إنها مصر

الأوفيــــاء

كرم جبر
كرم جبر

ولم يكن «أبناء مصر الأوفياء» يريدون لبلدهم مصيراً أسود، بعد أن ذاقوا ويلات الجماعة الإرهابية، التى قدمت نموذجاً فاشياً دموياً، يفتح الجراح ويستحضر الفتن، ويمزق النسيج الوطني، ويدخل البلاد فى دائرة الجحيم العربي، ويجعل المصريين لأول مرة فى تاريخهم وجهاً لوجه، وكأنهم أعداء منتقمون وليسوا أبناء وطن واحد.
ولم يدرك الشياطين الذين خططوا للربيع العربي، أن الحروب الدينية الأهلية التى بدأ الإخوان بروفتها فى «الشرق» غيرها فى «الغرب»، ففى الأخيرة استطاعت الشعوب أن تلملم بقاياها وتلتئم الجراح، بما لديها من مخزون ثقافى وحضارى واجتماعي، أما فى الشرق فإذا اشتعلت الحروب الدينية، لا تنطفئ جذوتها مهما طال الزمن، ولم تجف دماء الإمام على «كرم الله وجهه» حتى الآن، منذ أن شج السفاح ابن ملجم رأسه وهو يصلى الفجر، وما زالت دماؤه تسيل فى العراق وسوريا وغيرها، تحت سيوف الصراع المذهبي.
بدأت الحرب الدينية فى أوربا فى القرن السابع عشر عندما أمر أسقف مدينة براج الألمانية بحرق كنيسة بروتستانتية، فلجأ البروتستانت إلى الإمبراطور «ماتياس» الذى تجاهل شكواهم، فقرروا أن ينتقموا بأنفسهم ويردوا بالمثل، وبدأوا بما عرف بعقوبة الرمى من النوافذ العالية لمخالفيهم فى المذهب والرأي.
وامتدت النيران من ألمانيا إلى أوروبا واستمرت ثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت، فقضت على ثلث السكان الذكور، وسقط حوالى سبعة ونصف مليون قتيل من إجمالى عدد السكان الذى بلغ عشرين مليوناً، وهبط عدد الذكور إلى النصف، مما اضطر القساوسة الذين أشعلوا الصراع ودقوا طبول الحرب، أن يخالفوا مذهبهم، ويعلنوا قبول تعدد الزوجات، ولكل رجل ما شاء من النساء.
وكان السبب هو الصراع الدينى السياسى بين الكاثوليك والبروتستانت، لخرق الطرفين اتفاق «أوسبرج» لتسوية الخلافات، التى بدأت «دينية» ثم تحولت لحروب «سياسية»، والملاحظ أن داعش أعادت إنتاج القتل بنفس الطرق.
الحرب نهايتها السلام، بعد إنهاك قوى المحاربين، وقبولهم التفاوض والتنازل، ونشأت ديمقراطيات جديدة لا يحتكرها القساوسة والرهبان، ولا يمتلكون مفاتيحها، ولا يتركون أسرارها لمن يزعمون أنهم يمتلكون مفاتيح السماء، فعندما تختلط السلطة بالدين، تفسد السلطة، وتنحرف الأديان عن رسالتها السامية.
هذه هى «مفاتيح» الفوضى الخلاقة التى جاءوا بها إلى الشرق، تحت مسميات كثيرة أهمها «الربيع العربي»، فأشعلوا الحروب الدينية فى الدول المستهدفة، وخططوا أن تستمر ثلاثين عاماً، حتى تنهار كل الدول، وتقبل شعوبها المقهورة على السلام الذليل، فيسهل إعادة تقسيم المنطقة على أساس ديني.
مصر ليست كذلك، وتحتوى تحت «مظلة المواطنة» كل أبناء الوطن، متساوون فى الحقوق والواجبات، ولا يلتفون إلا تحت علم مصر ولا يهتفون إلا بنشيدها، وهذا هو السياج الآمن الذى يحمى البلاد ويصون المصريين، ويدرأ المخاطر، ويمنع عودة أمثال تلك الجماعة الشاردة.