حوار| نسمة يوسف إدريس: صراحة والدي حرمته من «نوبل».. واتهم ظلما بـ«الإلحاد»

 نسمة يوسف إدريس تتحدث إلى محرر «الأخبار»
نسمة يوسف إدريس تتحدث إلى محرر «الأخبار»

- والدى «أجبر» على الاعتذار لـ «الشعراوى» .. ورأيه فيه لم يتغير

- قصة زواجه بمكسيكية «غير مؤكدة» .. ووالدتى عوضته «حنان الأم»

- لم ينافق مبارك .. وزيارته مع حافظ الأسد لمنزلنا كانت مفاجئة

 

هل يصبغ الأب أبناءه بصفاته، فتصير شخصية الابن نسخة من الأب؟ من المؤكد أنه لا توجد إجابة قاطعة على ذلك، ولكن هناك نماذج تشعر معها بحالة أشبه بـ «التطابق»، وهو ما بدا لى واضحًا فى شخصية د.نسمة يوسف إدريس، ابنة أمير القصة القصيرة الأديب الراحل د.يوسف إدريس.


كان المقربون من الكاتب الراحل يصفونه بـ «البركان» الذى لا يتردد فى أن يعبر عن رأيه بصراحة ، قد توصف فى كثير من الأحيان بأنها صادمة، وكذلك بدت ابنته أستاذة الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة فى حوارها مع «الأخبار» الذى امتد لقرابة الساعة والنصف، حيث وصفت أباها بأنه كان «بوهيميًا»، وهو الاختلاف الواضح بينه وبين الأديب الراحل نجيب محفوظ، الذى كان «روتينيًا» فى حياته، وكذلك آراؤه.


وكما كانت حوارات الكاتب الراحل الصحفية والتليفزيونية تعكس قدرًا عاليًا من الاعتزاز بالنفس والفخر بإنجازاته الأدبية، وهو ما يجعله فى كثير من الأحيان يلجأ إلى استخدام مفردات، تهدم الشعرة الفاصلة بين الثقة بالنفس والغرور، بدت لى الابنة كذلك، حيث وصفت أدبه بأنه وصل إلى مرحلة الكمال معطية العلامة الكاملة لكل قصة قصيرة كتبها والدها، واصفة إنجازاته الأدبية بأنها أهم من الحصول على جائزة نوبل فى الأدب. والمفارقة أن ذلك الرجل «البركان» شديد الثقة بالنفس لدرجة تجعله يبدو فى أعين البعض «مغرورا»، كانت له لمسات عاطفية وكانت تغلبه الدموع فى بعض المواقف، وكذلك بدت ابنته وهى تتحدث معنا عن بعض هذه المواقف .. وإلى نص الحوار.

 

> بداية وأنا أعد للحوار شعرت بالحيرة من الآراء والمواقف التى يحكيها المقربون من الكاتب الراحل د.يوسف إدريس، فهل هو الشخصية التى وصفها الكاتب الكبير مفيد فوزى بـ «البركان»، أم أنه الشخصية مرهفة المشاعر، والتي لم تستطع تحمل مشهد الاغتصاب في فيلم «الحرام» عند حضوره تصوير الفيلم؟


ــــ تخرج الكلمات من فمها سريعة قائلة: معظم الشخصيات مركبة ومعقدة، وشخصية الفنان تكون معقدة بشكل أكبر، خاصة إذا كانت صاحبة موهبة كبيرة مثل أبى، لذلك فإن شخصيته أحيانا ما تكون انفعالية وعصبية، تجعل البعض يصفها بالبركان أو الجواد الجامح، وأحيانا تكون عاطفية ومرهفة المشاعر، فلا يستطيع فى بعض المواقف حبس دموعه، حيث كانت «دمعته قريبة»، وأحيانا يبدو «قاسيا جدا»، ولكنى كابنته لم أر هذا الجانب من حياته.


دمعته قريبة
 

> قرأت كثيرا مما كتب عن د.يوسف إدريس، ولم يقل أحد أنه كان ممن يوصفون بأصحاب «الدمعة القريبة»؟


ــــ تبتسم قبل أن تقول: هذا جانب من شخصيته ربما لا يعرفه الكثيرون، ولكنه كان مرهف المشاعر لدرجة كانت تجعله يبكى وهو يشاهد مشهدا مؤثرا فى فيلم سينمائى، وقد شاهدت ذلك كثيرا أثناء جلوسى معه لمشاهدة التليفزيون.

