حكايات| صلوات خلف أبواب الحجر الصحي الإيطالي.. كابوس «كورونا» لا يرحم

حسام عند نزوله لشراء احتياجاته ويظهر الشارع خلفه خالي تماما
حسام عند نزوله لشراء احتياجاته ويظهر الشارع خلفه خالي تماما

أحمد شعبان

  إيطاليا..  ذلك البلد الأوروبي الجميل.. لم يكن احد يتخيل قبل شهر واحد فقط ان يعيش تلك الفترة القاسية..وهو ما يعلله معظم الايطاليين بأنهم استهانوا بفيروس كورونا الذي انتشر في كل مكان وفرض على البلاد حجرا صحيا إجباريا من الشمال إلى الجنوب.. بل وباتت حصيلة قتلاه وإصاباته تشبه الأرقام التي تنتجها الحروب.

 كل الطرق لم تعد تؤدي إلى روما والمعالم السياحية الشهيرة أضحت مهجورة.. وفي ميلانو العاصمة الصناعية للبلاد خلت الشوارع تماما وباتت ساحة "الدومو" خالية كالأشباح.. والبندقية "المدينة العائمة" رست قواربها على ضفاف قنواتها وهي حزينة.

 

رائحة المرض تنتشر في الأجواء وشعب إيطاليا يجلس خلف الأبواب المغلقة ينتظر الفرج من السماء.. أكثر من 60 مليون شخص  يعيشون  تحت وطأة العزل بعدما باتت إيطاليا  "منطقة حمراء" على حد وصف رئيس الوزراء جوزيبي كونتي عندما أعلن وضع بلاده بالكامل تحت الحجر الصحي في العاشر من مارس الجاري.

 حرب الوباء

الوضع بات يشبه أوقات الحروب اذ حصد الفيروس أكثر من 4 آلاف شخص وأصاب أكثر من 40 الفا آخرين.  دوي صفارات سيارات الإسعاف يصدح في الشوارع الخالية تماما ولا أحد يعلم متى ينتهي ذلك الكابوس.

 «الأخبار» تواصلت مع مصريين وإيطاليين يعيشون هناك لننقل لكم تجربتهم القاسية وروايتهم كيف يقضون أيامهم الصعبة في منازلهم وأي النصائح يريدون قولها للعالم الخارجي بعدما حبسهم الوباء خلف 4 جدران.

 

من المستشفى

وفى شمال إيطاليا حيث بؤرة تفشي الفيروس، تقول نادية 25 عاما " كنت في المنزل عندما تم إعلان الحجر الصحي وأدركت حينها أن الأمور ستزداد سوءا".  وتعيش نادية في مقاطعة بافيا وتعمل كموظفة خدمات عامة بإحدى المستشفيات حيث تتعامل مع أشخاص مصابون بالفيروس يوميا.  وتبدأ عملها في الخامسة صباحا وحتى العاشرة لتعود إلى منزلها وهي خائفة من نقل العدوى إلى عائلتها.. وتقول الشابة الإيطالية إنها تتجنب حتى التجمعات في منزلها خاصة في الغرف غير جيدة التهوية.

 وفي غرفتها تجد لافتة بيضاء وقد كتب عليها "الأمور ستكون على ما يرام"... وبعد الظهر تعود نادية إلى المستشفى لتعمل حتى حلول المساء قبل أن يتم إغلاق كل شئ في البلاد في تمام الساعة السادسة. 

 

وتحرص نادية على إتباع كل سبل السلامة وارتداء الأقنعة خلال التعامل مع أشخاص يشتبه في إصابتهم بالفيروس، وأشارت إلى أن هناك نقصا في المعدات الطبية بسبب ارتفاع عدد المرضى. وأضافت: "للآسف لن تنتهي الأمور عند الثالث من أبريل". وتابعت "الأيام القادمة حاسمة لمعرفة ما إذا كان الحجر الصحي قد نجح أم لا..  هذا ما يقوله الأطباء والخبراء".

 واختتمت نادية حديثها للأخبار قائلة "أغلب الإيطاليين يعرفون تماما خطورة الوضع الآن..  سيتحسن الوضع عندما يدرك الناس المسئولية التي تقع على عاتقهم وأن الأمور ستزداد سوءا إن لم يبقوا في المنزل" .

 ولا يمكن التحرك والخروج في إيطاليا حاليا إلا بعد الحصول على تصريح من وزارة الداخلية وفي حالات محدودة للغاية هي الحصول على الطعام والذهاب إلى عملك إن كان ذلك مسموحا والذهاب إلى الصيدلية. وتمنع الشرطة أي تجمعات مخالفة. وتجد الناس يصطفون أمام محلات الأغذية مع وجود مسافة أمان بين متر ونصف ومترين. كما تستخدم عدة بلديات طائرات مسيرة لتطبيق إجراءات الحجر.

