يوميات الأخبار

الفتى «أخيليس» و«الباز أفندى» !

د. أيمن منصور ندا
د. أيمن منصور ندا

د. أيمن منصور ندا

«الحياة الاجتماعية تحتاج إلى منْ يتأبَّطون الخير، وإلى منْ يجنحون للسلم، وإلى منْ يملأون الدنيا، عن حق، تفاؤلاً وجمالاً وثقةً فى أنفسهم وفى الآخرين».

فى الأساطير الإغريقية يشيرون إلى «أخيليس»؛ طفل تنبَّأ له العرَّافون بأنه سيموت فى معركة، فقامت أمه بتغطيسه فى «النهر المقدس» الذى يمنح ماؤه حصانة لمن يغطس فيه تمنع قتله.. غير أن الأم أمسكت بوليدها من كعبه(عرقوبه) عند وضعه فى النهر فلم يصل ماؤه إلى هذا الجزء، فأصبحت نقطة ضعفه القاتلة.. وخاض «أخيليس» معارك كثيرة ضارية، انتصر فيها كلَّها، ولم يستطع أحد التغلب عليه، غير أنه أُصِيب فى إحدى المعارك بسهم مسموم فى كعبه فمات متأثراً بإصابته.. وأصبح «كعب» أو «عرقوب» أخيليس Achilles tendon تعبيراً عن نقطة الضعف القاتلة فى أى شخص أو مجتمع..
لدى كلّ منّا، نقطة ضعف مميتة؛ موضع لم يصل إليه ماء النهر المقدس، ولم نستطع حمايته وستره؛ تهويناً من شأنه، أو ثقةً فى مناعته وحصانته وعدم دراية الآخرين به.. نقطة الضعف هذه موجودة لدى الأفراد، ولدى المجتمعات، ولدى النظم المجتمعية على حدٍّ سواء.. وليست المشكلة فى وجودها، إنَّما المشكلة فى عدم التنبه لها، وفى عدم الوعى بوجودها، وفى عدم وضع التحصينات اللازمة لمنع وصول الأعداء إليها.. ولأن «معظم النار من مستصغر الشرر»فقد يكون التغاضى عن هذه النقطة مقدمة لكثير من المشكلات الجوهرية.
فى مجتمعنا كثير من نقاط الضعف القاتلة، غير أنَّ أبرزها هي»المعرفة الناقصة» الممزوجة بنوع من «توهم المعرفة المُطْلَقة»، والمغمَّسة بقدر كبير من «الثقة اليقينية».. ليس لدينا معرفة كاملة بأى موضوع؛ لدينا أجزاء غير مكتملة، ورغم ذلك نعتقد أننا نعرف كلَّ شيء.. ونتوهم امتلاكنا الحقيقة المطلقة بشأن كلِّ شيء... جرّب أن تسأل شخصاً عن أى شىء، عنوان مثلاً، وستجد الإجابات حاضرة، والوصفات جاهزة..فى حديث سليمان عليه السلام مع بلقيس، سألها «أهكذا عرشك، قالت كأنَّه هو».. مشكلتنا الكبرى فى كلمة «كأنَّه».. نحن نتصور كثيراً من الأشياء على غير حقيقتها.. كرة القدم لدينا «كأنَّها كرة قدم»، والتعليم لدينا «كأنَّه تعليم»، وكذلك المعرفة؛ «كأنَّها معرفة».. كلُّ شيء لدينا «كدة وكدة».. ومصحوبة بغمزة العين اليمنى والضغط بالأسنان على يمين الشفة السفلى..
قضية المعرفة الناقصة قضية قديمة ومستمرة فى تراثنا العربي، أشار إليها شكيب أرسلان (1869- 1946) فى كتابه الشهير»لماذا تأخَّر المسلمون وتقدم غيرهم؟»، إذ ذكر عشرة من الأسباب فى مقدمتها: المعرفة الناقصة؛ علوم المسلمين غير مكتملة.. الأجزاء الناقصة تغيّر الصورة وقد تعكسها، وتجعلنا دائماً ننظر للمسائل بمنظورات مختلفة ومتخلفة.. وهو نفسه ما أشار إليه «حَمَد الكوارى» فى كتاب بعنوان «المعرفة الناقصة: العرب والغرب فى عالم متغير» (2005) إذ أشار إلى أن معارفنا ناقصة نقصاناً جوهرياً تجعلنا متخلفين عن الغرب.. نحن قوم نركّز على العناوين ونأخذ بها، ونترك التفاصيل ونتجاهلها، بزعم أن الشيطان، والعياذ بالله، يكمن دائماً فى التفاصيل!
