يوميات الأخبار

فى خصوص وعموم.. الشأن العام

محمد بركات
محمد بركات

أصبح البعض منا للأسف.. يتسابق للتبرع بالإفتاء فى كل القضايا والأمور المتصلة بالشأن العام، دون علم.. ودون تقدير للمصالح العليا للبلاد، وضرورات الحفاظ على أمنها القومى.

الآن.. وأكثر من أى وقت مضى.. بل وأكثر بكثير مما كان يمكن للبعض أن يتخيل، أصبح لدينا «هوجة» تتمثل فى الانشغال الدائم بكل ما يمكن أن ينشغل أو لا ينشغل به إنسان على هذا الكوكب،..، سواء كان هذا الذى ننشغل به يمت لنا بصلة ما، أو لا تربطه بنا أى صلة على الإطلاق.
ليس هذا فقط.. بل غرقنا جميعا فى حالة من حالات الاهتمام الدائم والانشغال المستديم، بكل ما يحدث وكل ما يقع من أمور لنا أو لغيرنا فى أى وقت وكل حين.
ورغم اتساع مساحة الانشغال وامتدادها فى كل اتجاه، دون ضابط أو رابط،..، إلا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل أخذ البعض منا يتسابق على التبرع بالإفتاء فى كل هذه الأمور، وكل هذه القضايا وكل هذه  الأحداث والوقائع،سواء كان هذا الأمر أو هذه القضية أو  هذا الحدث أو تلك الواقعة، تتصل أو لا تتصل به من قريب أو بعيد، أو كانت تمت له أو لا تمت له بأى صلة،..، وسواء كان يعلم أو لا يعلم شيئا عما يتحدث فيه أو يفتى بشأنه.
الفتوى دون علم
وفى أحيان كثيرة للأسف.. لا ينتظر هذا المنشغل بكل شئ حتى يلم بحقيقة القضية أو الموضوع الذى يفتى فيه،..، بل غالبا يسارع بالإفتاء والإدلاء بالرأي، قبل أن تتضح الحقيقة وقبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود فيما يفتى فيه.
ذلك يحدث للأسف الآن.. بل أصبح بكل أسف هو الشائع والمعمول به،..، وعندما يعترض البعض على ذلك أو يتجرأ البعض على الاستنكار، أو حتى يطالبون بإعمال العقل قبل الافتاء أو التحدث بغير علم، يواجهون بعاصفة من الاتهامات، أقلها سوءاً وأكثرها أدبا أنهم ضد حرية الرأى والتعبير، ولا يقرون بحقوق الانسان.
وهنا يقفز على السطح سؤال يطرح نفسه بالضرورة علينا جميعا، وهو: هل الحديث فى الشأن العام مفتوح ومتاح للجميع، ومن حق الكل؟!..، أم أنه يجب ان يكون مقصوراً على البعض دون البعض الآخر؟!
وهذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر بحكم الضرورة،..، وهو: هل يتطلب الحديث فى الشأن العام قدرا من الوعى والمعرفة والادراك لدى من يتحدث؟!،..، خاصة إذا كان هذا الأمر يتصل بصورة أو بأخرى بالأمن القومى للبلاد.. على أى مستوى من مستوياته السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية أو غيرها، أو يرتبط بما يمس السلام الاجتماعى والاستقرار المجتمعى.
تلك فى اعتقادى موضوعات وقضايا وأمور تطرح نفسها بحثا عن إجابة واضحة وشافية. ولكن قبل أن نستطرد فى الحديث، لابد أن نحدد أولا ما هو الشأن العام.
الشأن العام
الشأن العام فى تقديرى وتقدير الكثيرين،..، هو كل ما يتجاوز الشأن الخاص ويتعداه لما يتصل بشئون واهتمامات كل المواطنين بالدولة والمجتمع فى عمومهما، وعلى كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فى نطاق الواقع القائم أو المستهدف والمأمول.. ويتصدر الصورة فى هذا الشأن ما يتصل بأى حال من الأحوال بالمؤثرات على الأمن القومى للدولة فى صورته العامة الشاملة أو الجزئية.
وتعبير الشأن العام يعنى فى مضمونه وعمومه وفقا لهذه الرؤية كل ما يهم المواطن العادى فى واقعه ومستقبله، وما يتطلع إليه لتغيير هذا الواقع  وتحسينه وصولا إلى الصورة التى يأمل فيها أو يتمناها ويسعى إليها،..، وهو بذلك يهم كل الناس على جميع صنوفهم، وعلى قدر وعيهم وثقافتهم وتطلعاتهم، مع اختلاف ذلك وتنوعه.
فوضى وعنف
