراز هرمون أوكسايتوسين، والذي يُعرف كذلك بـ"اكسير الحب" والذي يلعب دورًا في حفاظ الإنسان على شبابة والتقليل من أعراض الشيخوخة، كما يساعد هرمون أوكسايتوسين على الشعور بالسعادة والرضا، ومساعدة الجسم على التخلص من الشعور بالألم، فوجوده وقت الولادة ولحظة احتضان الأم لرضيعها لأول مرة يساعدها بشكل كبير على تجاوز آلام المخاض.

لماذا نُقبّل الآخرين؟

يرتبط التقبيل ببعض الثقافات في العالم، والتي من ضمنها ثقافات العالم العربي التي ينتشر فيها التقبيل كنوع من التعبير عن الود والترحيب بين الرجال والنساء على حد سواء، باختلاف شكل التقبيل وعدد القبلات المتبادلة.

يعتقد بعض العلماء وفقًا لما ذكره موقع "هيلث لاين" أن القبلات سلوك تم اكتسابه مجتمعيًا تدرج من تقريب الأشخاص لوجوههم وجبينهم وحتى أنوفهم من بعضها البعض في البداية إلى شكله الحالي، وآخرين يعتقدون أنه فعل غريزي، وُجد في طبيعة الإنسان منذ اللحظة الأولى لوجوده.

ووفقًا لعالم الأنثروبولوجيا بجامعة تكساس، فون براينت، فإن بعض العلماء يعتقدون أن التقبيل تعلمه الإنسان عندما رأى بعض الحيوانات تطعم صغارها بواسطة الفم منذ ملايين السنيين، ورغم أنه من الصعب حسم أصل نشأة التقبيل إلا أن التقبيل بشكل عام تم ذكره في مراجع تعود لملايين السنيين وتم إثباته في بعض النصوص القديمة، كملحمة مهابهاراتا الهندية التي تؤرخ للثقافة الهندوسية باللغة السنسكريتية القديمة.

وبشكل مشابهه للاحتضان، يعزز تبادل القبلات وجود هرمون أوكسايتوسين، بالإضافة لهرمون الدوبامين -المعروف كذلك باسم هرمون السعادة-، ونظرًا لوجود عدد كبير من الخلايا الحسية في الشفاه، فإن شعور التقبيل يترك لدى العقل انطباع بالهدوء والشعور الجيد، كما يعزز شعور الأشخاص بالدعم والترابط.

ورغم كونه سلوك متوارث، يتبناه الناس ويمارسوه بشكل يومي واعتيادي، إلا إن تلقينا وإعطائنا الاهتمام والود للآخر، يجعلنا نشعر بالأمان، وقد يكون هذا السلوك وفقًا لموقع "ايفري داي هيلث" هو حجر الأساس في كل العلاقات الإنسانية، فهو ما يوضح لنا أننا متوافقون في علاقاتنا الإنسانية وأننا مقبولون على مستوى الصداقات والعلاقات والأسرة، وإلى أي مدى نشعر بالانسجام والتوافق في الحياة.