رؤية نقدية| فينوس فؤاد: نوافذ «محمد عفيفي» تطل على «تاريخ أخر لمصر»

دكتور فينوس فؤاد
دكتور فينوس فؤاد

تستعرض دكتور فينوس فؤاد وكيل وزراة الثقافة، برؤية نقدية شاملة كتاب "نوافذ جديدة..تاريخ أخر لمصر"، للمؤرخ دكتور محمد عفيفي الامين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، والتي نستعرضها في السطور التالية:-

 

 "نوافذ جديدة هو التوصيف الدقيق الذي اختاره الدكتور محمد عفيفي ليكون عنوانًا لأحدث مؤلفاته في قراءة تاريخ مصر بصورة جديدة أو بالأحرى هو يسجل في كتابه الجديد "تاريخ آخر لمصر"تأملات جديدة على كتب التاريخ من خلال "نوافذه الجديدة " يرصد منها التاريخ، فعفيفى مؤرخ من طراز مختلف يسعى دائما لإشراك القارئ في رصد وتحليل كل مايدور حوله ، كما يسعى أيضا إلى جذب شرائح جديدة من الجمهور المتذوق للتاريخ ، ويؤهله ليكون قادر على التفاعل مع الأحداث التاريخية ويعيد قراءتها  ومن ثم يكون قادر على استخلاص الخبرات التى تساعده في فهم ما يدور حوله من أحداث قد تكون لها نتائج أعمق مما يتخيل عقل الشاب الآن .

 

وربما أراد بكتابه "نوافذ جديدة ..تاريخ آخر لمصر" أن يدق ناقوس الخطر لينبه إلى أهمية الثقافة في كتابة تاريخ الشعوب ، فنجده يرصد ويحلل التاريخ من خلال عدة مباحث "جديدة"منها الموسيقى والسينماوالفلكلور بالاضافة الى الكتب والمؤلفات التى توثق اتجاهات فكرية تعكس سمات العصور التى ابدعت فيهاوشكلت وجدان طبقة عريضة من الشعب المصرى.

 

فقد اعتاد المؤرخون على مصادر محددة لكتابة التاريخ أهمها الوثائق المكتوبة والمعتمدة الموجودة في سجلات الضرائب و دار المحفوظات ودار الكتب والوثائق القومية ..الخ ، بينما القارئ البسيط لا يستطيع أن يصل الى تلك المراجع ليساهم في رصد تاريخه ، ومن ثم ينصرف عن معرفة تاريخه إلى ما يشاع على شبكات التواصل الاجتماعي من أفكار وتاريخ مشوه و مضلل لمصر.

 

و لتحقيق هذا الهدف عكف عفيفى على تبسيط المعلومات التاريخية لدى القارئ ، و يذكرنا فى كتابه بأشياء تشكل الوجدان وتنمي الفكر بين طبقات المجتمع المختلفة ربما أصبحت تمر علينا جميعا مرور الكرام بينما هى تحمل بين طياتها مصادر مكثفة للتاريخ، مثل برامج التليفزيون والمكتبات العامة ، والسينما والصحف و مقالات الرأى وأعمدة كبار الكتاب، و ذلك من خلال سرد شيق لمحطات من سيرته الذاتية ، ليوجز ببساطته المعهودة أن جميع المصادر السابقة ساهمت فى التشكيل الوجدانى للمؤرخ محمد عفيفى.

 

"الرحلة" 

هي المقدمة التي بدأ بها عفيفى حواره مع القارئ ، ربما ليعرفه بنفسه ، و ربما ليعده للتلقى لما هو آت بين دفتى الكتاب ، وربما ليشعر القارئ بالألفة مع مايحيط به من اشياء توثق للتاريخ و ربما اراد فيها ايضا القاء الضوء على كيقية الاستفادة من الاخفاقات البشرية فى تحقيق الأهداف مسترشدا بنفسه على ذلك حين اخفق فى الحصول على المجموع المؤهل للالتحاق بكلية الإعلام فالتحق بقسم التاريخ بأداب القاهرة ليعود بعد سنوات من الجد والدراسة الى كلية الاعلام كأستاذ محاضر بها ومشرفا مشاركا على العديد من الرسائل العلمية الخاصة بالإعلام ليحقق حلمه بصورة افضل مما كان يتمنى.

