بعض مما سكت عنه الحالمون بعودتها «3»

الدولة العربية انتهت بيد الغزو التركي.. وليس الغزو الصليبي

أرشيفية
أرشيفية

العالم المصرى د.جمال حمدان شخصية معرض الكتاب 2020: 
جيش مصر العظيم يمثل أبرز العقد للأتراك سحقه أكثر من مرة فى معارك ضروس

 

د. جمال شقرة، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة عين شمس:
الدولة العثمانية منحت تسهيلات للدول الأوروبية تحولت إلى امتيازات مهدت للهجمة الاستعمارية الشرسة

 

د. طلال الطريفى أستاذ التاريخ بجامعة الإمام محمد بن سعود:
العثمانيون جاءوا إلى الوطن العربى برائحة الموت

 

أسخف ما يقع فيه المؤرخ والباحث التاريخى أن يقع فى أسر العاطفة ويغلبها على الموضوعية العلمية التاريخية..وذلك عين ما وقع فيه العديد من الباحثين العرب فأفسدوا فهم رجل الشارع لحقيقة الغزو العثمانى للدولة العربية.

 

فقد تم تناسى الموضوعية العلمية وغلبوا عاطفتهم الدينية وآمنوا بمزاعم الدولة العثمانية التركية فى أنها حمت الإسلام من الغزو الأوربي.. والثابت تاريخيا -كما سنقرأ فى التحقيق هذا- أنها الغزو العثمانى نبه الأوربيون لأهمية الرقعة العربية.

 

وعلاوة على ذلك يتهمون من يدرس ظاهرة الخلافة العثمانية بموضوعية ويتوصل لذلك بأنه متأثر بالنظرة الأوربية.. ويصفون كل من يتهم الخلافة العثمانية بالوحشية بأنه يتمتع بالروح العنصرية..والتاريخ خير شاهد على محاولات تتريك العرب وطمس هويتهم العربية وفرض تدريس قواعد اللغة العربية بالتركية من خلال معلمين أتراك فى الوطن العربى..!

 

بداية لم أجد أبلغ ولا أدق من وصف العالم الجغرافى المصرى د.جمال حمدان للظاهرة التركية فقد كتب واصفا تاريخ تركيا القديم والحديث قائلا : «تركيا قوة شيطانية مترحلة، بلا تاريخ أو حضارة، واتخذت لنفسها وطنا بالتبني، حتى كتابتها استعارتها من العرب، غراب يقلد مشية الطاووس، يشعرون بعقدة نقص تجاه مصر التى أذلتهم، وسحقت جيوشهم، لكنها نسيت ذلك، وتناطح أسيادها العرب الآن».

 

وعن نوايا الأتراك تجاه العرب يذكر صاحب عبقرية الزمان والمكان :»نوايا الأتراك السيئة تجاه البلاد العربية الإسلامية تأكدت فى القرن السادس عشر، حينما اتجهت الدولة العثمانية إلى الشرق العربي، واتجه الزحف التركى إلى مصر رأسا، عن طريق سورية التابعة للدولة المملوكية المصرية، التى أصبحت مفتاح المنطقة العربية، خاصة بعد أن انتقل ثقل الدولة العربية الإسلامية كاملا ونهائيا إلى مصر بعد تدمير العراق على يد المغول». 


الرشوة والخيانة


ويضيف: «كانت قوات سليم الأول أضعف من أن تنتصر على المماليك فى معركتى مرج دابق والريدانية، لكنهم استخدموا طريقتهم التركية الأصيلة، فعن طريق الرشوة والخيانة استطاعوا استمالة خاير بك وجان بردى الغزالي، وسقطت مصر فى عام 1517 فى يد رعاع الاستبس».

 

كما رصد صاحب «شخصية مصر» الطابع الاستعمارى للاحتلال التركى الذى نهب ثروات البلاد العربية، لتلبية نفقات السلاطين والحرملك وسهرات الفجر والمجون كتب يقول : «كل مظاهر الاستعمار الاستغلالى الابتزازى لا تنقص الدولة العثمانية، فقد كانت تركيا دولة استعمارية تعتصر موارد وخيرات الولايات بلا مواربة، لتحشدها فى خزانة السلطان، الذى ينفق منها على نزواته الشاذة».

 

وفضح المؤلف سياسات الأتراك البربرية فى حكم البلاد العربية، صاحبة التاريخ والحضارة العريقة، وطبقوا فى حكمهم السياسى طريقتهم الاستبسية فى معاملة الحيوان، هم انتقلوا من رعى قطعان الحيوان إلى رعى قطعان البشر، فكما يفصل الراعى بين أنواع القطعان، فصل الأتراك بين الأمم والأجناس المختلفة، عملا بمبدأ فرق تسد، وكما يسوس الراعى قطيعه بالكلاب، كانت الإنكشارية كلاب صيد الدولة العثمانية، وكما يحلب الراعى ماشيته، كانت الإمبراطورية بقرة كبرى عند الأتراك للحلب فقط.

