«ماخطرتش على بالك يوم تسأل عني.. دا عنيا مجافيها النوم يا مسهرني.. أومال غلاوة حبك فين.. وفين حنان قلبه عليا».. آخر أغنية كتبها أحمد رامي لكوكب الشرق «أم كلثوم» بعد مشوار طويل من الإبداع والعبقرية الشعرية خرج من رحمها 137 أغنية بصوت «الست»، عبر فيها رامي عن مكنون فؤاده وحبه لسيدة الغناء العربي.
يا مسهرني
أغنية «يا مسهرني» التي اختتم بها «رامي» مشواره مع «الست»، وغنتها في عام 1972، تليق بلوثة الحب التي أصابته بها «أم كلثوم» من أول نظرة، دون سبيل للوصول إلى قلبها على مدار نصف قرن بالتمام والكمال من إفصاح رامي مع كل أغنية عن مشاعره تجاهها، ليمكن اختصار هذا المشوار الفني العظيم؛ في أن الحب خسر فيه ولكن الفن والمكتبة الأدبية فازت بهذه الفاجعة من الحب الذي لم يكتمل.
واليوم ونحن نحيي ذكرى وفاة كوكب الشرق أم كلثوم التي توفيت في 3 فبراير من عام 1975، لا يمكن أن نغفل قصة حب رامي التي ضرب فيها أروع الأمثلة للوفاء للحبيبة رغم نار الجوى التي طالت فؤاده، بل ووصلت في فترة من الفترات لهجر وجفاء بينه وبين «الست».
عاشق ونصف قرن
«رامي» الذي لم ينل من أم كلثوم كلمة تطفئ نار الحب في قلبه، اكتفى بأن تشدو حنجرة «الست» بأغنياته، ورغم صبر نصف قرن من الزمان وسنوات الشك والقطيعة، غلب حب رامي حقده، وظل محبا لا يستطيع مغادرة عباءة أم كلثوم، حتى أنه لم يأخذ مقابل مادي عن أغنياته لها، بل كان يكفيه شعور أنها هي من تغني قصائد، رامي الذي نال منه الاكتئاب وهجر الشعر والكتابة بعد وفاة أم كلثوم، ما أن دعاه الرئيس الراحل أنور السادات إلى حفل تأبينها بعد عام على رحيلها، رغم مرضه وعزلته إلا أنه لبى نداء محبوبته فهو ذاهب للقائها في قصيدة؛ رثاها فيها وكأنه يرثي نفسه وحاله، ويسدل الستار على قصة حب أسطورية تستعصي على التكرار من جميع أطرافها، من رجل لا يضن بحبه على امرأة لا تبادله حبًا بحب، حتى بعدما قضت نحبها، حيث أنشد: «ما جال في خاطري أنّي سأرثـيها.. بعد الذي صُغتُ من أشجى أغانيها.. يـا دُرّةَ الفـنِّ.. يـا أبـهى لآلئـهِ.. سبـحان ربّي بديعِ الكونِ باريها».
«رامي» الذي ظل مخلصًا في حبه لـ«أم كلثوم» حتى بعد رحيلها، كان إن أضناه الشوق أو قضم الاشتياق قلبه، يردد حبًا في «الست»: «كيف أنسى ذكرياتي، وهي أحلام حياتي؟.. إنها صورة أيامي على مرآة ذاتي.. عشت فيها بيقيني وهى قرب ووصال.. ثم عاشت في ظنوني وهي وهم وخيال.. ثم تبقى لي على مر السنين.. وهي لي ماض».
نظرة واحدة تكفي
الحب من النظرة الأولى؛ كان عنوان بداية أول لقاء جمع بين «رامي» وكوكب الشرق، ففي يوم الخميس 24 يوليو من عام 1924، دعاه صديقه السيد محمد فاضل، ليسهر معه في حديقة الأزبكية، وفي هذه الليلة وللمرة الأولى يستمع لأم كلثوم التي كانت تشدو بدون آلات موسيقية، وما إن فرغت المطربة الشابة من الغناء، حتى دنا منها؛ وباغتها رامي: مساء الخير يا ستي، وردت أم كلثوم: مساء الخير، فقال رامي: أنا حاضر من غربة ونفسي أسمع قصيدتي، ففطنت أم كلثوم، وقالت: إزيك يا سي رامي.. وغنَّت: «الصَبُّ تفضحُهُ عيونُه.. وتَنمُّ عن وَجْدِ شجونِه»، ومن لحظتها سرى دبيب الحب في قلب «رامي».
خنجر القطيعة
«يا ريتني ما عرفتك يا شيخ»؛ تلك كانت القنبلة التي وقعت على سمع رامي من فم «أم كلثوم»؛ التي فجرت صفو العلاقة بينهما؛ وطوت صفحات الود التي استمرت على مدار سنوات، حيث أنه في حفل تكريم لعبد الوهاب في دار الموسيقى العربية، وقع سوء تفاهم سرعان ما تفاقم بينهما عندما قالت أم كلثوم لرامي: «يا ريتني ما عرفتك يا شيخ».
جملة كان وقعها على رامي كالخنجر الذي غرس في فؤاده، وما أن عاد إلى بيته حتى مزق كل صور أم كلثوم التي كان يعلقها على جدران منزله، واستمر توتر العلاقة بينهما لشهور، حاولت «الست» خلالها مصالحته، ولكن رامي العاشق كان يرفض لقائها لما كان للجملة من وقع مؤذي على قلبه، وانتهت هذه القطيعة في النهاية بالأغنية التي عبر فيها عن استيائه من تصرفها، والتي كانت تقول: «أصون كرامتي من قبل حبي.. فإن النفس عندي فوق قلبي.. رضيت هوانها فيما تقاسي.. وما إذلالها في الحب دأبي».
يحترق لينير طريقي
أم كلثوم حينما سألتها إحدى المذيعات عن «رامي»، قالت عنه: «إنه شاعري يحترق لينير طريقي»، وكانت تؤكد دائما أنها تحب فيه الشاعر وليس الرجل، رامي نفسه يصف عدم مقدرته على التحكم في مشاعره تجاه كوكب الشرق أم كلثوم، بقوله: «ح أفضل أحبك من غير ما أقولك.. إيه اللي حير أفكاري، لحد قلبك ما يوم يدلك.. على هواي المداري»، بل وإنه رغم زواجه وإنجابه أطفالا إلا أنه كان لا يخجل في التعبير عن حبه لـ«الست»، ولعل أغنية: «جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح.. حرام عليك خليه غافل عن اللي راح» تعكس ذلك وتثبت مدى تعلقه بها، والتي بسببها اشتعلت نار الغيرة في قلب السيدة «عطا لله» زوجة «رامي» آنذاك.
تعلق أحمد رامي بأم كلثوم تجاوز مرحلة الحب - على حد وصفه - ووصل إلى حد التقديس، واعترف رامي بهذا الحب العميق في حوار صحفي كان قد أجراه معه الكاتب محمد تبارك، وقال نصا: «أحببت أم كلثوم حتى التقديس.. ولم أندم لعدم زواجي منها.. والآن أعاني الاكتئاب منذ أن غابت عن الدنيا.. ولم يبق عندي سوى الدموع. فقد بكيت كثيرا في طفولتي وشبابي.. والآن أبكي أكثر بعد رحيلها».