الإعلامية نهى ابنه«عازف الكلمات» يحيى حقي تفتح خزائن الذكريات

الإعلامية نهى حقي مع محرر "الأخبار"
الإعلامية نهى حقي مع محرر "الأخبار"

عين عبد الناصر اخترقت قلب والدي .. ورهبة مصافحته أبكتني

والدي حذر مبكرا من الإرهاب .. ورسالة سيد قطب له فضحت تطرف الإخوان

قال للمتحدثين عن أصوله التركية: لو عصرتوني ستجدوني مصري حتى آخر قطرة

تعلمت في الأزهر ومدرسة راهبات.. وجدل تهنئة المسيحي "مرض عقلي"

كتب مقال لرثاء كلب .. وأحبه باعة الورد في فرنسا

قصة لقاءه بفؤاد الأول " كوميدية" .. وأحب ذكاء السادات

حذروه من "زغطة" فؤاد الأول عند لقاءه.. وكاد يسقط عند الإنصراف

تنبأ بفوز زويل بنوبل .. وأسعده فوز محفوظ

لا أحب رواية (صح النوم ) وأدعو النقاد لتفسير نهاية (قنديل أم هاشم)

الإعلام أدخلني في جلباب أبي بالقوة.. وأتمنى منحي مساحة من الذاتية

زوجته الفرنسية أورثتنا حب (شوربة البصل) ثم ذابت عشقا في الملوخية

والدي مات مبتسما على فراش المرض.. وتوفيت زوجته في ذكرى ميلاده

أتحدث لوالدي بعد وفاته بقراءة أعماله.. ولا أنسى مشهد "الحمامة" فوق رأسه

تنبه مبكرا لغزو العولمة.. وطالب بالاستعداد لها بـ"العلم والإيمان"

اشترى "آيس كريم" لطفلة لا يعرفها.. وتحامل على نفسه لزيارة خادمة مريضة

كان مهموما بقضية الأمية  ووصفها بـ " العائق الأكبر" أمام الديمقراطية  

ترك سرير المرض في فرنسا وسافر لمصر عبر ليبيا لمعايشة أجواء نصر أكتوبر

 

بعض الكلمات تكتب لتعيش، وبعضها تكتب لتموت بعد دقائق من نشرها، ولكن ما سطره الكاتب الراحل يحيى حقي بيمينه لا يزل حيا رغم مرور 28 عاما على وفاته.

تستطيع أن تسمع نبض كلماته وأنت تقرأ روائعه " قنديل أم هاشم "، "البوسطجي " ، " أم العواجز"، "عنتر وجوليت"، "صح النوم "، وغيرها من الأعمال التي غاص فيها في قاع المجتمع المصري، للتنبيه بخطورة أمراض عضال تمكنت من الجسد المصري حاليا، وكأنه حين كتبها قبل عشرات السنين، كان يدق ناقوس الخطر، ليشعر قراءه إلى الآن أن هذه الأعمال ربما كتبت في عام 2020.

 ومثل الملحن الماهر الذي تسيطر ألحانه الشجية على المشاعر، يغلف "عازف الكلمات" يحيى حقي رسائله الصادمة التي يحاول توصيلها من خلال أعماله بعرض شيق وعبارات خالية من الزوائد تصطف كلماتها في بناء موسيقي، لتنجح نغماتها في توصيل رسائله القاسية دون إزعاج لقراءه.

وفي ذكرى ميلاده الـ 115 التي مرت قبل أيام، استرجعت "الأخبار" مع ابنته الوحيدة الإعلامية نهى بعض من هذه النغمات خلال حوار امتد لأكثر من ساعتين، وتخلل ذلك لحظات فتحت خلالها خزائن ذكرياتها مع يحيى حقي الأب، لتكتشف أن الرجل الذي كانت كلماته تشع إنسانية و أدبا جما وذوقا رفيعا، كان كذلك في حياته الأسرية والإجتماعية.. وإلى نص الحوار.

*دعيني أبدأ الحوار من المكالمة الهاتفية التي أجريتها معك لتحديد موعد الحوار، حيث كنت تشكين وقتها من البرد، فنصحتك بـتناول "شوربة العدس"، لكنك قلت انك تفضلين "شوربة البصل"، لاكتشف أثناء الإعداد للحوار أن والدك قال في حوار قديم مع مجلة (الجيل) في 1 مايو 1961، أنها من المأكولات الفرنسية التي يحبها من زوجته الفنانة التشكيلية الفرنسية " جان ميري جيهو" ، فهل كان في بيتكم تناغما بين ما هو مصري وفرنسي؟

** تطلق ضحكة هادئة، قبل أن تقول: هذا المدخل للحوار جيد جدا، بالفعل كان هناك تناغما لا تشعر معه بأن هناك زوجين من ثقافتين مختلفتين، ربما يكون أحد الأسباب هو أن زوجة أبي من منطقة ريفية في جنوب فرنسا، فكان مزاجها قريبا منا، ولكن من الأسباب أيضا أنها فنانة تشكيلة، وأبي كاتب ومفكر، فكان بينهما تفاهما واضحا، وكان أبي دائما ما يردد انه " أسعد رجل في العالم، لانه زوجته أمهر طباخة في العالم"، ومن الأكلات التي كانت تجيدها وأورثتنا حبها "شوربة البصل"، التي تمنح في الشتاء دفئا غير عادي.. والمفارقة أنها وبعد أن أورثتنا حبها وقعت هي في حب "الملوخية"، حتى أنها أدخلتها إلى نسيج مطبخ عائلتها الفرنسية، حيث كانت تأخذها خلال الزيارات التي تقوم بها لأبنائها في فرنسا من زوجها الأول قبل أبي، وحتى الآن يطلبون مني الملوخية عندما يعلمون أني قادمة لزيارتهم.