 

دروس الجيش المصرى


وأوضح صاحب «عبقرية المكان أن «جيش مصر العظيم يمثل أبرز العقد للأتراك، فقد أعطى دروسا قوية فى الفنون العسكرية للجيش التركي، وسحقه أكثر من مرة فى معارك ضروس، والبداية كانت عندما سحق الظاهر بيبرس الأتراك المتحالفين مع المغول فى الأناضول، فى معركة الأبلستين عام 1277، وتجدد الصدام فى عام 1488 عندما قاد السلطان قايتباى جيوشه وهزم السلطان بايزيد الثانى فى معركة أضنة».

 

أصبحت مصر القوة الضاربة فى الشرق الأوسط فى القرن التاسع عشر، على يد مؤسس الأسرة العلوية، ويضيف: «عندما قرر محمد على باشا ضم الشام إلى الأراضى المصرية فى عام 1831، وزحف الجيش المصرى وحاصر عكا، المحصنة بأسوارها العالية، ونجح فى كسر جيوش السلطان محمود الثاني، وسيطر على فلسطين ودمشق، ثم التقى بالجيش العثمانى من جديد عند أسوار مدينة حمص ولقنه درسا قاسيا، واستولى على حمص، وباقى المدن السورية».

 

وتابعت مصر ضرباتها المتواصلة للجيش التركى بعدها بـ 8 سنوات، يقول :»ولن ينسى الأتراك ما فعله الجيش المصرى بجيوش السلطان محمود الثانى فى معركة نصيبين عام 1839، عندما لقن نظيره التركى درسا فى فنون الحروب الحديثة، مستخدما قوته المفرطة، حينما أفنى كل الجيش العثمانى فى تلك المعركة، وأسروا 15 ألف جندى وضابط، واستولوا على كل الأسلحة والمؤن».

 

ويذكر حمدان: «وعندما بلغ السلطان العثمانى أمر الهزيمة المنكرة، وفناء جيشه مات حزنا، ولم يكتفِ الجيش المصرى بسحق العثمانيين، وإنما حاصر إسطنبول، واستسلم الأسطول التركى لمصر فى الإسكندرية، وأصبحت الدولة العثمانية بلا سلطان أو جيش أو حتى أسطول، ولولا التدخل الأوروبي، لكانت تركيا من بين ممتلكات مصر».

 

أما عن جماعة الإخوان المسلمين فقد كتب د.حمدان تحت عنوان «دنيا العالم الإسلامي» وصفهم بأنهم «عبء على الإسلام والمسلمين»،واتهم الأحزاب الدينية بأنها «عصابات طائفية، مافيا الإسلام، المطاريد، دراويش القرن الـ20»، واشترط لتقدم مصر والعرب والعالم الإسلامى «شنق آخر الجماعات الإسلامية بأمعاء آخر إسرائيلى فى فلسطين».

 

وبعد أكان يدرى د.حمدان أن تركيا ستتخذ من جماعة الإخوان المسلمين أداة لمحاربة البلاد الإسلامية فى الشرق الأوسط، خصوصا بعد وصول حزب العدالة والتنمية المعروف بميوله للجماعة الإرهابية، واستخدمها إردوغان لاحتلال البلاد العربية فى القرن الحادى والعشرين، فى محاولة منه لتكرار تجربة سليم الأول، حين خدع العرب والمسلمين واحتل أرضهم تحت ستار راية الدين الإسلامي..!

 

التاريخ التركى الأسود


ورصد الجغرافى المصرى جمال حمدان فى كتاباته تاريخ الأتراك الأسود فى البلاد العربية والإسلامية، منذ أقدم العصور، وحتى القرن العشرين، ومن أشهر مؤلفاته التى تطرق فيها لتاريخ الأتراك والعثمانيين على وجه الخصوص «إستراتيجية الاستعمار والتحرير» و»شخصية مصر دراسة فى عبقرية المكان»، و«شخصية مصر وتعدد الأبعاد والجوانب» و«مذكرات فى الجغرافيا السياسية».

 

وقد اوضح د. حمدان فى كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير» أن الأتراك كانوا وبالا على الدولة العباسية، وسبب ضعفها وسقوطها فى النهاية، فيذكر أنها : «كانت الموجة الغزنوية التركية أول ما وصل المنطقة العربية من برابرة العالم الإسلامي، فى القرن الـ11، وانتزعت فارس وما جاورها، ثم بدأت قوة الأتراك السلاجقة الوافدة من آسيا تتسلل وتظهر فى الدولة العباسية، حتى استطاعوا أن يقتطعوا منها أجزاء كثيرة فى غرب آسيا، فأقاموا قاعدتهم فى كرمان وهمدان ثم فى آسيا الصغرى».