وقد لفتت هذه الظاهرة أيضاً انتباه عديد من المفكرين الغربيين..الشاعرأليكسندر بوب (1688- 1744) يرى أن «المعرفة القليلة شيء خطير جداً»..والمؤرخ اللورد توماس ماكولى (1800- 1859) يشير إلى أن «نصف المعرفة أشدُّ خطراً من الجهل التام».. والكاتب جورج برنارد شو (1856- 1950) يعتقد أن «المعرفة الزائفة أكثر خطراً على الإنسان من الجهل».. والروائية شينان ماكجواير (1978-....) تشير إلى أن «المعرفة الناقصة شيء خطير جداً، فمن السهل أن تكون شجاعاً عندما لا تكون على علم بأن تحت وسادتك التى تنام عليها يوجد وحش كاسر»..
فى علم النفس توجد نظرية «توهم/ ادعاء المعرفة» والتى تشير إلى أنَّ الأفراد يبالغون فى ادعاء معرفتهم بالظواهر المختلفة، وبخبرتهم بالموضوعات التى تقع خارج نطاق تجاربهم الحياتية أو التعليمية!! وهى ظاهرة أشبه بالعلم «الخنفشارى» كما تمت الإشارة إليه فى كتاب «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» للمقرى التلمسانى (1578- 1631)، إذ يُحْكى «أنَّ رجلاً كان يفتى كلَّ سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه،فأجمعوا أمرهم لامتحانه، بنحت كلمة ليس لها أصل هى«الخنفشار»فسألوه عنها،فأجاب على البديهة: بأنَّه نبت طيب الرائحة ينبت بأطراف اليمن»!والآن يكثر استخدام كلمة خنفشارى لأى شيء لا معنى له أو لمن يدعى الفهم والعلم وهو لايملك منهما شيئاً.
نحن أساتذة فى «ادعاء المعرفة»، وخبراء فى «المعرفة الناقصة»، ونحن»خنفشاريون» بامتياز، وقد لا نستطيع التفرقة بين «كعب أخيليس» و»كعب الغزال المتحنى بدم الغزال»؛ فكلُّ الأشياء عند العرب صابون، والثقة فى الله نجاح!!
الباز أفندى وشركاه
فى سنوات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، قبضت السلطات الروسية على مسئول روسيّ بتهمة العمالة للولايات المتحدة. وأثناء التحقيق، سُئِل العميل كيف كنت تخدم الولايات المتحدة؟ فأشار إلى أنَّه وبحكم سلطاته، كان يتعمد اختيار الشخص الخطأ لأيّة وظيفة تحت مسئوليته.. وكانت النتيجة انهيار مؤسسته، وبعدها انهار الاتحاد السوفيتى ككلّ..وعلى الرغم من عدم ثقتى الكاملة فى صحة هذه القصة، فإننى أهتم بدلالتها وبالعبرة التى من ورائها:عندما تريد إفساد شيء لا عليك سوى اختيار الشخص غير المناسب للقيام بهذه الوظيفة!!
فى بعض مؤسساتنا توجد عمالة من نوع خاص؛عمالة تناسب الشخصية المصرية العتيقة، وتتفق مع خصائصها؛ عمالة من نوع شخصية «الباز أفندى» كما جسَّدها العبقريّ»توفيق الدقن» فى فيلم «ابن حميدو»..شخصية الباز أفندى هى أفضل تجسيد لما يجب أن يكون عليه الفساد الوظيفى والمجتمعي. شخصية الباز أفندى «ساقط التوجيهية والمتخصص فى كلّ شيء والعكس» هو النموذج الأمثل لبداية انهيار أيّة مؤسسة أو بلد. ليس الباز أفندى شخصاً نراه، ونتعامل معه، ولكنه أسلوب حياة.. وليس الباز أفندى معبراً عن فرد مسئول وله وظيفة، وإنما عن طريقة تفكير، وعن أسلوب حياة مجتمعي..
عندما تكلّف شخصاً لديه خشونة فى المفاصل، وأجرى عملية «غضروف»، ويعانى من «الديسك» لكى يمثل المؤسسة فى مسابقات العدو الطويل.. وعندما تكلّف محامياً غير كفء وسيئ السمعة بالدفاع عن قضيتك.. وعندما تضع شخصية كبيرة فى وظيفة لا تناسب خبراتها الطويلة.. وعندما تجعل مؤسسة كبيرة تعمل فى غير مجالها..وعندما يكون الشخص المختار للخطابة والتأثير فى الناس يعانى التهتهة والثأثأة..فأنت تمثل الباز أفندى..