 

التاريخ والأدب
كان لدراسة المؤرخ محمد عفيفى فى فرنسا من خلال المنحة الدراسية التى حصل عليهاوعمله كأستاذ زائر فى الجامعات الفرنسية واليابانية بالغ الاثر فى فتح آفاق جديدة لدراسة تاريخ المجتمعات والمرتبط بعاداتهم وتقاليدهم و ازيائهم و افلامهم و مسلسلاتهم فانتبه عفيفى الى ان التاريخ يهتم اولا واخيرا بالناس . فاختار ثلاثية نجيب محفوظ كنموذج تطبيقى لدراسة علاقة الأدب برصد المتغيرات التاريخية متخذا مقولة الأب "جاك جومييه" مدخلا لتلك الدراسة حين اعتبر "ان شخصيات الثلاثية رسمت بدقة و براعة صورة شاملة لشخصيات تحمل قيم وخصائص المجتمع المصرى".

 

وأرى أن دراسة عفيفى للروايات الأدبية كمصدر للتأريخ وليس المراجعات التاريخية هي مغامرة محسوبة لمؤرخ مخضرم أراد منها إثبات أن الوثائق المؤرشفة ليست وحدها المصدر للتاريخ لما هو معروف من خضوع عملية الاحتفاظ بها او اعدامها لأهواء شخصية مرتبطة بعدة عوامل منها السلطة الحاكمة فى تلك الحقبة وكذلك مفهوم الولاء للقائمين على التوثيق والأرشفة.

 

كما أن عفيفى اختار الثلاثية أو بالأحرى روايات نجيب محفوظ لما هو معروف عنه من الدقة في وصف وتوثيق الأماكن و إجادة رسم الشخصيات التى يستطيع المؤرخ من خلالها رصد المتغيرات الاقتصادية والتحولات الفكرية للمجتمع ، وكذلك التعرف على التاريخ الشفاهى الغير مكتوب عن اهم القضايا التى كانت تشغل تفكير المجتمع بمختلف طبقاته فى ذلك الوقت ، والتى ربما حذفت احداثها من الوثائق الرسمية الموجوده حاليا.

 

إمام العرش
اختار عفيفى رواية نجيب محفوظ إمام العرش ليقدم نموذجا ثريا مهمش حاليا عن دراسة تاريخ مصر عبر العصور في سياق سلس وبأسلوب مشوق ربما يكون مناسبا لطلاب المدارس كمدخل لدراسة التاريخ بدلًا من كتب التاريخ الجافة المتداولة حاليًا وفقا لمقترح عفيفى.

 

عالمية شبرا في الأدب المصري
دائما ما يؤكد عفيفى في مؤلفاته انتمائه لحى شبرا ، ولكن فى هذا المبحث يتناول عفيفى شبرا من خلال دراسة حال الأجانب ومختلف طوائفهم مع هذا الحى العريق الذي ترصد علاقاته مدى مصداقية المجتمع المصرى فى المحبة وحسن الجوار.

 

الموسيقى والتاريخ
اهتم عفيفى بمبحث الموسيقى كمدخل هام لدراسة التاريخ طرح عدة اسئلة فى محاولة لايجاد اجابات لها ولعل اهمها علاقة التاريخ بالأغنية الوطنية وتأرجحها بين تمجيد الحاكم والحث على الانتماء و تمجيد الانجازات والاحداث التاريخية بانتصاراتها وانكساراتها ؛ وكذلك طرح اشكالية الطبقية بين الموسيقى الشرقية والغربية والصدام بينهم فى مراحل عديدة تسبق التزاوج الحالى فى بعض المؤلفات.


وتأكيدا على هدف عفيفى فى انجاز دراسة مسحية من نوع خاص ترصد اهتمامات المجتمع بكافة طبقاته لم يفوته ان يرصد شخصية ابن البلد من خلال اسكتشات الفنان الشعبى محمود شكوكو كأحد الالوان الموسيقية الجديدة على المجتمعالمصري فى حينها.

 

التاريخ والفلكلور
احتار عفيفى فى تقديم اى مصطلح منهما عن الآخر فاختار ان يضح حدا لهذه الحيرة فى البدء بتعريف الفلكلور الذى سيتبناه فى دراسته باعتبار المقصود به هو التراث الروحى للشعوب وخاصة التراث الشفاهى مثل المعتقدات والعادات والتقاليد والحكم والامثال الشعبية مدللا بذلك على تداخل العلوم الانسانية واستحالة تفكيكها عن بعضها خصوصاًفى دراسة التاريخ.