تهنئة المسيحي

*هذا التناغم بين زوج مسلم وزوجة مسيحية، يقودني إلى سؤال: ماذا حدث للمصريين؟ حتى يكون الشغل الشاغل لمواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية: هل يهنىء المسلم زميله المسيحي بعيد الميلاد؟

** تبدلت الابتسامة التي رسمها السؤال السابق بمشاعر حزينة بدت واضحة على وجهها قبل أن تقول: سأرد عليك بما عايشته بعيدا عن منزل أبي، فقد تعلمت في صغري بمدرسة راهبات، ثم التحقت بجامعة الأزهر، ولم أشعر بأي إغتراب، لأن جوهر الدين سواء الإسلامي أو المسيحي هو "الأخلاق".. ولذلك فإن إثارة جدل تهنئة المسيحي هو نوع من "المرض العقلي"، فكيف يجيز الإسلام للرجل أن يتزوج مسيحية ثم يمنعه من تهنئتها بعيدها.. وأنا شخصيا لم أشعر في بيت أبي بأن هناك مشكلة، فهو كان يحترم عقيدتها، وهي كانت تحترم عقديته، فكانت في شهر رمضان تتجنب الشرب أو الأكل أمامنا، وكانت تجمعنا مائدة واحدة وقت الإفطار.

*وما هو السبب في إثارة مثل هذا الجدل في رأيك؟

**ترد على الفور: الجهل وعدم القراءة والإنغلاق على النفس، تسببوا في دخول هذه الدسائس على مجتمعنا المصري الذي لم يعرف مثل هذا الجدل، حتى أني أذكر جيران لنا من المسيحيين كانوا يعدون لنا الكعك في الأعياد، وهذا يقودنا إلى ما نبه له الرئيس عبد الفتاح السيسي مرارا وتكرارا من ضرورة تجديد الخطاب الديني.

العلم والإيمان

*كثيرون ممن كتبوا عن والدك الراحل، قالوا أن أعماله أول من تنبهت لخطورة التيارات الدينية المتشددة، فكيف تنبأ بها مبكرا؟

**تشعر بمشاعر الفخر بادية على وجهها قبل أن تقول بلهجة متحمسة: والدي عمل لفترة ليست قصيرة في السلك الدبلوماسي، وشاهد الحضارة الغربية وتعايش معها، ولكنها لم تؤثر فيه، لأنه كان معتزا بالحضارة المصرية التي عايشها وقرأ عنها، وكتب قائلا إن الحضارة  الغربية لم تنطلي عليه، لأنه جاء من دولة انصهرت فيها عده حضارات هي  الفرعونية والإسلامية والقبطية، فخلقت لها شخصية مستقلة، لذلك أحزنه شيوع الجهل بين المنتمين لهذه الحضارة، الأمر الذي أدى إلى "خزعبلات" كانت تسيطر على تفكير الناس، فكانت روايته " قنديل أم هاشم " بمثابة دق لناقوس الخطر.

*رسالة محاربة "الخزعبلات" واضحة في الرواية، ولكن من أين جاءت فكرة محاربة التشدد التي أشار لها من كتبوا عن يحيى حقي؟

**تخرج الكلمات من فمها سريعة قائلة: الجهل أصل المشكلة، فالجاهل كما يصدق الخزعبلات، فإنه أيضا يمكنه تصديق أي شيء حتى لو كان غير منطقي .. ونحن هنا نتحدث عن الجهل بمفهومه الأوسع، فكم من المتعلمين لم  يغذوا عقولهم بالقراءة، مع أن أول دعوة جاء بها القرآن كانت " إقرأ ".. ورواية " قنديل أم هاشم" هي دعوة للعلم والقراءة، دون أن ينسينا ذلك الجوانب الروحية والدينية.

*تقصدين أنها كانت دعوة للعلم والإيمان في الوقت ذاته؟

**تومىء بالموافقة قبل أن تقول: نعم هذا ما أقصده، فالنص القرآني لم يتغير منذ هبط به الوحي، ولكننا في حاجة إلى قراءته بعيون عصرية، فكثير مما جاء في القرآن، عندما يتم التفكير فيه بعيون عصرية يجعلك تستشعر عظمته، فمثلا عندما نقرأ الآية " لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ " ، فهي نفس الآية التي قرأت في الماضي، ولكننا نفهما الآن بشكل مختلف، حيث أنها تشير إلى الطائرات والأقمار الصناعية وغيرها من الإنجازات العلمية، فالدين بحاجة من حين لآخر لمجددين من روح هذا الدين، مثل الإمام محمد عبده، والإمام محمد متولي الشعراوي، وهو ما عبر عنه المفكر الإسلامي الفرنسي روجيه جارودي عندما قال أن " المسلمون الآن يقرأون القرآن بعيون ميته"، أي انه يقصد أنهم لا يشعرون بروحه وحلاوته.

مواجهة العولمة

*كثير من هذه الأفكار التي جاءت على لسانك تبدو قريبة إلى حد كبير مما قاله الوالد في حوار مع مجلة المصور في 18 ديسمبر من عام 1992، عندما قال أن الإرهاب يأتي من الفهم المبتور والتناقض الذي يعيش فيه الشباب، ودعى في الحوار إلى عدم إغلاق باب الإجتهاد...

**يعيد لها هذا التعليق الابتسامة التي أخفاها هذا الحديث الجاد، لتقول: لم أقرأ هذا الحوار، ولكني سعيدة أني أتكلم نفس لغته، وربما يعود ذلك لفترة دراستي في الأزهر الشريف، حيث تعلمت على يد الشيخ الذهبي، الذي كان له باع طويل في محاربة الأفكار المتطرفة والمتشددة.

