حكايات| العراب هاني شنودة (3).. زوبعة نجيب محفوظ!

 العراب هاني شنودة (3).. زوبعة نجيب محفوظ!
العراب هاني شنودة (3).. زوبعة نجيب محفوظ!

كل التجارب التي رسمت ملامح الموسيقى المصرية الحديثة وُلدت من رحم فرقة Les Petits chats أو "لي بيتي شاه"، التي أسسها وجدي فرانسيس سنة 1967 وضمت عزت أبو عوف، وعمر خيرت، وفريدي رزق، وبيرج أندرسيان، ثم انضم لها هاني شنودة، وعمر خورشيد، وجورج لوكاس، وصادق قلليني وآخرون.

 

لقراءة الحلقة الأولى| من بيانو أمي إلى ساحة السيد البدوي

 

كيف كانت هذه الفرقة رحمًا لكل التجارب الموسيقية الحديثة؟

 

ببساطة لأن أعضائها ساهموا فيما بعد منفردين في تأسيس تجارب موسيقية أخرى بمثابة أعمدة تأسيس الأغنية المصرية الحديثة في سبعينيات القرن الماضي. 

 

 

انضم هاني شنودة إلى الفرقة بعد دعوة يحيى خليل، وعقب فترة تعرف الفريق على ضابط كانت تربطه صلة صداقة أو قرابة بعزت أبو عوف، لا يتذكر هاني جيدًا اسم الضابط الذي تحول مع الوقت إلى مدير أعمال الفرقة!

 

لقراءة الحلقة الثانية| هنا القاهرة

 

كان مسئولًا عن اتفاقات الحفلات الخاصة بهم في النوادي والفنادق، وبعد شهرين من انضمام هاني للفرقة جاءهم هذا الضابط بعقد ممتد طوال شهور الصيف لتقديم فقرة يومية في فندق فلسطين بالإسكندرية، أيام يحكي عنها هاني قائلًا:

 

"كنا شباب مجانين، الحياة تمنحنا كل ما نريد على أنغام موسيقانا، كسبنا كثيرًا وأنفقنا أكثر، كنا نقضي الصيف كاملًا في الإسكندرية، حياة صاخبة مشحونة بكل الملذات، أذكر أننا سافرنا بعدها إلى لبنان لعدة أشهر، أيضًا عن طريق صديقنا الضابط الذي كان مولعًا بموسيقانا، كنا نعزف خلال فصل الشتاء في فندق (عمر الخيام) الذي أصبح ماريوت الزمالك فيما بعد"

 

 

 

كيف أثرت فرقة "لا بيتي شاه" في هاني شنودة؟ 

 

بالطبع إنها الحرية، حرية التجريب والتجديد والتعبير عن الأفكار.. 


يقول هاني: "معهم وجدت مساحات كبيرة من الحرية لتنفيذ أفكاري، مثلًا الإثنين كان يوم الإجازة الأسبوعية للراقصة، مما يعني أن هناك فقرة فارغة في جدول الفندق، فاقترحت فكرة (نادي الاثنين) أو monday club، أحضرنا عازفي آلات النفخ من فرقة موسيقى الشرطة، لأننا لم يكن لدينا عازف (ساكسفون)، وأعدت توزيع الأغاني الغربية بمشاركة هذه الأصوات، وحققت الفكرة شعبية كبيرة حتى أن عدد حجوزات الحضور في هذا اليوم تضاعف عن أيام آخر الأسبوع".


 
"نجحنا نجاحًا مدويًا، كان الشباب والفتيات يطاردون حفلاتنا في كل مكان، حتى إن ابني الرئيس عبدالناصر خالد وعبدالحكيم أصبحا من جمهورنا؛ بل إن خالد كان يحضر لنا أسطوانات الفرق الأجنبية من الخارج كي نسمعها ونغنيها لأن الرقابة وقتها كانت تمنع دخول الأسطوانات الأجنبية إلى مصر دون تصريح خاص، هذا التصريح كان يستغرق شهر تقريبًا تدور فيه الأسطوانة على عشرات المكاتب وفي النهاية تصل إليك مهترأة لا تصلح إلا كقاعدة تضع عليها أكواب الشاي!

 

 

كان هاني شنودة يلعب دور عالم الهندسة العكسية في الفرقة!