 

السينما والتاريخ
فى هذا المبحث حاول عفيفى التدليل على ان اعتبار الوثيقة المكتوبة هى المصدر الوحيد للتاريخ اصبح غير مقبولا فى الوقت الحالى ، فربما كاتت الوثيقة مكتوبة لغرض معين غير معلن ، وربما لم نفهمه او لم يتم توضيحه فى سياقه الصحيح ، بينما السياقات السينمائية توضح الخلفيات التاريخية التى لم توضحها الوثائق ، و ربما اكدت ما ذكرته الوثائق ، و هنا يتطرق عفيفى الى الرقابة بنوعيها وهما الرقابة على السينما والمصنفات الفنية ، والرقابة على الوثائق وكلاهما يخضع لقوانين مختلفة ومتغيرة وفقاً للسياقات التاريخية عبر العصور المختلفة والتى ترتبط بالمجتمع والحكام والمناخ السياسى ومعايير الولاء والانتماء سواء للسلطة الحاكمة او الوطن بمفهومه الشامل.يظهر ذلك من خلال دراسة عفيفى للطبقة الوسطى وظهورها و دور السينما فى التمهيد للثورة.

 

الصراع على السينما
ينوه عفيفى مجددا الى تاريخ الصراع على السينما لاعتبارات عدة اهمها الشق الاقتصادى الذى اتنبه اليه طلعت حرب، والشق القيمى فى توجيه المجتمع الذى انتبه اليه صناع السينما، والشق التاريخى الذى اهتم بسرد التاريخ فى اطار مترابط مع نسيج المجتمع ومتغيراته.

 

يوسف شاهين
اختار عفيفى شخصية المخرج العالمى يوسف شاهين كنموذج واقعى لتزاوج الحضارات بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط ، فالاب كاثوليكى مصرى و الأم يونانيةمؤكدا بهذا النموذج على ان الهوية المصرية هى هوية ثقافية وليست عرقية.

 

تاريخ الفكر
استخدم عفيفى ازمة كتاب "الشعر الجاهلى"لطه حسينكنموذجللمراجعات الفقهية والدينية للمؤلفات الأدبية وماسبقه من ازمة كتاب "الاسلام واصول الحكم" للشيخ على عبد الرازق.

 

الجذور التاريخية لفكرة المتوسطية فى مصر
مبحث جديد فيه يرجع المؤرخ تأصيل فكرة المتوسطية فى مصر الى كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة فى مصر" الصادر عام 1938 متعمقا فى شرح التحولات السياسية والفكرية التى ادت الى ظهور هذا الكتاب.

 

استطاع محمد عفيفى فى كتابه فتح افاق جديدة لرصد التاريخ وفق سياقات متعددة تربط التاريخ بالمحتمع وتؤصل ثقافته لتقوى انتمائه وتدعم هويته لحث القارئ على دقة الملاحظة و ربط الاحداث وتقييم ما يحيط بنا لنصبح متفاعلين ايجابيين ونتخلى عن دور التلقى السلبى لما يعرض علينا فى السينما والموسيقى والأدب والشعر..الخ.

 

محمد عفيفى هو استاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الاداب بجامعة القاهرة والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة و مؤرخ مصرى صاحب فكر مستنير يبحث دائما عن تطوير مصادر التاريخ ليفتح آفاق جديدة للباحثين والقراء او بالأحرى يحاول جذب الشباب والغير متخصصين الى مصادر جديدة للتاريخ يسهل الاستدلال بها و تتبعها ، كما انه اول من نادى ابان رئاسته لقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة الى ضرورة فتح ابواب قسم التاريخ للباحثين من غير خريجى القسم لاثراء الدراسات به مثل دراسة التاريخ النوعى ، و تاريخ الطب والفن والزراعة والدواء والهندسة والعمارة و ربط دراسة التاريخ بالعلوم الانسانية وما زال يكافح من احل تحقيق حلمه بتنوع مصادر التأريخ. كما ان له العديد من المؤلفات باللغة العربية و اللغة الفرنسية.

 

صدر كتاب( "نوافذ جديدة" تاريخ آخر لمصر) للمؤرخ محمد عفيفى عن مؤسسة بتانة فى مائتان وعشرون صفحة من القطع المتوسط فى ديسمبر 2019.