حبوا بعض

الرحيل المفاجئ

أمنية طلعت
أمنية طلعت

من أكثر المشاعر قسوة، مواجهة الرحيل المفاجئ، أن تستيقظ يوماً على رحيل أحدهم دون وداع يليق بالعلاقة. هذا القطع المفاجئ الذى يشطر القلب نصفين كسيف مضى فى الصدر فجأة، لكن المصيبة تكمن فى أنك لا تموت بعدها، بل تظل حياً وعلى شفتيك سؤال معلقا: ماذا حدث؟
كانت مواجهة هذا الأمر بمثابة قدر كُتب علي، خاصة وأننى من الشخصيات التى تتعلق بالآخرين كثيراً. وُلدت بمحبة طبيعية للناس، وفى الوقت الذى يمكن أن تعد هذه ميزة يتباهى بها الإنسان وسط الجمع، إلا إنها لم تجلب لى الكثير من السعادة، فلقد صُدمت كثيراً بالنفور والنكران والانقلاب عليّ دون إبداء أسباب، لكننى لم أتألم لأى من هذا بقدر ما تألمت بسبب الاختفاء المفاجئ لشخص قريب إلى قلبى دون أن يعلن الرحيل أو حتى يمهد له، وظلت هذه القطعات الصادمة فى العلاقات مع الآخرين، ككلمة معلقة فى سقف حلقى لا تسقط أبداً.
بمرور الوقت اعتدت الأمر، لكن للأسف؛ صاحب ذلك فتور فى الإحساس بمن حولي، وأصبحت أتعامل مع الجميع بسطحية، فمع الزمن لم يعد هناك داخلى شغف بالتعرف على الناس أو حماسة من أجل القيام بأنشطة اجتماعية كبيرة، فالعلاقات أصبحت أشبه بشطائر الهامبرجر السريعة، التى تسد الجوع لساعة ولكنها لا تغنيك البحث عن طعام آخر أو تناول الفيتامينات لأنك أصبت بالأنيميا. هذه هى الحقيقة المرة والتى لازمت التطور التكنولوجى المتصاعد والمتسارع منذ تسعينيات القرن العشرين، فالحب والكره أصبح بضغطة زر، والظهور والاختفاء أصبح بضغط زر أيضاً، والأنفس البشرية تبلى تدريجياً حتى أصبحت مهترئة تمر عبر ثقوبها الريح، لنقف جميعاً فى النهاية وحدنا، نخاف الحب والتعاطف درءاً للأذى.
الجميع الآن يتداولون المقولات التى تؤصل للفردية والانسلاخ عن المجموع، والإنسان يذوى ويذبل فى وحدته، دون أن يتوقف أحدنا ليسأل: وماذا بعد؟
علاقات التكنولوجيا السريعة يجب أن تتوقف، وعندما يدخل أحدكم فى حياة آخر، فعليه أن يعرف أنه لا يستطيع الاختفاء هكذا دون كلمات وداع، أو حتى تنويه بالرحيل، فالآخرين ليسو مناديل ورقية تُستهلك لمرة واحدة، وأنت لا تستطيع أن تعيش وحدك مهما ادعيت قدرتك على ذلك، فاعلم أنك قد تضطر إلى العودة يوماً، لمن ألقيت بهم وراء ظهرك، لمن أغلقت فى وجوههم الباب فجأة وشققت صدورهم بنصلك الحاد، فلا تحزن عندما يرفضون فتح الباب لك، ولا تتعجب وهم يصمون آذانهم عن سماع مبرراتك، فكلنا كالمرآة بالنسبة لبعضنا البعض، أنت ترى نفسك داخلى وأنا أرى نفسى داخلك، فاحرص على أن تكون صورتك حلوة.