 

ويضيف :«انقلب الأتراك السلاجقة على الحكم العربى فى بغداد ودمشق، حتى امتد سلطانهم إلى الشام والأراضى المقدسة، لكن قوة السلاجقة لم تلبث أن تضعضعت تحت طرقات المغول فى القرن الـ 13 على يد جنكيز خان، وفى الوقت الذى كان العالم الإسلامى يواجه خطر الحروب الصليبية، خرج تيمورلنك من عاصمته سمرقند ليكتسح فارس والعراق وشمال سورية حتى دمشق، ولكنه عجز فى التقدم جنوبا بفضل المقاومة المصرية».

 

ويقول جمال حمدان فى وصف الدولة المشوهة، ومنزوعة التاريخ: « إنها تمثل قمة الضياع الحضاري، فى تغيير جلدها أكثر من مرة، الشكل العربى استعارته ثم بدلته باللاتيني، والمظهر الحضارى الآسيوى نبذته، وادعت الوجهة الأوروبية، هى كغراب يقلد مشية الطاووس، وعلى النقيض تماما من مصر، ذات التاريخ العريق والأصالة والحضارة» .

 

الهجمة الاستعمارية

 

ويذكر د. جمال شقرة، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة عين شمس فى حديث له أن إحدى أهم سلبيات الدولة العثمانية هى التسهيلات التى منحتها للدول الأوروبية، والتى تحولت إلى امتيازات مهَّدت للهجمة الاستعمارية الشرسة، مشيراً إلى أن من أبرز إيجابياتها عدم انتهاجها المركزية فى بداية حكمها، الأمر الذى ساعد على احتفاظ الولايات العربية بشخصيتها القومية.

 

ويؤكد شقرة أن هناك إجماعاً على أن نقل الدولة العثمانية الآلاف من العمال المهرة إلى إسطنبول كان وراء انهيار وتدمير الصناعات المصرية التقليدية وتراجعها وتراجع إبداعات الطوائف الحرفية المختلفة، وأن الجريمة الكبرى التى ارتكبتها الدولة العثمانية فى حق الولايات العربية هى العزلة التى فرضتها على العرب بحجة حمايتهم من الاستعمار الأوروبى الصليبى ونبش قبر الرسول.

 

ويضيف: «يرى المؤيدون للدولة العثمانية أنها أجَّلت وقوع الاستعمار الأوروبى للولايات حتى القرن التاسع عشر، ويعدون ذلك إيجابية من أهم إيجابياتها، والحقيقة أن هؤلاء تناسوا وتجاهلوا أن الاستعمار الأوروبى ظاهرة ترتبط بالتطور الرأسمالى للمجتمع الأوروبى، حيث ارتبطت ظاهرة الاستعمار بالنهضة الصناعية واتجاه الدول الرأسمالية إلى الاحتكار، الأمر الذى دفعها إلى احتكار الأسواق ونهب الموارد الطبيعية للولايات العربية».

 

أما د. طلال الطريفى استاذ التاريخ بجامعة الإمام محمد بن سعود فكتب تحت عنوان العثمانيون جاءوا إلى الوطن العربى برائحة الموت:» من صوروا العثمانيين على أنهم حُماة للوطن العربي، فكانوا على الأغلب متأثرين بدعاية «النير التركي»، وفكرة الجامعة الإسلامية التى جاء بها عبد الحميد الثاني، ومن خلالها كان يطمح إلى المحافظة على مكتسبات أجداده الأوائل فى العالم الإسلامي، بعد أن بدت خسارتهم على الجانب الأوروبي.

 

سرقة المخطوطات

 

وفى دراسة لمركز سمت للدراسات يذكر «يبدو للعيان أن أردوغان يحاول جاهدًا أن يعيد تاريخ العثمانيين، فاليوم يعتزم إطلاق اسم فخر الدين باشا على الشارع، الذى تقع فيه سفارة الإمارات فى أنقرة، تخليدًا لذكرى ذلك الحاكم العثمانى للمدينة المنورة ما بين عامى 1916 و1919، الذى اُتهم بسرقة أموال ومخطوطات من المدينة المنورة عام 1916، خلال الحرب العالمية الأولى.