 


> من بين الأمور التى استوقفتنى أيضا أنه نشأ نشأة ريفية فى محافظة الشرقية، لكن ذلك لم يؤثر على مواقفه وآرائه التى بدت لى متحررة بعض الشيء، حتى أنك قلت فى أحد الحوارات أنه طلب منك تجربة كل شيء بما فيه التدخين والذهاب إلى الديسكو؟


ــــ تخرج الكلمات من فمها سريعة قائلة: والدى عاش فى الريف، ولكنه لم ينشأ نشأة ريفية، فوالده كان متعلما، ووالدته لم تكمل تعليمها، لكنها كانت فصيحة ومثقفة، وأسرته كانت تعيش فى بيت عصرى، لكنه فى محافظة الشرقية، وفوق كل ذلك فقد كان التعليم بالماضى أكثر من الممتاز، حتى أن مدرس اللغة الإنجليزية فى مدرسته بمحافظة الشرقية، كان حاصلا على الدكتوراة من انجلترا.
وهذا ليس معناه أنه لم يستفد من نشأته الريفية، فقد كان للمناظر الطبيعية التى تصافحها عينه باستمرار أثر على تكوينه الأدبى، كما كانت للحكايات التي تحكيها له جدته التى تربى في بيتها أثر أيضا عليه.


> يعنى أخذ من الريف ما ينمى تكوينه الأدبى، لكن عادات وتقاليد الريف لم تتسلل إلى داخل منزل أسرته؟


ــــ تصمت لوهلة قبل أن تقول: تستطيع القول إنه لم يكن الشخصية النمطية المصرية، فهو شخصية «جلوبال» أو عالمية، لها أصول مصرية لكنها ممكن أن تكون شخصية يونانية أو أمريكية.


الزوجة المكسيكية


> ربما مقومات هذه الشخصية العالمية، كما وصفتها، هى التى جعلته يتزوج بفتاة مكسيكية قبل ارتباطه بوالدتك، وهى الزيجة التى كشف عنها صديقه وزميل دراسته الكاتب الراحل صلاح حافظ فى عدد أغسطس من مجلة الهلال عام 1991؟


ــــ لم تنتظر إكمال السؤال وقالت على الفور: هذا الموضوع غير مؤكد، وما أعلمه عن هذا الموضوع أنه تقابل مع الرسام المكسيكى العالمى دييغوا ريفييرا وابنته فى مؤتمر بفيينا، وأعجبت به ابنة ريفييرا، ومن فرط إعجابها به عادت معه إلى القاهرة، ولكن هل عادت معه كزوجة أم صديقة لا أعلم.


> ولكن الكاتب الراحل صلاح حافظ أشار فى المقال ذاته، الذى كتبه فى مجلة الهلال، أن قصة «البيضاء» ليوسف إدريس تحكى زواجه بابنة دييغوا ريفييرا ؟


ــــ القصة من وحى الخيال، والكاتب عادة ينفصل عن الأحداث التى مر بها فى حياته عند الكتابة.


> هل يستطيع أن ينفصل تمامًا؟


ــــ المسألة تكون أشبه بـ «الخلطة»، ممكن يكون جزء منها أحداثا مر بها، ومن الممكن أن تكون رواية «البيضاء» تحمل لمحات من حياة والدى، ولكنها من المؤكد ليست من النوعية التى يمكن أن نسيمها «رواية سيرة ذاتية».