الباز أفندى موجود فى كلّ مجال.. ليس مهماً أن تكون متخصصاً وخبيراً فى مجالك حتى تنجح وتتبوأ المكانة التى تستحقها.. المهم أن يكون لديك صفات الباز أفندي:الثقة بالنفس، والاعتقاد فى استحواذك على إعجاب المحيطين بك وتقديرهم، وبأنه لا يأتيك الباطل من بين يديك ولا من خلفك، وبأنه لولا وجودك لضاع الآخرون، ولولا إبداعاتك لتحول الكون إلى ظلام، ولولا نصائحك الذهبية لضلَّ الناس وتاهوا فى غياهب الحياة، و»صلاة النبى أحسن»!
فى علم النفس، توجد نظرية تُنَسب إلى العالمين «دانينج» و»كروجر»(1999)، تشير إلى ميل الأشخاص قليلى المعرفة إلى المبالغة فى تقدير مهاراتهم ومعارفهم، وإلى المبالغة فى الثقة بأنفسهم مقارنة بالأكثر معرفة.. فالجهلاء أكثر الناس ثقةً فى قدراتهم، والأكثر جرأةً على الفتوى مقارنة بالمتعلمين (جرأة الجاهل)، وهو ما أشار إليه سابقاً الفيلسوف البريطانى بيرتراند راسل (1872- 1970): «مشكلة العالَم أن الأغبياء دائماً واثقون بأنفسهم أشدّ الثقة، أما الحكماء فتملأهم الشكوك!».. والباز أفندى تجسيد حيٌّ لهذه الظاهرة.
فى أمثالنا الشعبية نقول «الغجرية ست جيرانها، إن ما خافوا منها يخافوا من لسانها»، والباز أفندى خير من يطبّق هذا المثل؛ كثير من المدافعين عن القضايا العامة والمتصدّرين للساحة يطبقون هذا القانون..ونقول أيضاً «سى أحمد زى الحاج أحمد»، والباز أفندى العلمانيّ، هو نفسه الباز أفندى الدينيّ؛ اختلاف فى الزى، وتطابق فى الأفكار.. ونقول أيضاً «ما تخافش من الهبلة، خاف من خلفتها»، وخِلفة الباز أفندى كثيرة، ومنتشرة فى أماكن عديدة، ومهاراتها البازاوية أكثر احترافاً من الباز أفندى شخصياً..
تأبَّط شراً
فى الأدب العربيّ إشارة إلى الشاعر الجاهليّ»ثابت بن جابر الفهميّ»، وهو من الشعراء الصعاليك قبل الإسلام (توفى عام 530 ميلادية)، غير أن سبب شهرة هذا الشاعر تأتى من اللقب الذى اُشتِهر به: «تأبَّط شراً»..وتوجد روايات عديدة فى سبب تسميته بهذا اللقب، ومن أشهرها أنَّ جماعة من قومه جاءوا يسألون عنه أمه فقالت لهم: «لقد تأبَّط شرَّاً وخرج»؛ فى إشارة إلى أنه خرج وقد حمل تحت إبطه سلاحه منتويّاً الشرَّ وعازماً عليه، ومن هنا جاءت شهرته..
فى مجتمعنا المعاصر أكثر من تأبَّط شرَّاً؛ وجوه كثيرة تخرج على الناس وقد تأبَّطت كلَّ أنواع الشرور، وعزمت على التنكيل بكلّ من يعارضها.. من يتأبَّطون الشرَّ ويخرجون للناس لا يربطهم مجال واحد أو مهنة واحدة، ولكن تجمعهم الرغبة فى إلحاق الضرر بالآخرين.. مهنة «الصعلكة» التى كان يمارسها الشعراء الصعاليك فى الجاهلية وعلى رأسهم «تأبَّط شراً» لا تزال سارية فى مجتمعنا المعاصر، بأشكال مختلفة، وبسلوكيات مبتدعة..وليس شرطاً أن يحمل هؤلاء السيف أو الرمح أو المسدس، ولكنهم بدلاً من ذلك يَسلقون الناس بألسنة حداد، ويمارسون ضدهم كلَّ أنواع الترهيب النفسية والاجتماعية..
المزاج العام حالياً لا يميل إلى «صعلكة» تأبَّط شراً، ولا إلى «فتونة» الحرافيش، ولا إلى «تنمَّر» رواد مواقع التواصل الاجتماعي.. الحياة الاجتماعية تحتاج إلى منْ يتأبَّطون الخير، وإلى منْ يجنحون للسلم، وإلى منْ يملأون الدنيا، عن حق، تفاؤلاً وجمالاً وثقةً فى أنفسهم وفى الآخرين.. فيا صديقى المتأبِّط شرَّاً: «كنْ جميلاً تر الوجود جميلاً»..
< أستاذ ورئيس قسم  الاذاعة والتليفزيون - اعلام  القاهرة