حديث الأسبوع

أزمة مفاجئة خبرت قوة انتمائنا الجماعى

 عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

ثمة حقائق مهمة دفعت بها التطورات الأخيرة إلى مقدمة الاهتمامات والانشغالات لدى الرأى العام، واحتلت موقعًا متقدمًا فى النقاشات العمومية بالفضاءات المفتوحة كما فى المغلقة، وقد يكون من أهمها كيفية التعاطى مع زمن الأزمة الصعبة، ولا جدال فى أن انتشار فيروس كورونا ( كوفيد 19 ) مثل زمن أزمة حقيقية حفلت بالتعقيدات، وأتاح فرصة سانحة لاختبار القدرات الفردية والجماعية فى زمن يتميز بالصعوبة والتعقيد، ويحفل بالمخاطر التى تهدد مصير الفرد والجماعة على حد سواء.
والأكيد أن زمن الأزمة يفرض سلوكا جماعيا وفرديا خاصا واستثنائيا يعكس الوعى العميق لدى الجميع بأهمية تضافر وتكاتف الجهود للتفوق فى تدبير زمن الأزمة، والتعاطى مع تفاصيلها. لكن ما عايناه من تصرفات فردية وجماعية مع الاحتدام التدريجى لأزمة فيروس كورونا فى منطقتنا العربية وفى مناطق أخرى من العالم، كشف عن عجز كبير وفظيع فى ثقافة السلوك الفردى والجماعى للتعاطى المثالى مع زمن الأزمة، وتجلى ذلك من خلال العديد من المظاهر السلوكية السلبية. فقد بدا واضحا أن السلوك الفردى طغى على السلوك الجماعى، وراح كل شخص يبدع فى مواجهة الأزمة وتداعياتها حسب معارفه وإمكانياته، ووفق أنماط تصرف غارقة فى الفردانية والأنانية، مما أضعف القدرة الجماعية على المواجهة، وبدا ذلك واضحا عبر ضعف منسوب التجاوب مع الجهود الكبيرة التى بذلتها السلطات العمومية، والتى اتخذتها فى شكل تدابير احترازية ووقائية، كان ولا يزال، الهدف منها تحقيق عزلة الفيروس وإبادته بشكل تدريجى، وكان العجز واضحا خصوصا فى المناطق التى تأخرت فيها السلطات العمومية فى اتخاذ التدابير اللازمة فى التوقيت المناسب، ولاقت صعوبات كبيرة فى التدارك من جهة، وفى إقناع المواطنين بجدوى وفعالية القرارات التى اتخذتها. وتكشف هذه الحقيقة عن وهن كبير فى قدرات التعبئة الجماعية لتقوية المواجهة وإكسابها الفعالية اللازمة. وإذا كان من المنطقى المراهنة على وسائل الإعلام والتواصل للقيام بأدوار طلائعية فى هذا الصدد، فإن الاهتمام المفرط لكثير من وسائل الإعلام بحيثيات الأزمة وتركيزها على ما يكون كفيلًا بتحقيق استقطاب أكبر عدد من الجمهور، وسعيها غير المحسوب إلى تحقيق السبق، وحرص بعضها على الاكتفاء بإبراز الجانب المأساوى والدراماتيكى للأزمة، وتغييبها للتحاليل وتقديم خدمات التوعية والتعبئة، كل هذا حاد بهذه الوسائل، أوعلى الأقل بكثير منها، على القيام بأدوارها الحقيقية، وترتب على ذلك رزمة كبيرة من الإشكاليات التى زادت من حجم التداعيات. كما أن ما حفلت به شبكات التواصل الاجتماعى بالخصوص مثل تحديا حقيقيا فى ظروف كانت، ولاتزال، شديدة الخصوصية والتعقيد، فلقد وجدت الأزمة فى هذه الشبكات تربة خصبة للإشاعات وافتعال الأحداث والوقائع والتحريض والعنصرية والتمييز والكراهية، وغيرها من الانزلاقات الخطيرة التى زادت من تعقيدات الأزمة ومن خطورة تداعياتها. إن شحن شبكات التواصل الاجتماعى بمضامين منحرفة عن السياق الطبيعى واللازم، عكس من جهته ثقافة التخريب والدمار لدى بعض الفئات.
إن ضعف القدرة على المواجهة الجماعية تجسد أيضا فى أجواء الرعب والقلق التى وجد الفرد نفسه فى خضمها، ولم يجد ما يحفزه على التخلص منها والانتقال إلى الانتماء للسلوك الجماعى الكفيل وحده بكسب رهان أزمة وصفت بحق من أخطر الأزمات التى عرفها المجتمع البشرى العالمى بعد الحرب العالمية الثانية، وتجلى ذلك بوضوح فى الإقبال المفرط على اقتناء المشتريات، خصوصا ما يتعلق بالمواد الاستهلاكية والأدوية، فكل واحد استحضر المصلحة الذاتية فى اللحظة الصعبة، وأنكر المصلحة الجماعية وألغى انتماءه الجماعى. وبذلك فإن جزءا مهما من التكاليف التى سددها العالم خلال مسار الأزمة لحد الآن، قد لا تكون كلها مرتبطة بنقص فى الإمكانيات المالية، أو لضعف فى القدرات البشرية، ودليلنا فى ذلك أن الأزمة عرفت أوجها فى بلدان تتميز بأقوى الأنظمة الصحية فى العالم وبأمهر الخبرات البشرية فى هذا الصدد، بل الأكيد أن جزءا غير يسير من هذه الأسباب ارتبط بشكل مباشر بحالة الذهول والهلع التى خلقتها الأزمة، مما قاد إلى سلوكيات فردية تميزت بالتسرع والارتجال الذى أفضى بدوره إلى اتخاذ قرارات فردية لم تكن صائبة فى مجملها، بل زاد بعض منها فى قيمة الفاتورة التى سددها المجتمع البشرى لحد اليوم.
إن هذه الحقيقة المرة التى أفرزتها أزمة جائحة كوفيد 19 ( فيروس كورونا ) بقدر ما تسائل فعالية ومتانة أنظمة التعليم والتربية والإعلام السائدة حاليا، والتى أنتجت لحد الآن مواطنا خائفا ومذعورا ومهرولا نحو الذاتية والأنانية فى كل امتحان، فإنها تبرز من جهة ثانية الحاجة الملحة إلى قيم المواطنة الحقيقية التى تمتن انتماء الفرد إلى المجتمع وإلى الوطن بعد أن يطمئن إليهما.. لا ندعى أننا خسرنا رهان الاختبار والامتحان فى هذه الأزمة المفاجئة التى عصفت بالعالم، وهزت أركان النظام الاقتصادى العالمى، وألقت بركام هائل من الأسئلة حول قضايا كانت قبلها من المسلمات، وتهم العلاقات الدولية ومتانة النظام الاقتصادى العالمى والهشاشة المفرطة لظاهرة العولمة التى تحولت إلى حطام، بل نؤكد أن استفادة البشرية مما لا يزال يحدث إلى الآن يتوقف على قدرة المجتمع الدولى على الاستفادة مما جرى واستخلاص الدروس والعبر اللازمة من ذلك.