*رغم الرسالة الواضحة للرواية التي جعلت الطبيب إسماعيل يتحول من الفشل إلى النجاح في علاج عين مريضته عندما مزج بين العلم والإيمان،  إلا أن بعض الآراء رأت في الرواية دعوة للعلمانية.. من أين جاءوا بذلك؟

**تبدو علامات الدهشة على وجهها، قبل أن تقول بنبره صوت مرتفعة: من يقول ذلك لم يقرأ الرواية جيدا، وإن قرأها لم يفهمها، فالرواية كانت تتنبأ بالعولمة والفكر الذي سيأتينا من الغرب، وهو ما يقتضي منا أن نكون مستعدين لمواجهته بالعلم المستند إلى الشخصية الوطنية حتى لا تنجح العولمة في محو الهوية الوطنية.  

الخروج من سجن " قنديل أم هاشم"

*كان لك تصريح قلت فيه انك لم تقرأي أعمال والدك إلا بعد وفاته، فهل توجد رسالة أخرى في قنديل أم هاشم لم يلتفت لها أحد وتحبي أن توجهي الأنظار إليها بعد أن أعدتي قراءتها أكثر من مره؟

**تبتسم قبل أن تقول: على فكرة والدي كتب أعمال أخرى غير قنديل أم هاشم.

*أعرف أن التركيز على هذه الرواية وحدها ربما يعيد لك ذكرى ليست طيبة، عندما قال لك أحد النقاد ساخرا: من هو يحيى حقي؟ فهو كاتب كل تاريخه قنديل أم هاشم "...

** فعلا هذا حدث، وذهبت إلى والدي باكية، فقد شعرت حينها بأن كلامه فيه نقد لاذع لوالدي، لكنه استقبل ذلك بهدوء شديد وقال لي أن: الكاتب يجب أن يكون مستعدا لاستقبال النقد، وان الناس لن تجمع أبدا على عمل، فكما يوجد من يصفق له، ستجدين من ينتقده.

*لم تجيب عن سؤالي حول الرسالة التي لم يلتفت لها أحد وتحب توجيه الأنظار إليها ...

**طالما أنك لا تريد مغادرة الحديث عن "قنديل أم هاشم"، فاسمح لي أن أتولى هذه المهمة، فبعد رحيل والدي تذكرت مقولته التي كان دائما ما يقولها لي وهي أن أصطحب معي عند السفر كتاب من كتبه حتى لا أشعر ببعده، فطبقت ذلك بعد وفاته، حتى أظل في صحبته وأشعر وقتها أنه يتحدث معي، ومن خلال قراءتي لأعماله أحب من خلال منبركم أن أوجه أنظار القراء إلى مجموعاته القصصية مثل  (سارق الكحل)، ( عنتر وجوليت )، ( دمعة فابتسامة)، ( كأن )، ( امرأة مسيكنة)،  (الفراش الشاغر)، فكلها أعمال تشعر وكأنها كتبت الآن ، ففي عنتر وجوليت على سبيل المثال يرصد بقلمه التباين بين حي بولاق و الزمالك، الذي يفصلهما كوبري، ويوضح أن لكل مكان جماله، وأن الأماكن وان اختلفت، فإن المشاعر لا تختلف.. وبالإضافة لأعماله القصصية هناك، دراسات نقديه، وبعض الكتب مثل " تعال معي إلى الكونسير"، الذي يمكنك أن تتعرف من خلاله على الموسيقى الكلاسيكية، ويشعرك وكأنك تجلس في حفله تستمع إليها، وفي كتابه "من فيض الكريم"، تشعر بنزعة صوفية وحب لأهل البيت،  يجعلك تشعر بالراحة النفسية.

*رغم هذا التنوع الذي أشرت إليه، لماذا ارتبط اسم يحيى حقي بـ " قنديل أم هاشم "؟

**تطلق ضحكة هادئة قبل أن تقول: لازلت مصمما مثل الآخرين على قصر الحديث على رواية "قنديل أم هاشم".

*لدي أسئلة عن روايات أخرى ولكن هذا سؤال مهم...

**الإجابة على سؤالك، جاءت على لسان يحيى حقي نفسه، الذي سئل هذا السؤال أكثر من مره، فكانت إجابته أن رواية "قنديل أم هاشم" خرجت من قلبه كالرصاصة، فاستقرت في قلوب قراءه بالطريقة نفسها.

جلباب أبي

*كنت أتوقع أن تذكري رواية " صح النوم" بين الروايات التي تطالبين القراء بالانتباه لها؟

*لم تنتظر اكمال السؤال، وقالت على الفور: للأسف لا أحبها، فهذه القصة كتبها عام 1954، وهي قصة رمزية فلسفية، كان يرمز بها للثورة من خلال قطار هبط منه أشخاص إلى قرية هادئة، وحاول باستخدام الرموز وصف كيف فعل هؤلاء الأشخاص بتلك القرية.

 *بعض ممن كتبوا عن هذه الرواية قالوا أنها دعوة لليقظة أطلقها يحيى حقي مبكرا؟

**لم اقرأها حتى أبدي رأيا حولها، فهي الرواية الوحيدة التي لم أقرأها له، ولكن دعوة اليقظة التي أشرت إليها توجد في أعمال أخرى كثيرة مثل  " أم العواجز " و " قنديل أم هاشم ".