> على ذكر الزوجات، كان لك تصريح فى أحد البرامج وصفت فيه والدتك بأنها كانت «الزوجة الأم»، فهل احتياج الرجل لهذا النموذج من الزوجات، ربما يكون مؤشرا على أنه كان مفتقدا لحنان الأم؟ 


ــــ  تومئ بالموافقة قبل أن تقول: والدته كانت شديدة، وكانت تربيته تتسم بالعنف والقسوة، وهذا كان معروفا لأنه كان الأكبر بين أشقائه، أو «وش الدستة»، كما يقولون فى الأرياف، بالإضافة إلى أن والدى لم يكن يثق كثيرا فى المرأة، لكن كل ذلك تغير مع والدتى التى نجحت فى احتوائه، والاحتواء فى حد ذاته، هو أمومة، والرجل بشكل عام يحتاج للاحتواء، وتزيد هذه الحاجة عند الفنان أو الكاتب بشكل خاص، لأنه تمر عليه أوقات يكون فيها متقلب المزاج.


> وهل هذا الاحتياج لدى الكاتب يجعل نصف حياة الزوجة تعيسة حيث نقل الكاتب الكبير مفيد فوزى عن والدك قوله: «يا من تتزوجين فنانا، كاتبا كان أو رساما، فإن نصف حياتك سعادة، والنصف الآخر تعاسة»؟


ــــ  تومئ بالرفض قبل أن تقول: ستكون نصف حياتها «صعبة» لأن عليها مسئولية توفير المناخ الذى يسمح له بالإبداع والكتابة.


> وهل هذه الصعوبة لا تجلب تعاسة؟


ــــ  ترد على الفور قائلة: إذا كانت تعيسة فلن تستطيع أن تخلق له مناخ الراحة والسعادة الذى يحتاجه، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
إحياء الذكرى


> ننتقل من الجانب الاجتماعى والشخصى، إلى تقييمك لتقدير الدولة لقيمة يوسف إدريس الأدبية، حيث كان لك تصريحان متناقضان، أحدهما فى صحيفة «المصرى اليوم»، قلت فيه إن «الدولة لم تقصر مع والدك فى حياته وفى مماته»، ثم كان لك تصريح مناقض تماما فى «بوابة الأهرام»، قلت فيه إن الدولة قصرت معه حيا وميتا، فأى الرأيين أصدق؟


ــــ  لم تنتظر إكمال السؤال وقالت على الفور: رأيى دائما أن الدولة قصرت فى حياته ومماته، فمن أين أتيت بتصريح صحيفة «المصرى اليوم»، فأنا لم أجر حوارات معها.


> كان تصريحك في السؤال الأخير من حوار أجراه الزميل «طارق صلاح»؟


ــــ  تظهر علامات الدهشة على وجهها قبل أن تقول: أعرف طارق صلاح، وتذكرت الحوار، ولكن ما أتعجب منه هو أن رأيى دائما أن هناك تقصيرا ليس فقط مع يوسف إدريس ولكن مع كل المبدعين والفنانين، وتقع مسئولية هذا الأمر فى المقام الأول على عاتق وزارة الثقافة .


> إحياء الذكرى يكون بعد الوفاة، وماذا عن التقدير أثناء الحياة، ألم يحصل الوالد على ما يستحقه من التقدير؟


ــــ  لا أظن أنه حصل على ما يستحقه، حتى أنه رفض استلام جائزة الدولة التقديرية، لأنه كان يرى أن الدولة تأخرت كثيرا فى منحها له.


ضحايا يوسف إدريس


> ترين أنه لم يحصل على ما يستحقه، بينما يرى الكاتب شعبان يوسف فى كتابه «ضحايا يوسف إدريس وعصره»، أن علاقته بالسلطة ساعدت على تعميق وجوده الأدبى وكرست فكرة الكاتب الأوحد، وهو ما ظلم كثيرين من مبدعى عصره ؟


ــــ  تومئ بالرفض، قبل أن تقول: ليست علاقته بالسلطة، ولكن أفكاره وموهبته، ثم أضافت وكأنها تتمثل صورة والدها أمامها: وإلى جانب القيمة الأدبية، فهو كان فصيح اللسان، جميل الشكل والمظهر، خفيف الدم، وكل ذلك يجعله مثل الشمس التى تغطى ببزوغها على نجوم عصره، وجعلتهم إلى جواره بلا قيمه، وهذا ليس ذنبه.