مصطلح عجيب ومهمة أغرب ولكنه يفسرها بسهولة وسلاسة، حيث كان يأتي بالأغنية الغربية الأصلية، ثم يقوم بتفكيك التوزيع الموسيقي، ويحدد مهمة كل آلة، ويكتب نوتتها، هي مهمة قد تكون شاقة بالنسبة للبعض ولكنها بالنسبة لشخص دارس أمر غير معقد.. هنا أتذكر نصيحة والده عندما قال له: "تعلم وادرس ما تحبه حتى تنجح فيه".

 

يواصل المايسترو حكايته:


 
"كان الشباب يرقصون على موسيقى وأغنيات الفرق الأجنبية التي نعزفها، ويسألوننا: الإنجليز لديهم البيتلز، والأمريكان لديهم الإيجلز، لماذا لا نمتلك فرقة مصرية تغني مصري؟! 

 

ذاع صيت الفرقة لدرجة دفعت نجيب محفوظ للسفر إلى الإسكندرية خصيصًا لسماع الفرقة وأجراء حوار صحفي معهم في جريدة الأهرام، يتذكر هاني شنودة أول جملة طرحها عليهم نجيب محفوظ قبل بدء الحوار:

 

"قال محفوظ: انتو زوبعة في فنجان"

 

"استفزني الوصف وغضبت، كنت شابا متهورًا في الحقيقة، فرددت بعنف: وحضرتك جاي من القاهرة إلى الإسكندرية عشان تشوف زوبعة في فنجان؟"

 

ابتسم نجيب محفوظ وقال: "في الحقيقة اكتشفت أن الناس بتتجنى عليكم لأن الشباب فعلا بيطلعوا طاقتهم معاكم بشكل عادي عكس الشائعات الكتير اللي بتطلع عليكم"

 

ثم دار الحوار بين أخذ وعطاء وسؤال وجواب حتى توقف نجيب محفوظ وسأل هاني شنودة : ليه يا هاني ما بتلعبوش أغاني عربي من تأليفكم؟

 

رد شنودة : الأغنية بتاعتنا مقدمتها تساوي ثلاث أغاني من الأغنية الغربية، أغنياتنا الكلاسيكية تبدأ بتانجو أو فالص ثم تتحول إلى المقسوم الشرقي، والرقص الشرقي عيبة عند الشباب والرجال أم الرقص الغربي فهو موضة.

 

 

يصف هاني شنودة رد فعل نجيب محفوظ قائلًا:

 

"في هذه اللحظة نظر لي بابتسامة ساخرة وقال: لا تستبدل شهوة العمل بشهوة الكلام، أعمل الأغنية اللي أنت شايفها صح بدون حجج أو أعذار".

 

"لم أتوقف أمام الكلام طويلًا، كنت سعيدًا بما أفعل وأكسب جيدًا، ووصل الأمر أن طلب مني عبد الحليم حافظ أن أكون له فرقة حديثة يضمها إلى الفرقة التي تعزف أغنياته، وهذه قصة أخرى متخمة بتفاصيل عديدة وقعت في وقت قصير عندما أنهى موت حليم التجربة مبكرًا"


يتوقف المايسترو لحظات ليتذكر لقاءه بنجيب محفوظ مجددًا، وكأنه يلين مفاصل ذاكرته مجددًا ليحرك الكلمات فيقول: 

 

"ولكن كلمات نجيب محفوظ ظلت محفورة في ذاكرتي، لماذا لا أكون فرقة مصرية تعزف الموسيقى بشكلها الحديث الذي يقدمه العالم وتقدم كلماتنا المصرية ولغتنا الدارجة؟"

​​​​​​​

"في الواقع إن عبقرية نجيب محفوظ لا تكمن فقط في قلمه ولكن في رؤيته، فهو كشاف ومستشرف للمستقبل دائمًا، قادر على استيعاب التجارب الجديدة، هو وصل إلى نوبل على بساط روايات شديدة المحلية، ولكنها واقعية وفلسفية ونقلت ثقافتنا للعالم عبر الترجمات المختلفة، الموسيقى بالنسبة لي هي الترجمة التي تنقل ثقافتنا للعالم كي ينظرون لنا، لهذا دائمًا أقول إن الموسيقى المصرية تنقسم إلى مرحلتين (ق. م) أي ما قبل فرقة المصريين، و(ب. م) أي ما بعد ميلاد فرقة المصريين".