*رغم دعوته المبكرة لليقظة، إلا أن البعض يرى أنه ظلم حيا وميتا، حتى أن الأهرام أعدت في 18 ديسمبر 2015 ملفا في ذكرى وفاته عبرت فيه عن هذا المعنى، فهل ترين بالفعل انه ظلم؟

** تخرج الكلمات من فمها سريعة: بالعكس ، فأنا أرى أن هناك التفات لأعماله بعد وفاته، فلا يزل له قراءه، وتجرى رسائل ماجستير ودكتوره حول أعماله، وقد تنبأ بنفسه لذلك، وقال ان الناس ستشعر بجهادة في الفن والأدب بعد وفاته، والسبب في ذلك أنه كان صادقا مع نفسه، فعندما أحس انه لم يعد لديه جديد، توقف عن الكتابة، وكان ذلك قبل نحو عشر سنوات من وفاته، ولكنه لم يعتزل وقتها الحياه، وكان يشارك في الندوات والبرامج التليفزيونية.

*ربما من قالوا هذا الكلام يشيرون إلى نفس الأمر الذي أغضبك، وهو حصر إبداع يحيى حقي في " قنديل أم هاشم"؟

**تومىء بالموافقة قبل أن تقول: ربما ذلك، وبالمناسبة فإن والدي قال انه كتب هذه الرواية وهو يعرف انا ستترك بصمة، لكن كان يطالب أيضا بالالتفات إلى أبنائه الآخرين " القصص الأخرى".

وتضحك قبل أن تقول: ربما أزمة والدي مع هذه الرواية، هي نفس أزمتي، حيث يتم حصري في كثير من المناسبات  في اني ابنه يحيى حقي.

 *هذا شرف يغبطك عليه الكثيرون؟

** تتحول من الضحك إلى مشاعر حزينة ترتسم على وجهها قبل أن تقول بنبره صوت هادئة: طبعا انا فخورة بأبي، فالله سبحانه وتعالى أكرمني به،  وأنا أعيش بستره ودعائه لي، فقد كان كل حياتي وصديقي، ولكن يحزنني عندما يجري معي حوارات لا يلتفت أحد لتاريخي كإعلامية عملت في الإذاعة والتلفزيون.

وتحاول أن تعيد البهجة للحوار بالالتفات إلى زميلي المصور قائلة له: يرضيك كده يا أستاذ، فقد أدخلوني رغما عني في جلباب أبي، وكنت أرغب في مساحة من الذاتية، تجعل الناس يتذكروني أيضا لذاتي مثل أبناء الكاتب أحمد بهجب والكاتب صلاح جاهين.

*في رأيي أنهم متميزون أدبيا، ولكن شهرة الأب أفادتهم أيضا؟

**لا أختلف معك، ولكن أصبحت لهم شخصيتهم المستقلة.

*الأمر له جوانب سلبية وإيجابية، ولكن في رأيي ان ايجابياته أكثر؟

**تضحك قبل أن تقول: موافقة مؤقتا عشان خاطرك

رسائل يحيى حقي

*من الأمور التي توقفت عندها عنوان رواية "البوسطجي"، حيث أشعر وكأنها إشاره إلى أهمية الرسائل المتبادلة بين الناس، وربما ذلك هو ما دفع هيئة البريد إلى اصدار طابع بريد يحمل صورة يحيى حقي تقديرا لهذا العنوان...

** تومىء بالموافقة قبل أن تقول: طبعا هناك أدب الرسائل ، وهو أحد الألوان الأدبية المميزة، التي لم تعد موجودة،  وغالبا ما كانت هذه الرسائل بين أديب وآخر، ولكني بالمناسبة أول من نشرت رسائل أب لابنه، وأصدرتها في كتاب "رسائل يحيى حقي لابنته".

*وما هي الرسالة التي لم تأتي في الكتاب وتحبي أن تخبرينا بمضمونها؟

**توجد رسائل كثيرة في الكتاب لم أنشرها بعد، والسمة المميزة لهذه الرسائل أنك لا تستطيع أن تعرف هل كتبها لي وأنا في عمر 12 عام، ولا في عمر 40 عام مثلا، فهي رسائل صديق يحكي لصديقه عن يومياته، فمثلا هناك رسالة يحدثني فيها عن ذهابه للسينما ومشاهدته لأحد الأفلام، ثم يحكي لي تفاصيل الفيلم.

*أريد تفاصيل رسالة لم تتحدثي عنها في الكتاب؟

**تصمت لوهلة قبل أن تقول: ربما الرسالة التي حدثني فيها عن حمامة بيضاء دخلت البيت، وصارت صديقة لهم، حيث يضعوا لها الطعام في طبق خاص، وتجد راحتها أحيانا في الجلوس فوق رأسه، ويسأل في الرسالة عن سبب ارتباطها بهم، وهل فقدت ونيسها، فوجدت الراحة عندهم.

وتصمت لفترة أطول أسترجعت خلالها الذكريات، لتقول وهي تحاول اخفاء دموعها خلف ضحكة مصطنعة: بعد عودتي من السفر، كانت هذه الحمامة التي حكى عنها في رسالته لا تزل موجودة في المنزل، ولا أنسى مشهده وهو يرتدي جلباب أبيض، وتجلس فوق رأسه حمامة بيضاء، والابتسامة تملأ وجهه.

وتضيف ساخرة: طبعا لو كان هذا المشهد بهذا الزمن كانت كاميرا الموبايل التقطت تلك الصورة، فقد أصبح هناك هوس بتصوير أي شيء.

السيرة الذاتية

*ربما هذا الهوس أضر بالمواهب الأدبية، فبدلا من أن يكتب الانسان رسالة يصف فيها مشهد قابله، يكون الطريق الأسهل أمامه هو تصويره؟

**لكل زمن أدواته، فروح العصر السريعة لم تعد تتحمل على سبيل المثال الروايات الطويلة، فثلاثية نجيب محفوظ التي أرتبطنا بها واعتبرها من أهم الأعمال في الأدب العربي، ربما لو كتبت في هذا العصر، لن تجد من يقرأها.