> أشعر فى كلامك بقدر من النرجسية والغرور، التى يبدو أنك ورثتها عن والدك، وهو ملمح فى شخصيته لمسته الشاعرة السورية سلوى النعيمى التى أجرت معه حوارا فى مجلة «الكرمل» الفلسطينية، عنونته من فرط شعورها بغروره «يوسف إدريس.. أنا.. أنا.. أنا فقط!»؟


ــــ  تبدو علامات الدهشة والتعجب على وجهها قبل أن تقول بنبرة صوت مرتفعة: من المهم جدا أن يعتز الإنسان بموهبته، وأن يكرم نفسه قبل أن يكرمه الآخرون، ووالدى كان معتزا بنفسه وكرامته، ولكنه لم يكن مغرورا، بدليل أنه من أكثر كتاب عصره الذين مدوا يد العون للشباب، ولم يكن يبخل على أحدهم بكتابة مقدمه لإنتاجه الأدبى، وكان يعطيهم من وقته كثيرا.


> هناك شعرة فاصلة بين الاعتزاز بالنفس والغرور، وأحيانا يتخطى المبدع حدودها ليصبح أقرب إلى الغرور من الثقة بالنفس؟


ــــ  تضحك قبل أن تقول متعجبة: لو هناك من يراه مغرورا، ماذا سأفعل له؟! ولكن وجهة نظرى أنه كان معتزا بنفسه، ورحم الله أمرأ عرف قدر نفسه.


العلاقة مع الرؤساء
 

> سأنتقل إلى علاقته بالرؤساء، حيث بدأ مؤيدا لعبد الناصر ثم انقلب عليه وتم سجنه، وفعل نفس الشيء مع السادات، حيث كان من المقربين منه، ثم اختلف معه وسجن، ولكنه مع مبارك لم يسجن، فهل لم يحدث خلاف معه يستوجب سجنه؟

ــــ  تخرج الكلمات من فمها سريعة: والدى كان له موقف من أى شيء، ومن الطبيعى أن يكون له موقف من السلطة، وعندما تكون السلطة في بدايتها رشيدة يكون مؤيدا لها، ولكن عندما تغيرها القوة والنفوذ، ينقلب عليها، ومن المعروف عنه أنه لم يكن يضع السلطة فى اهتمامه، لأنه كان وطنيا يضع دائما نصب عينيه مصلحة الوطن فى آرائه وأفكاره.

 


> بصراحة وصل لي شعور أنه ربما أراد أن يستريح في عهد مبارك، وألا يذوق مرارة السجن مجددا؟
ــــ  تبتسم قبل أن تقول ساخرة: أبى يفكر فى الراحة؟!.. لقد كانت مشكلته أنه لا يريح نفسه أبدا، وكان يرى أن الراحة الوحيدة فى الموت، وأن الإنسان لابد أن يكون له موقف، والدليل أنه مات فى سن مبكرة «61 عاما».


> ولكن الكاتبة د.نوال السعداوى، وكانت صديقة لوالدك وزميلة دراسة، كتبت مقالا فى «المصرى اليوم» قالت فيه إنها لامت الوالد على مقالين فى الأهرام وصفتهما بأنهما نفاق لمبارك وزوجته سوزان، فكان رده: «لازم أنافقهم يا نوال، حتى استمر فى الكتابة»؟
ــــ  لم تنتظر إكمال السؤال وقالت بعصبية غير معهودة خلال الحوار: لن أقبل هذا الكلام، لأنه ضد أفكار ومعتقدات والدى، ومن المستحيل أن يكون قد صدر عنه، وما أدراك أن والدى قال لها ذلك بالفعل.


> وهل بعض مما ينقل عن والدك من أصدقائه غير دقيق؟
ــــ  تومئ بالموافقة قبل أن تقول: طبعا، لأن هناك غيرة، وبعضهم يغار من والدى إلى الآن رغم وفاته، ويدفعهم ذلك لنقل كلام غير دقيق عنه، ومن يريد أن يتأكد من ذلك، فليراجع مقالاته وكتاباته، ليعرف هل كان ينافق أم لا.


> يعنى لم يكتب مقالا ينافق فيه مبارك وزوجته، على حد وصف د.نوال السعداوى؟
ـــ ترد على الفور: على حد علمى لا، والدى لم يكن يؤيد أحدا، ولكنه كان ينقد دائما، ولكنه النقد البناء، ولم يكن بحاجة لأن ينافق أحدا، لأنه كاتب، ولم يكن يسعى لأى منصب.