 أسواني في جنوة

 وفي منطقة أخرى من شمال إيطاليا، وتحديدا جنوة، يعيش عبد الحليم سليمان وهو مدرس مساعد بقسم اللغة الإيطالية كلية الألسن جامعة أسوان.

 ويقول عبد الحليم  عن سرعة انتشار العدوى في إيطاليا: "لا أحد يعلم حتى الآن كيف حدث ذلك في هذه الأيام القليلة، الناس والحكومة في حالة ذهول تام مما حدث.. لم يمر بخيال أي أحد أن يتفاقم الوضع بهذه السرعة الرهيبة. لا أحد يفهم كيف نهش هذا الفيروس جسد إيطاليا الجميلة من شمالها لجنوبها بهذه السرعة".

 

وأنهى عبد الحليم  الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة "روما تورفيرجاتا" العام الماضي، ثم انتقل من مدينة روما إلى مدينة جنوة هذا العام، حيث يقوم  بالتدريب والتدريس وإعداد أبحاث ما بعد الدكتوراة في قسم اللغات والثقافات الحديثة بجامعة جنوة للدراسات. وكانت أخر محاضرة لطلابه يوم الأربعاء 19 فبراير الماضي بعدها تم وقف الدراسة ببعض الجامعات الإيطالية.

 والتزم سليمان الحجر الصحي الذاتي بعد ذلك وكان يظن أنها مسألة أيام فقط وتعود الحياة ولكن بعد مرور أسبوعين شعر  بالملل وربما الاكتئاب، إذ لم يستطيع أن ينجز أبحاثه بينما يموت الناس من حوله.  وقد أطلقت مدينة جنوة خدمة طبية تليفونية مجانية لمن يحتاج دعم نفسي في هذا الظرف الصعب.

  ويتابع سليمان أن الكتاب الإيطاليين لم يبالغوا عندما وصفوا هذه الأيام بأنها أيام حرب وأنها أكبر أزمة تمر بها إيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية، وأضاف "الناس هنا ينتابها شعور عام بالقلق مع ارتفاع عدد الضحايا يوميا هل تتخيل إنها حصيلة  حرب من القتلى والمصابين... إنه شعور صعب للغاية وحالة إنسانية يُرثي لها".

 

دموع على الوطن

ولم ينس المحاضر في جامعة جنوة مشهدا لعمدة مدينة باري وهو يسير علي قدميه وحيدا في الشارع، وقد أصبحت المدينة مدينة أشباح، وأخذ الرجل يبكي بصوت عال وبحرقة دامية على حال إيطاليا وشعبها العاشق للحياة. ويقول سليمان "أتفهم جيدا الشعور النبيل، لقد تأثرت كثيرا لهذا المشهد وبكيت. أنا أيضا حزين علي إيطاليا".

 واختتم عبد الحليم حديثه للأخبار  موجها رسالة إلى أهله في مصر حيث قال " لا تستهينوا أبدا بهذا الفيروس، الأمر جد خطير، التزموا بالتعليمات الصحية الوقائية، أرجئوا كل شيء حتى ينقشع البلاء، لا تصافحوا بالأيدي، البسوا الكمامات الطبية، حجموا انتشار العدوى بكل وسيلة ممكنة، أدعو الله سبحانه وتعالي أن ينجي مصر وأن يبعد عنها كل شر".

 ورغم الصورة القاتمة التي تبدو عليها إيطاليا هذه الأيام ورغم كل هذا الفزع من المرض والموت يخرج الناس إلى شرفات منازلهم في الشوارع ويرددون الأغاني الإيطالية الشهيرة مثل "بيلا تشاو" والنشيد الوطني الإيطالي. الجميع رغم قساوة الوضع يحاول الخروج من حالة الاكتئاب والحجر القسرى الذي حبسهم في بيوتهم منذ نحو أسبوعين حتى هذه اللحظة.

 حجر الجنوب الإيطالي

ومن شمال إيطاليا إلى الجنوب حيث مدينة نابولي على ساحل البحر المتوسط، تقول بيرا إنها شعرت بقلق بالغ عند إعلان فرض حجر صحي على كامل إيطاليا ولكنها أدركت لاحقًا أنه مجرد إجراء احترازي يهدف إلى تقليل عدد الأشخاص المصابين بالفيروس".  وتقوم بيرا "23 عاما" بتحضير الماجستير في اللغة والثقافة الإيطالية في جامعة نابولي.

 

 وتشرح الشابة الإيطالية للأخبار صعوبة الأوضاع في نابولي إذ لا يمكن الخروج إلا لشراء الضروريات والأدوية الأساسية  مع ارتداء الأقنعة والقفازات واحترام مسافة الأمان.

 ومنذ السادسة مساء تغلق إيطاليا بالكامل لا أحد في الشارع الجميع في منازلهم يقضي الأيام وسط ترقب وخوف من المستقبل إلى جانب حزنهم على بلدهم.