*تقصدين أن هذا الوقت هو وقت القصة القصيرة؟

*تومىء بالموافقة قبل ان تقول: بالطبع هو زمن القصة القصيرة، ولكني أجد استثناء لذلك في أعمال المذكرات الشخصية، فهناك اقبال عليها، حتى لو كانت طويلة.

*ربما لأنها مسلية؟

**ليس ذلك فحسب، ولكنها تحكي تجربة شخص، يمكن ان تكون مفيدة للآخرين، وأنا شخصيا أنتوي قريبا اصدار مذكرات شخصية أحكي فيها عن تجربتي الشخصية وعلاقتي بوالدي وأصدقائه من الكتاب والمفكرين.

رسالة سيد قطب

*على ذكر الرسائل، توقفت أمام رسالة تلقاها والدك من سيد قطب قبل تحوله الفكري ليصبح المنظر الفكري للأخوان، حيث كتب بهذه الرسالة التي نقلها صديق والدك الكاتب فؤاد دواره في مقال بمجلة المصور بتاريخ 18 ديسمبر 1992 ، أن يحيى حقي يستحق الجلد بسبب كسله الأدبي رغم أن لديه الكثير ليقدمه، هل قرأتي هذه الرسالة؟

**قرأت ما كتبه الكاتب فؤاد دواره عنها.

*ألم يسترعي انتباهك استخدام سيد قطب لكلمة قاسية وهي الجلد، حتى ولو من قبيل التحفيز؟

**كلمة قاسية بالفعل.

*ألا يكشف ذلك عن ميول متطرفة ظهرت لديه في مرحلة مبكرة، حتى لو لم يعلن وقتها تحوله نحو الفكر الإخواني؟

 **تخرج الكلمات من فمها سريعا: طبعا هذه الكلمة تكشف عن ميول مبكرة نحو التطرف، وتثير الريبة والشك في مصداقية ما كان يكتبه قبل تحوله الفكري، وهل كان يقصده، ام انه كان يريد أن يتسلل من خلاله لتحقيق أغراض أخرى، لأني لا أستوعب أن يتحول كاتب وناقد أدبي هذا التحول، لأن الكاتب يكون مرهف الحس والمشاعر.

*ولكن من وجهة نظرك ما الذي يجعل شخص كان أديبا وناقدا، يتحول هذا التحول؟

**ليس لدي رد، فهذه الفئة لا أريد أن أسمع عنها أو أقرأ لها، ولكني أحب ولا أمل الحديث عن نماذج مثل الشيخ الباقوري والشيخ الذهبي، فمثل هذه الشخصيات تشعر وأنت تستمع لحديثهم أنك تعيش في واحة هادئة، فكلامهم طيب يريح القلب.

وفاء الشعب المصري

*أشعر دوما في حديثك بتقدير للشخصيات التي تمثل "الإسلام الوسطي"، ويبدو أنكي ورثتي ذلك عن والدك، والغريب أن زوجته الفرنسية ورثت ذلك أيضا، وان كانت لم تسلم، ففي حوار أجرته معها الأخبار في 19 يناير عام 1983، أثناء تسلم والدك للدكتوراه الفخرية من جامعة إلمنيا، سئلت عن ملاحظاتها على الصعيد، فقالت ألاحظ كثرة الفتيات المحجبات وهذا رائع...

 **تظهر الدهشة على وجهها قبل أن تقول: لا أظنها اهتمت بالمشهد من منطلق ديني، ولكن ربما كانت تراهم حسنوات الوجه، فالحجاب يعطي وجه بعض السيدات جمالا، وبعيدا عما كانت تقصده، هي في الأساس كانت تحترم خصوصيات الناس، مثلما نحترم نحن خصوصية الغرب عندما نسافر هناك، ونشاهد مشاهد تبدو غريبة علينا، ولا نعلق عليها أو نستهجن فعلها.

*من بين ما قالته زوجة والدك في الحوار أيضا أنها سعيدة بوفاء الشعب المصري ليحيى حقي، فهل لا يزل الشعب المصري وفيا لذكراه إلى الآن؟

**تبتسم قبل أن تقول: يسأل في ذلك الشعب المصري.

*دعيني أسأل السؤال بصيغة أخرى، هل تشعرين أنه لا يزل وفيا لذكراه؟

**تحاول ان تخفى مشاعرها الحزينة خلف ابتسامة باهتة ارتسمت على وجهها وهي تقول بنبره حزينة: من يتعامل مع يحيى حقي لا يستطع أن ينساه، فقد كان يملك ابتسامة رقيقة تأثر  القلوب،  وسأحكي لك حكاية تثبت ذلك، فقد زارني في البحرين حيث كنت أعمل انا وزوجي هناك، فكنا نتركه صباحا للذهب للعمل، فكان يقضي وقته في الحديث مع "الجنايني"، وبعد أن غادر البحرين بعد انتهاء الزيارة، لا يمر يومين إلا ويسألني الجنايني عن والدي ويطلب مني الاتصال به للحديث معه.

وموقف آخر، عندما توفى والدي وسافرت إلى فرنسا لزيارة زوجته التي توفت  بعده بعامين في يوم ذكرى ميلاده ( 7 يناير عام 1994 )،  وأثناء سيري معها في الشارع المؤدي لمنزلها كان باعة الورد في الشارع عندما تخبرهم زوجة والدي اني ابنه يحيى حقي يتباروا في الحديث عنه قائلين أنهم لن ينسوه أبدا.

