حكايات| العراب هاني شنودة (2).. هنا القاهرة

حكايات| العراب هاني شنودة (2).. هنا القاهرة
حكايات| العراب هاني شنودة (2).. هنا القاهرة

التحق هاني شنودة بالمعهد العالي للتربية الموسيقية بالدقي، كان هذا اسمه قبل أن يصبح كلية التربية الموسيقية ومقرها الزمالك، وقبل ظهور المعهد العالي للموسيقى بأكاديمية الفنون بحي الهرم، في سنوات المعهد الأولى لم يستقر هاني في القاهرة بناء على رغبة الأسرة، كان يقطع المسافة من طنطا إلى القاهرة يوميًا عبر القطار، مشوار يطوي في تفاصيله قدرًا لا بأس به من المشقة، ولكنه ممتع بالنسبة له إلى أن دهس الترولي ساقه أمام المعهد ذات يوم فرقد في المستشفى سنة دراسية كاملة.

 

لقراءة الحلقة الأولى|  من بيانو أمي إلى ساحة السيد البدوي


يتذكر هاني الحادثة قائلًا: "كنت أركب الترولي من المعهد إلى محطة مصر لأستقل القطار، في أحد أيام السنة الأولى من المعهد حاولت الركوب فانزلقت قدمي ودهسها الترولي، تعرضت لكسر مضاعف، ورغم الألم لم يسيطر على تفكيري سوى مصير دراستي بعد أن أخبرني الأطباء بضرورة البقاء في الجبس ما يقرب من ستة أشهر، المهم مرت الأزمة على خبر وتجاوزت السنة الدراسية وانتقلت للفرقة الثانية وهنا بدأت قصتي مع احتراف الموسيقى".


"كنت واقفًا أمام باب المعهد وفي المقابل عمارة، لفت نظري على سطحها شاب يشبه ألفيس بريسلي، ممسكًا جيتارا إليكتروني أحمر اللون ويهز جسمه بحماس شديد وهو متفاعل مع العزف، وقفت أراقبه، دقائق ونادي علي .. أطلع ، فقلت له لا انزل انت !".


"نزل مسرعًا ودار بيننا حديث، عرفني بنفسه اسمه (نبيل شديد صعب) أرجوك لا تضحك من الاسم فقد ظل طوال معرفتي به اسمًا مثيرًا للجدل، المهم أن صديقي الجديد شديد كانت وراءه حكاية طويلة، فوالده لبنانيًا من «لوردات» مصر الجديدة وأمه كونتيسة من أصول أوروبية، يتباهى شديد دائمًا أن عائلته شاركت في بناء الحي الراقي مع البارون إمبان، ولكن عقب ثورة 1952 أممت الدولة ممتلكات والده، ولم يتركوا لأسرته سوى الشقة التي يعيشون فيها بالدقي، ومعاش شهري قدرة مئتي جنيهًا فقط، لهذا فكر نبيل في تكوين فرقة موسيقية تعزف في أماكن السهر والنوادي ليكسب المال ويعيش في مستوى اجتماعي لائق".


"شديد كان في حاجة لعازف بيانو ليكمل الفرقة، وكنت أنا هذا الشخص وفور موافقتي قال لي: اطلع عندي اتصل بأهلك قلهم إنك بايت في القاهرة عندي عشان هنعمل بروفة لحفلة قريبة" .


"بهذه السرعة ؟! "


"نعم بهذه السرعة !!"


"اتصلت بوالدتي وشرحت الموقف، كانت مفاجأة ولكنها لم تستغرق وقتًا لتتفهم الموقف، ووافق والدي على اعتبار أن استقراري في القاهرة أصبح مسألة وقت لا أكثر، المهم بدأنا في قراءة النوتات وسماع الاسطوانات الأجنبية التي سنعزفها، وبعد قليل انضم لنا عازف الدرامز واسمه (هراير شهرزيان) وكان مصورًا في جريدة الأهرام ، وكونا الفرقة وبدأنا العمل".