 

حيث الحقبة التى ترأس فيها السيد حسن فدعق، إمام الشافعية بالحرم المكي، لجنة لإحصاء وإسعاف وإعادة النازحين من أهل المدينة المنورة الذين هجرهم فخر الدين باشا، آخر حاكم عثمانى لها، وساهم فى إرجاع حوالى 5 آلاف ممن نجا من ذلك الظالم، بعد أن أخلى فخر الدين باشا المدينة المنورة من سكانها، لأنه كان يخشى من انضمام أهلها لـ«الثورة العربية»، وكان يحاول - قدر الإمكان - أن يبقيها تابعة للحكم العثماني، إضافة إلى مد خط سكة الحديد إلى داخل المدينة، وهدم البيوت التى كانت فى طريق خط القطار، ليتمكن من توصيل السلاح إلى الداخل، وحوّل المسجد النبوى إلى ساحة عسكرية.

 

حملات التهجير التى قام بها العثمانيون فى تلك الفترة، أضرت بسكان المدينة وغيرت ديموغرافيتها، ما أدى إلى سفر أعيان المدينة وأضر بهم ماديًا، ودفع السكان إلى أكل الحشائش لعدم توفر الطعام، وكانت كارثة التهجير الجماعى والقسرى التى اشتهرت فى الحجاز بـ«سفر برلك» ، تلك الجريمة النكراء التى وقعت فى المدينة المنورة، باقتحام جنود فخرى باشا للبيوت الآمنة، وكسر أبوابها عنوة، وتفريق الأسر، وخطف الأطفال والنساء من الطرقات دون رحمة، وجرهم معًا أو متفرقين إلى عربات قطار الحجاز ليتمَّ إلقاؤهم عشوائيًا بعد رحلة طويلة من العذابات فى تركيا والأردن وسوريا.

 

وفى الغالب، لم تكن «سفر برلك» لأهل المدينة المنورة فقط، بل كانت لكل البلاد التى تديرها الدولة العثمانية، بسبب الحرب العالمية الأولى التى وقعت حينها، فكانوا يأخذون الرجال والشباب القادرين على حمل السلاح، ليجهزوهم للجبهات والقتال باسم الدولة العثمانية على يد فخرى باشا الذى تمَّ تعيينه حاكمًا عسكريًا للمدينة المنورة، فأخضعها لحكم عسكرى قاس، وكان أكثر الحكام الأتراك تسلطًا ودموية وضيق أفق.

 

أمَّا أجواء الحياة فى المدينة المنورة، فنقتبسها من الكاتب ضياء عزيز: «لقد جاع أهل المدينة الذين هجرهم فخرى إلى سوريا.. جاعوا بل ومات الكثيرون منهم جوعًا.. لكن قوات فخرى نفسها جاعت فى النهاية أيضًا.. ذلك الجوع الذى جعلهم يأكلون لحوم الخيل والبغال والحمير التى تنفق من الجوع.. بل ويأكلون لحوم القطط والكلاب.. ولا أستبعد صحة أخبار قالت إن بعض الجياع قد أكلوا لحوم أطفالهم».

 

مذابح السوريين

 

ومن ضمن المتجبرين العثمانيين، القائد الشهير بالسفاح، وبالداغستاني، وبالكبير، أحمد جمال باشا (1873 – 1923)، قائد جيش عثمانى عين حاكمًا على سوريا وبلاد الشام عام 1915 وفرض سلطانه على بلاد الشام وأصبح الحاكم المطلق فيها. وهو من زعماء «جمعية الاتحاد والترقي»، وقاتل البلغار فى مقدونيا، واشترك فى الانقلاب على السلطان عبدالحميد. وشغل منصب وزير الأشغال العامة فى عام 1913، ثم قائدًا للبحرية العثمانية عام 1914.

 

جاء إلى دمشق بعد نشوب الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918، واليًا على سورية خلفا للوالى خلوصى بك، وهو من مواليد عام 1872م، وكان ناظرًا للحربية العثمانية، وندبه الاتحاديون وهو من كبارهم، قائدًا للجيش الرابع لإعداد حملة عسكرية لاحتلال قناة السويس. 

 

وكانت منطقة نفوذه تمتد من أقاصى حدود أضنة إلى المدينة المنورة. وكانت أخص أعماله أن يشغل الإنكليز فى حدود مصر ليضطروا إلى وضع قوة كبيرة من جيشهم فى ترعة السويس، ليخففوا بذلك عن الدولة فى جناق قلعة، وعن الألمان فى الجبهة الغربية، وقبض جمال باشا على زمام السلطة فى سوريا، واعتمد على الإرهاب والبطش، وعزز سلطته وبسط سيطرته بالقتل والتشريد للنابهين من العرب، وكان من جراء تأخره فى إعداد الحملة أن وجد الخصم فرصة للاستعداد للدفاع، حتى إذا سارت الحملة فى 4 شباط 1915 فشلت وهزمت وعادت بقاياها منهوكة ممزقة.