مواقف لا تنسى

*من الواضح أن الجانب الانساني كان متجذرا في شخصيته، ومن أبرز ما كتب عنه في هذا الإطار، انه كان يقف للخادمة ليتناول منها القهوة، ويتحدث للطفلة الصغيرة، وكأنها فيلسوف، فهل توجد مواقف انسانية له لا تغادر ذاكرتك؟

** تصمت لوهلة تلتقط فيها الأنفاس، قبل أن تقول: أذكر انه اتصل بي يوما، طالبا مني اصطحابه لزيارة زوجة البواب في المستشفى، وتحامل وقتها على نفسه رغم عمره، وصعد للطابق الرابع باستخدام السلم حتى يزورها.

*كنت أتوقع أن تتحدثين عن تنازله عن سريره في المستشفى لمصابي زلزال عام 1992، وهي الواقعة التي تحدثت عنها الصحف كثيرا...

** مثل يحيى حقي ما كان ليفعل غير ذلك، فقد  دخل مستشفى المقاولين العرب لاجراء بعض الفحوصات الطبية، وعندما وقع الزلزال، لم يكمل الفحوصات، وغادر المستشفى تاركا سريرة لحالات أشد احتياجا له.

وتحاول أن تحبس دموعها، فيفضحها صوتها الشجي، وهي تقول:  وهناك موقف آخر تذكرته الآن وقع في طفولتي، حيث اشترى لي آيس كريم من أحد المحلات في مصر الجديدة، وشاهد على الرصيف المقابل للمحل، أسرة مكونة من أب وأم وأبناء، ومعهم طفلة كانت على ما يبدو خادمة لديهم، وكان جميعهم يتناول الآيس كريم إلا الطفلة الخادمة، فتأذى كثيرا من هذا المشهد، وقام بشراء آيس كريم، وقال للأسره ان ابنته اشترته له، وهو رجل كبير لا يتناول مثل هذه الأشياء، واستأذنهم أن يعطيه للطفلة الصغيرة.

لقاء عبد الناصر

*ومن مواقفه مع البسطاء إلى مواقفه مع الرؤساء، حيث استوقفني وصفه للقاء جمعه مع عبد الناصر، تم ذكره في الكتاب الذي قمت بإصداره تحت عنوان " ذكريات مطوية ليحيى حقي"، فهل توجد تفاصيل أخرى عن هذا اللقاء غير التي وردت بالكتاب؟

**تطلق تنهيده عميقة، قبل أن تقول بلهجة خجولة: ممكن قبل ما أتحدث عن هذا اللقاء، اتحدث عن لقاء جمعني أنا شخصيا بعبد الناصر، حيث كان عمري وقتها 15 عاما، وكنت مدعوة في حفل زفاف ابنه مسئول كبير بالدولة، وقدمني هذا المسئول إلى الرئيس جمال عبد لناصر، فصافحني قائلا " أهلا وسهلا"، ولا أنسى حتى الآن كيف بكيت و أصابني الخرس بعد هذه المصافحة، فقد كانت عينه بها رهبة كبيرة.

*ركزتي في وصفك على العين، وهو نفس ما لفت انتباه والدك في الواقعة المذكورة بالكتاب؟

**تضحك قبل أن تقول: أكيد لن أستطيع ان أصف، مثلما يصف يحيى حقي، حيث وصف عين عبد الناصر بأنها كانت مثل الصقر الذي اخترق قلبه.

*وما هي مناسبة لقاءه بعبد الناصر؟

**أثناء عمله بالسلك الدبلوماسي، تم تعيينه وزير مفوض بدرجة سفير في السفارة المصرية بليبيا عام 1954، وكان يتعين عليه قبل السفر الذهاب لملجس قيادة الثورة، ليأخذ التعليمات الخاصة بالمهام المكلف بها، فقابل في البداية الرئيس محمد نجيب، ودار بينهما حديث ودي قصير لم يتطرق إلى أي تعليمات، وعندما سأله عن التعليمات، قال له انه سيأخذها من البكباشي جمال عبد الناصر، وخرج بعد لقاءه معه وهو على يقين بأن هذا الرجل بتلك الشخصية الطاغية هو مفجر الثورة.

*ما أعلمه أنه ما ان تزوج زوجته الفرنسية في عام 1955 تمت اقالته من السلك الدبلومسي، فلم تتح له مقابله السادات.. أليس كذلك؟

**لم يقابل السادات بصفته الدبلوماسية، ولكنه قابله أكثر من مره بصفته الصحفية، لأن السادات عمل لفترة بالصحافة، وكان يعجبه دهاء السادات وذكاءه.. وكنت أتمنى بما أننا نتحدث عن لقاءه بالرؤساء، لو أنه قابل الرئيس عبد الفتاح السيسي وسجل انطباعه عنه.

*وما هو الانطباع الذي كان سيأخذه؟

**من واقع معرفتي بأبي، كان سيراه كرئيس يجمع بين سماحة الوجه  والقوة والدهاء السياسي في الوقت ذاته، فهو أقرب إلى شخصية السادات.

"زغطة " فؤاد الأول

 *وقبل قيام الثورة، هل أتاح له عمله الدبلوماسي لقاء ملوك العصر الملكي؟

**تملأ الابتسامة وجهها، قبل أن تقول: من الجيد أنك سألت هذا السؤال، حيث كانت قصة لقاءه بالملك فؤاد الأول كوميدية للغاية، وكان وقتها لا يزل في بداية حياته العملية في السلك الدبلوماسي، ووفقا للنظام الذي كان معمولا به وقتها، يجب أن يقابل الملك قبل السفر، فأعطوه قائمة من التعليمات، وهي ان يدخل إلى الملك بوجهه ويعود بظهره، ويسمع ما يقوله ولا يتحدث على الإطلاق، وعندما ينتهي من حديثه فهذا يعني ان اللقاء انتهى ويتعين عليه الإنصراف، وكانت أطرف التعليمات أن الملك تنتابه نوبات " زغطة" من حين لآخر، فإذا حدث ذلك أثناء اللقاء، فلا تبتسم أو تبدي دهشة.

