تساؤلات

روزى تقول..

أحمد عباس
أحمد عباس

 متسلقان كُنا فى ساعة غياب - روزى وأنا - حواف الجبل العظيم بمقاطعة "تيماكولا" فى كاليفورنيا، إحدى أهم وأوسع الولايات، فى أقصى جنوب الغرب الأمريكى.. "إن الروح تبحث عن مثيلتها فى كل الأراضى، فتبحر محيطات، وتعبر قارات، وتجوب صحارى، وتطوف سماوات، وتخترق أسوارا، ولا تعرف عن الحدود شيئا، ولا تحجمها هوية، ولا تقيدها أوراق ثبوت، ولا تعترف بجوازات السفر، ولا قوانين الهجرة، ولا تأشيرات الدخول، ولا حتى أختام الخروج".. هكذا تقول روزى.
 تهيم روزى فى تأملاتها فتحكى.. "إن السماء تبعث رسائلها، وإن القلب يتلقى الرسائل، وإن القمر مفتاح الرسالة، وإن النفس تبحث عن الأرواح البسيطة، وتميل إلى من يهون عليها الحياة أينما وجد فى أى أرض". "وإذا الروح بالروح ضاقت، هجرت، وطافت، فى ملكوت فسيح ساعية إلى روح مشابهة، تتلقى منها الإشارة، والبشارة".. تغنى روزى أهازيج غير مفهومة.
 "إن القلب يغلب المنطق، وإن العقل يصارع القلب ليصل به إلى شط الحقيقة، وإنك آمن إذا استطعت الوصول بهما إلى اتفاق مشترك، أو لطريقة تمنحك السكينة".. وكذلك تضيف روزى.
 "إن أمريكا إذا قرعت طبول الحرب فى شرقكم الأوسط يدوى صوتها فى كل بيت أمريكى، فلا يدفع ثمنها إلا شباب هذه الأمة -تقصد الأمريكيين- ولا يتحمل تكلفتها سوى الأسرة الأمريكية من ضرائبها، ولا تترك إلا أمهات ثكالى، وزوجات أرامل، وأبناء يتامى".. روزى تقول!
 ومن دروس روزى أنها إذا نجحت بمفردها فى شيء، أى شيء، تردد "أعتقد أننا فعلناها"، وإذا أخفقت لا تخفى حزنها، وتؤكد "أننا نتعلم فى كل سن، حتى لو كان الدرس فى طباع البشر".. روزى تهمهم دائمًا "إذا لم تسأل فالإجابة بالطبع لا، وكيف نعم إذا حبست السؤال، وترفعت عن المحاولة".. روزى مُلهمة فى كل حال.
 وعلى مائدة عشاء دافئة مع روزى، كان طعام الـ"تاكوز" فى "لاهويا" حيث لا حدود مع المكسيك تفصلنا، ليس أكثر من عشرين دقيقة، سألت روزى.. ماذا عن جدار عازل يفصل المكسيك عن أمريكا، ترد روزى بإنجليزية طليقة "this is a silly joke".. هذه نكتة سخيفة، وتطلب منى ألا أرددها، وتسأل روزى: كيف لهذا الجدار أن يُبنى ومئات المزارعين ينتقلون مشاة يومياً بين هنا وهناك!
 ولما صادفت روزى فى ساعة رواق كانت جاثية على ركبتيها المضيئتين، كأنها ساجدة، محلقة هى فى السماء، تغازل انعاكسات شعاع القمر على نجمها، لها نجم محدد أسمته على اسمها "روزى"، تتابع مساره فى كل ليلة. تشعل روزى فى فمها أعواد ورد، هكذا تُعد لفائف دخانها، أوراق ورد بلدى كبيرة، تفردها روزى على راحة كفها، تتناول عشبها الأخضر المفروك بأصابع رقيقة، فلا تبين الورقة من لون طلاء أظافرها، وتُعيد توزيعه على ورقتها، ثم تلصقها بعسل نحل أبيض مُصفى.. اللعنة يا روزى، حتى أعمدة دخانك حلوة، رقيقة!..  وبينما كنا ضائعين فى حكايات طويلة، كانت نظرات روزى لا تنقطع ولا تهدأ ولا تُبشر إلا بأشياء مُخيفة، تقاطع روزى صمتنا المرعب، وتقول لى إن أمها اسمها "روسا"، أى وردة بالإسبانية، وأسمتها روزى ليدوم رحيقهما.. وتعود روزى فتسأل: "كيف تقولون روزى فى بلدك"، وأنا أجيب: "زهرة"، تردده روزى وتُقسم "إذن سيكون اسم ابنتى الأولى".
ولما سألت روزى ثم ماذا!.. غابت طويلاً ثم قالت، "اهمد، اتبع قلبك".. وترقص روزى.