 


قبل ثورة يوليو كان العازفون الأجانب قاعدة الموسيقى في مصر، كل النوادي الليلية والبارات والكازينوهات والفنادق اعتمدت عليهم في فقراتها الفنية، كونوا الفرق التي عزفت الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز والروك، بينما اقتصر دور المصريين على الموسيقى الشرقية أو العربية كما يصفها هاني شنودة، ولكن مع دخول حقبة الستينات خرج المئات منهم من مصر، من هاجر إلى أمريكا ومن عاد إلى وطنه، لم تعد الأجواء مناسبة لهم، في حين بحثت الفنادق والكازينوهات عن بديل يملأ هذا الفراغ، لا مجال لظهور تخت شرقي في بار أو كازينو، وبدأ الموسيقيون الشباب يتلقفون الفكرة، سوق عمل مفتوحة على مصراعيها، وانطلق هاني شنودة مع صديقه شديد وفرقته بحماس، بل إن هاني عمل عازفًا بمفرده في الأماكن، مرحلة يتذكر منها بأسى وفخر ساعات نومه القليلة.

 


"كنت أنام ساعتين تقريبًا في منتصف اليوم، فصباحًا أذهب للمعهد، وليلًا أعزف في فندق سميراميس، بجانب الفقرات التي تقدمها فرقتنا في أماكن أخرى، بالكاد ساعتين للراحة في غرفة خصصها الفندق لي ضمن اتفاقنا، في تلك المرحلة تبلورت أفكاري الموسيقية، تحديدًا في السنة الرابعة من المعهد، شكلت وجهة نظر في المناهج التي ندرسها، كان لدي ملاحظات عديدة عليها أبرزها اختلاف المواد التي يدرسها الأولاد عن تلك التي تدرسها البنات، كان شيئًأ غريبًا لا أجد له تفسيرًا سوى سيطرة الرجعية على المناهج، هذا لا يعني أنني متحرر أكثر من اللازم، بالعكس أنا شرقي جدًا ومؤمن بالعادات والتقاليد التي تربيت عليها، ولكن في الموسيقى الأمر مختلف تمامًا".

 

 

 

بعد عدة لقاءات اكتشفت أن المايسترو لا يدخن، ربما هو السن الذي يفرض قيودًا صحية على الكثيرين، ولكن الحقيقة أنها عادة لازمته منذ الصغر، ليست حرصًا صحيًا بل فلسفة ملخصها أنه لم يقبل يومًا باقتسام روحه ومزاجه بين الموسيقى وشيء آخر، يتذكر دائمًا العازفين الأجانب وهم  يلفون أوراق التبغ ويشعلون داخنهم أثناء العزف، صحيح الأمر لا يخلو من مهارة ملفتة ، ولكنها تعكس روتينية واعتياد جفت نفس صاحبه من الشغف.

 

ذات مرة في أحد النوادي شاهد آثار حروق على طرف بيانو، وكأن أصابع العازفين نالت من قدر البيانو العريق بما فيه الكفاية، انتظر حتى جاء العازف اليوناني ليقدم فقرته، بعد دقائق أشعل الرجل سيجارته والتقط نفسًا ثم وضعها مشتعلة على حافة البيانو لتأكل النار فيه، لم ينس هاني شنودة هذا المشهد طوال حياته، وربما بسببه لم يدخن سيجارة يومًا ما، وضم إلى السيجارة قائمة طويلة بكل "الكيوف" التي يدمنها أبناء الكار.

 

المهم .. أشعلت أنا سيجارة وواصل المايسترو حكايته:




 

"بعد عام تقريبًا سافر شديد وفركشنا الفرقة، وتعرفت على يحيى خليل، كان عائدًا من أمريكا، عرض علي الانضمام إلى فرقة حديثة يعزف فيها هو وعمر خورشيد عازف الجيتار، والمطرب نزيه المصري، بعد أن سبقهم عمر خيرت كعازف درامز، وعزت أبو عوف الذي لم يستمر مع الفرقة طويلًا، انضممت لهم وكنا نقدم أغاني البيتلز والإيجلز وتومبلانج، بالطبع تعرف عمن أتحدث .. عن فريق "لا بيتي شاه"