وتطلق ضحكة عالية قبل ان تقول: كان والدي خائفا من أن يحدث هذا الموقف ولا يستطيع السيطرة على رد فعله، ومر الموقف بسلام، لكنه في النهاية كاد يسقط أثناء العودة بظهره، لولا مساعدة كبير الياوران في القصر.

*من التصريحات التي توقفت أمامها ، هي دعوة يحيى حقي للكتاب بألا يشغلهم النقد، وهو ما بدا متناقضا مع تصريح آخر قال فيه انه سيحزن كثيرا إذا لم يلتفت النقاد لتجديداته اللغوية، كيف أوفق بين التصريحين؟

**تشير بإصبع الإبهام اعجابا بالسؤال، قبل أن تقول: والدي كان يرى انه لا أدب بدون نقد علمي يبرز الإيجابيات والسلبيات، ثم يدرس الكاتب ما جاء بالنقد فإن وجده نقدا موضوعيا يستفيد منه، وان لم يكن كذلك فلا يشغله عن مواصله مسيرته، ومن ثم فهو يقصد بالالتفات لتجديداته اللغوية، هو ان يكون هناك نقد علمي ينتبه لهذا الأمر الذي يميزه.

*الشيء بالشي يذكر، مع أن السؤال قد يغضبك لارتباطه أيضا برواية " قنديل أم هاشم"، هل قرأتي النقد الذي كتبه الكاتب د.رشاد رشدي لهذه الرواية، والذي قال فيه ان " كثير من قصصنا لا معنى لها، لأن الفاعل فيها مجهول، مثل شخصية البطل (إسماعيل) في الرواية"؟

**يبدو الحماس واضحا على وجهها لغيرتها على أهم أعمال والدها، قبل ان تقول: هو يريد بذلك أن يقول أن التحول الذي حدث في شخصية اسماعيل، والذي جعله يدرك انه لا قيمة للعلم بدون مسحة إيمانية، كان مفاجئا، وهو غير صحيح، فقد حدث الكثير من الأمور في بناء الحوادث بالرواية أوصلتنا إلى هذا التحول.. ولكن من واقع قراءة حديثة للرواية، قفز إلى ذهني سؤال أتمنى ان أجد اجابه عليه عند النقاد، وهو تفسير نهاية الرواية، حيث تحول إسماعيل إلى شخص فاقد للحماس، وأصبح مجرد انسان عادي ، وتغير شكله وأصبح ثمينا، ويدخل كل يوم على زوجته حاملا بطيخة مثل ملايين المصريين، فماذا كان يقصد يحيى حقي بهذه النهاية.. والشيء بالشيء يذكر، فقد توقفت أيضا عند اختلاف نهاية "البوسطجي" بين الرواية والفيلم، فكانت النهاية عنيفة في السينما، حيث حمل الرجل ابنته الذبيحة، وكأنها طائر مذبوح، بينما في الرواية تدق أجراس الكنائس معلنة وفاة شخص.

غياب النزعة القومية

*وفي اطار الحديث أيضا عن النقد، فمن بين السلبيات القليلة التي ذكرها بعض النقاد، أن يحيى حقي لم يكتب شيئا عن القومية العربية؟.. فهل لك رد على ذلك؟

**تبدو الدهشة واضحة على وجهها قبل أن تقول: ليس شرطا لتقييم الكاتب وانتاجه، السؤال ان كان قد كتب عن القومية العربية أم لا، فهو مصري معتز بمصريته، وبالمناسبة الكتابة التي تغرق في المحلية هي التي تجد قبولا بالخارج، ولذلك اهتم الفرنسيون بكتاب "الصدمة" الذي يتضمن ترجمة قام بها المستشرق الفرنسي شارل فيال لروايتي " قنديل أم هاشم " و "الوسطجي" ، حيث تلخص الأولى صدمة انتقال البطل من الحضارة الغربية للشرقية، وتلخص الثانية صدمة الإنتقال من القاهرة للريف.

* اللافت أنه كان معتزا بمصريته رغم أصوله التركية...

**يزعجني الحديث عن هذا الأمر، كما كان يزعج والدي، فهو مولود في حي شعبي بمصر، وكل علاقته بتركيا انا جده كان تركيا، ولكنه كان مصريا حتى النخاع، وكان يقول: " لو عصرتم دمي بمعصرة القصب، ستجدوني مصري حتى آخر قطرة"، وسأحكي لك مشهد يؤكد ذلك، فقد كنت معه بفرنسا عام 1973، حيث كان يعالج وقتها هناك على نفقة الدولة، وعندما قامت حرب اكتوبر، غادر المسنشفى التي كان يعالج بها، وتوجه للسفارة، عارضا المساعدة في أي شيء بحكم خبرته الدبلوماسية السابقة، وأصر وقتها على العودة لمصر رغم عدم وجود طيران مباشر بسبب ظروف الحرب، ومن اجل ذلك سافرنا إلى ليبيا، ثم اخذنا سيارة من ليبيا إلى القاهرة، وكانت رحلة شديدة الشقاء، وتحملها رغم ظروفه الصحية، ليعيش أجواء الانتصار.