 وأضافت "بدون شك يشعر الناس بالقلق والخوف بسبب إمكانية الإصابة بالعدوى وقضاء يوم في المنزل شيء ممل للغاية خاصة نحن الشباب". وتابعت "في رأيي، للحد من عدد الإصابات، يجب الانتباه إلى معايير النظافة والصحة لتطبيقها للوقاية والامتثال للقواعد التي تم فرضها علينا. يجب أن نغير نمط حياتنا، بهذه الطريقة فقط سنتمكن من هزيمة الفيروس. أنا متفائلة، ولكن أعتقد أن ذلك سيستغرق بعض الوقت قبل أن تتحسن الأمور تدريجيا".

 

ورغم تفاؤلها وثقتها في أطباء إيطاليا والذين يقاتلون على الخطوط الأمامية كل يوم، فقد أعربت بيرا عن صدمتها من إهمال بعض الإيطاليين الذين وصلوا من شمال البلاد إلى الجنوب بمجرد إعلان حالة الحجر الصحي القسري ، مما أدى إلى زيادة عدد الإصابات "فهمت حينها  كيف يمكن أن يكون الإنسان أنانيًا".

 واختتمت بيرا التي تستغل فترة الحجر لدراسة اللغة العربية، حديثها للأخبار موجهة رسالة إلى المصريين، حيث قالت "في ضوء كل ما نشهده نحن الإيطاليين، أنصح جميع المصريين بتجنب التجمعات في الأماكن العامة، وتقبيل بعضهم البعض في المطاعم. من الضروري اتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة لأننا نواجه جائحة".

  رياضة بالمنزل

ولا نزال في نابولي وهذه المرة مع شاب مصري يُدعى حسام حسن يعيش في إيطاليا منذ سنة ونصف ويقوم بتحضير ماجستير لتعليم اللغة الإيطالية في نابولي . ويقول حسام خريج قسم اللغة الايطالية بجامعة عين شمس "عندما تم إعلان إيطاليا منطقة حمراء شعرت بالقلق خاصة حينما اندفع السكان إلى المحال التجارية لشراء احتياجاتهم".

 وأصبح ابن الإسكندرية في معزل بالمدينة الجامعية في نابولي، حيث يتلقى محاضراته عن طريق الإنترنت. ولم يغفل حسام ممارسة الرياضة التي اعتاد عليها يوميا في السادسة صباحا ولكن بات يقوم بذلك في المنزل".

 ويضيف: "لا يمكن التنبؤ بما سيحدث غدا أو أن الأمور ستتحسن قريبا.. من الصعب وصف شعور الناس هنا.. في حال لم تتراجع أرقام الضحايا فإن إيطاليا بذلك تتجه لكارثة..  الناس هنا في ذعر حقا".

 دعوات لمصر

ويشرح حسام للأخبار الإجراءات الصارمة التي اتخذتها إيطاليا حتى الآن لمنع انتشار العدوى. ويقول إنه من أجل شراء احتياجات المنزل يسمح لشخص وأحد فقط من العائلة بالخروج كما تم إغلاق المساجد والكنائس. وأكد " لا أريد أن تصبح مصر مثل إيطاليا.. من الصعب وصف شعور الناس هنا فأول مرة تعيش إيطاليا هذا الوضع تقريبا أو على الأقل الجيل الشاب.. إن الأمر يمثل صدمة كبيرة بالنسبة لهم".

 واختتم حسام حديثه للأخبار موجها رسالة لأهله في مصر حيث يقول " ليس هناك مجالا للسخرية ولا يصح أن نتعامل مع الوضع باستهتار ولابد أن نأخذ احتياطاتنا ونؤمن أنفسنا وأهلنا". وطالب ابن الإسكندرية الجميع بالبقاء في منازلهم وأن يكونوا على قدر المسئولية و نمنع القبلات والأحضان لأن ذلك ليس مناسبا الآن".

 أما ريكاردو ابن منطقة تورينو القريبة من مدينة أفريا في شمال إيطاليا فيقول إنه عندما سمع الإعلان عن فرض الحجر الصحي "شعرت أن الحياة أصبحت صارمة"، مشيرا إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في نشر الخوف بين الناس.

  وأضاف ريكاردو الذي يدرس اللغة العربية والفارسية "يشعر الناس هنا بالاكتئاب إنهم قلقون على بلدهم إيطاليا وعلى عملهم أيضا". الأمور ستتحسن كثيرا إذا بقي الجميع في منزله واتبع القواعد الصحية". وأكد الشاب الإيطالي أن الازدحام والتجمعات في  محلات الغذاء  ساهم في  انتشار العدوى وارتفاع عدد المصابين.

 وقال ريكاردو "علينا أن نفكر في وضعنا الحالي .. اقضوا هذا الوقت مع أسركم للتخلص من الضغط النفسي ..  ستكون الأم بخير إذا اتبعنا التعليمات لابد أن نبقى في البيت وستنهي الأمور قريبا".