وإذا ما أخذنا بهذا المفهوم وسرنا على أساسه، ومددنا الخط على استقامته، فقد يرى البعض أن ذلك يقودنا بالضرورة، إلى الأخذ بمبدأ أحقية الجمع فى تناول هذه الشئون وتلك القضايا والمسائل، بالحديث واللغط والافتاء دون بحث أو دراسة ودون إلمام كافٍ ومعرفة متكاملة وشاملة، بكل الجوانب وكافة التفاصيل المتعلقة بما يتحدث فيه أو يدلى فيه بدلوه.
وهناك خطورة مؤكدة من التسليم بهذا الرأى أو الأخذ به على علاته، ودون ضوابط تحكمه أو محددات تنظم إيقاعه، حيث من الوارد بل الممكن جدا أن يؤدى ذلك لفتح الباب واسعا للانزلاق بالمجتمع إلى عواصف الرؤى المتضاربة، وموجات الآراء المتعارضة وصراع التوجهات والإرادات المتصادمة، فى ظل اغفال ضرورة الحفاظ على السلام الاجتماعى، وعدم المساس بالاستقرار المجتمعي،..، وهو ما يدخلنا فى غياهب الفوضى والانقسام.
أصحاب الاختصاص
وفى مواجهة ذلك وعلى عكسه، قد يتراءى للبعض انه من الواجب والضرورى التفرقة فى مفهوم «الشأن العام» بين نوعية من القضايا أو المسائل أو الأمور، التى لا تمثل خطرا على السلام الاجتماعى ولا تؤثر بأى صورة من الصور على الأمن القومى للبلاد، ولا تهدد فى مجملها وجزئياتها الاستقرار،..، وبين الأخرى التى تتمثل فيها هذه الأخطار وتلك التهديدات.
وفى هذه الحالة يمكن أن تكون النوعية الاولى من القضايا والشئون متاحة للكل، للأخذ والرد والتناول بالرأى والرأى الآخر،..، مع الحفاظ بالضرورة على مراعاة الثوابت الثقافية والقيم الاجتماعية والانسانية والدينية، التى يجب الحفاظ عليها راسخة قوية فى الوجدان المصرى.
ويرى هؤلاء أن يقتصر البحث والتحليل وإبداء الرؤى، من جانب المتخصصين وأصحاب الخبرة والعلم والمعرفة، فى الشئون ذات الخطورة والتأثير على الأمن القومى والسلام الاجتماعى والاستقرار العام للبلاد والعباد، على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى شمولها وعمومها.
وقد يرى البعض فى هذا الرأى حلا مقبولا للقضية، ووسيلة ممكنة للتغلب على المخاطر والتهديدات الكامنة فى ترك الأمور المتصلة بالخوض فى الشأن العام للكافة، ولكل من هب ودب سواء فهم أو لم يفهم أدرك أو لم يدرك،..، ولكن فى الحقيقة وعلى أرض الواقع.. ذلك أمر غير ميسر ولاسهل.
الوعى المجتمعى
ويقر أصحاب هذه الرؤية وأنا معهم بصعوبة الأخذ بها، إلا فى حالة إيجاد حالة عامة من الوعى المجتمعى الشامل، بالمصالح العليا للوطن لدى عامة المواطنين وخاصتهم، يصاحبها قدر كبير من اليقظة الوطنية بالأخطار المحيطة بالأمة المصرية الآن، فى ظل الظروف بالغة الدقة والحساسية التى يمر بها الوطن، والتحديات التى تواجهه الآن وطوال الفترة الماضية، والأخطار التى تهدده والحرب الشرسة التى يتعرض لها، من جانب جماعة الإفك والتطرف والإرهاب وقوى الشر المتحالفة معها والداعمة لها، والتى تسعى بكل الوسائل الخسيسة لنشر الفوضى وزعزعة الاستقرار المجتمعى، من خلال الشائعات الكاذبة والتشكيك فى كل الثوابت وهدم الإنجازات وإثارة اليأس والاحباط فى نفوس المواطنين.
وأرى أن المسئولية الاساسية فى ايجاد هذه الحالة العامة من الوعى، تقع فى جوهرها وجلها على حكماء الأمة، وأصحاب الاستنارة الثقافية والفكرية والمجتمعية فى مفهومها الواسع والعريض، وعلى الإعلام والمؤسسات التربوية والتعليمية والدينية فى الازهر والاوقاف والكنيسة، من المشهود لهم بالعلم والوسطية والسماحة والمصداقية، وممن هم  أهل ومحل للثقة والقبول العام من الجميع.
>>>
ولكن قبل ذلك وبالتوازى معه لابد من الإدراك بأن علاج كافة هذه القضايا، يكمن فى ضرورة توافر الشفافية التامة والسرعة الواجبة والمستحقة، فى إعلان كافة الحقائق، وإتاحة المعلومات فى كافة الموضوعات المثارة والقضايا موضع الاهتمام.