*ورغم اعتزاه بهذا النصر لم يصفه بأنه أهم الأحداث التي مرت بتاريخ مصر، ووصف في أكثر من حوار ثورة 1919 بأنها أهم حدث؟

**كل من عايشوا هذه الثورة في شبابهم وصفوها بذلك، فقد كانت ثورة فارقة تسببت في ميلاد الكثير من العظماء، فمن رحمها خرج فنان الشعب سيد درويش، ورجل الاقتصاد طلعت حرب، والمدرسة الحديثة في الأدب، وحتى تعرف الاجيال قيمة نهذه الثورة، أدعوهم لقراءة كتاب "صفحات من تاريخ مصر" ليحيى حقي، والذي كتب مقدمته اد.جمال حمدان، فهو من أمتع ما كتب والدي، حيث تستمع عند قراءته بأسلوب قصاص يقص لك التاريخ.

جائزة نوبل

*اللافت أن والدك لم يكن يرد على هذه الإنتقادات، ولم يدخل في معارك أدبيىة مع أحد، فصار محبوبا من الجميع، وهو ما دفع الكاتب الكبير نجيب محفوظ إلى القول عندما سئل عن الشخص الذي يهديه الجائزة، فقال: كنت أتمنى لو أنها ذهبت ليحي حقي، فكيف استقبل والدك هذا الكلام؟

**تبتسم قبل ان تقول: والدي كان سعيدا جدا بفوز نجيب محفوظ، وعلق على تصريحه بتواضع شديد، حيث قال: " وجدني الأكبر سنا في الوسط الأدبي، فأراد أن يجبر بخاطري".

*ولكن والدك عندما سئل قبل ان يفوز محفوظ، حول من الأحق بالجائزة، فقال  "بلا شك  شيخنا توفيق الحكيم "، فهل كان ذلك أيضا من منطق إجلال الكبير؟

**لا خلاف على أن العصر كان ذهبيا، وكان رموزه مثل حبات اللؤلؤ التي لا تستطيع أن تميز أحداها عن الأخرى، ووالدي عندما سئل في موضع آخر عن نجيب محفوظ، عبر عن سعادته بأن عاش في عصر نجيب محفوظ.

*وهل لم يراوده حلم الفوز بنوبل؟

**تلتقط فنجان من القهوة أمامها لتأخذ رشفة منه، قبل أن تقول: سألت والدي هذا السؤال بعد فوز نجيب محفوظ، فقال لي ان الجائزة لن تذهب بعد ذلك إلى الأدباء، وستكون في المرات القادمة من نصيب العلماء، وقد تحققت نبوءته وفاز بها د.أحمد زويل.

*من المخاوف التي عبر عنها يحيى حقي في أكثر من مقابله صحفية هي تأثير نسب الامية المرتفعة على السعي نو الديمقراطية، حيث كان يرى انه لا ديمقراطية في وجود الأمية، فهل عبر عن هذه الرسالة أيضا في أعماله؟

**لم تنتظر إكمال السؤال، وقالت: كل أعماله كانت تدعو لليقظة ومحاربة الجهل والأمية، ولكني أظنه هنا كان يتحدث عنها الأمية بمفهومها الواسع والتي كان يراها العائق الأكبر أمام الديمقراطية، لأنه هناك من يحملون شهادات لكنهم أميين، والسبب أنهم لم يتعلموا اللغة العربية بشكل صحيح.. وكان والدي يتمنى أن نتخلص من هذه الأمية، لأن التعلم الصحيح سيجعل الشخص يقرأ بشكل صحيح، ويتكلم بشكل صحيح، ويفكر عقله بشكل صحيح أيضا، وبالتالي يستطيع أن يختار الخيار الصحيح.

مشهد الوداع

*من المؤكد أنه توفى قبل أن تتحقق له هذه الأمنية، فهل شعر باليأس ولذلك توقف عن الكتابة قبل وفاته بسنوات؟

**والدي توقف عن الكتابة كما قلت سابقا، لأن وجد انه لم يعد لديه جديد يقدمه، وذلك لانه كان صادقا مع نفسه، لكنه لم يفقد الأمل ابدا والابتسامة، حتى وهو على فراش الموت.

* وفي نهاية الحوار، هل يمكن أن تحك لنا مشاهد من لحظات الوداع أم سيكون الأمر مؤلما؟

**تلمع دمعة محبوسة في عينيها وهي تقول: كنت أقيم مع زوجته في غرفة مجاوره لغرفته بالمستشفى، ولم استطته رؤيته في لحظاته الأخيرة، ولكن زوجته كانت بحواره في تلك اللحظات حتى توفي، وخرجت تقول لي أنها لم تشاهد قط متوفيا مبتسما مثل والدي، وهي بشرى طيبة، لانه كان رجلا طيبا لم يؤذي في حياته إنسان أو حيوان.

وسأحك لك قصتين نختم بهما الحوار، فقد كانت لي قطة، خشيت ذات يوم من أن تؤذيه بصوتها فلا يستطيع انا ينام، فحبستها في دورة المياه، لاستيقظ في اليوم التالي وأجد القطة تنام بجواره على السرير، وعندما توفى الكلب الخاص بي، وكان يحتفل بوالدي كلما شاهده كتب مقالا يرثي فيه هذا الكلب، وييمتدح ذكائه، وكيف انه لا يهمه ان كان يأكل في طبق من ورق أو فضه، طالما انه يشعر باحساس الحب والأمان في البيت الذي يوجد به.

وقبل أن أتركها قلت لها: " اسمحي لي أن انهي انا الحوار، فإذا كنا نتحدث عن انسانيته، فيكفيه مشهد الآيس كريم الذي أعطاه للطفلة الخادمة".