الموقف من كامب ديفيد


> من الواضح أنه لم يكن له موقف ثابت من رئيس، وكذلك من زملائه أيضا، وهو ما جعله مثلا يصطف إلى جوار توفيق الحكيم فى معركة فكرية دارت أحداثها فى الثمانينات، وكان أحد أطرافها الإمام محمد متولى الشعراوى، عندما انتقد بشدة مقالات توفيق الحكيم «حديث مع الله»، لكنه كان فى موقف آخر معارض لتوفيق الحكيم وبشدة فى موقفه من اتفاقية كامب ديفيد؟


ــــ تومئ بالموافقة قبل أن تقول: فى المعركة الفكرية كان من الطبيعى أن يقف إلى جوار صديقه فى مواجهة محاولات إقحام الدين فى الفكر والأدب، ولكن كامب ديفيد قضية سياسية، تقبل الاختلاف بين المفكرين، وكان والدى له موقف ثابت رافض لها، وهذا موقف سياسى وليس أدبيا.


> فى حوار لك مع «المصرى اليوم»، قلت إن هذا الموقف السياسى حرم والدك من جائزة نوبل وذهبت لنجيب محفوظ، وهذا يفهم منه أن نجيب محفوظ كان مؤيدا لكامب ديفيد؟


ــــ  تخرج الكلمات من فمها سريعة: «طب ما هو مؤيد».


> الحقيقة لم أجد له تصريحا يقول ذلك، بل إن بعض أصدقائه يقولون العكس؟


ــــ  تبتسم قبل أن تقول: نجيب محفوظ شخصية رمادية، لا هى أبيض أو أسود، فلا تستطيع أن تلتقط له موقفا واضحا من أى شىء، ولم يكن يحب أن يحسب على موقف سياسى معين، ولكنه فى الوقت ذاته كان يعبر عن مواقفه فى كتاباته الأدبية.


والفرق بينه وبين والدى، أن والدى إضافة لكونه أديبا كان كاتب مقال، وكان يعبر فى مقالاته عن مواقفه السياسية بشكل واضح وصريح وبدون خوف، وهذا منهجه فى الحياة حتى بعيدا عن الكتابة، وسأحكى لك قصة يمكن أن تتأكد من صدقها، ففى معرض الكتاب عام 1991، وقف موجها حديثه لمبارك عندما رأى الوزراء يحتلون المقاعد الأمامية، بينما الكتاب والمثقفون فى المقاعد الخلفية، قائلا: «نحن نراك سيادة الرئيس مرة كل عام، وهؤلاء الوزراء يرونك كل أسبوع أو كل يوم، وفى يومنا السنوى يأتون ويجلسون فى الصفوف الأولى، أرجو فى العام المقبل أن يجلسوا فى الخلف ويتركوا مقاعدنا، فابتسم مبارك وقال له «حاضر يا دكتور يوسف».


أبى ونجيب محفوظ


> معنى ذلك أن رمادية نجيب محفوظ منحته نوبل، بينما صراحة والدك حرمته منها، من وجهة نظرك؟


ــــ ترتفع نبرة صوتها قليلا وهى ترد قائلة: حصل على تقدير أهم من نوبل وهى الشعبية، فشعبيته لا تقل عن نجيب محفوظ، وعبقريته لا تقل عنه، ولكل إنسان شخصيته، فوالدى ولد ثائرا، وكان مهموما بقضايا عالمه العربى، حتى أنه سافر إلى الجزائر وشارك فى النضال المسلح هناك ضد المستعمر الفرنسى، فهو بخلاف نجيب محفوظ، كان يميل للعالمية، رغم أنه ولد وعاش طفولته فى الريف، بينما نجيب محفوظ الذى ولد فى المدينة وعاش بها طيلة حياته كان ريفى الطباع، حتى أنه لم يغادر مصر قط، وأنا هنا لا أقيم أيهما أفضل، ولكن لكل إنسان شخصيته وطباعه.


وتضيف: والدى مثلا لم يكن شخصا روتينيا مثل نجيب محفوظ، لكنه كان شخصا «بوهيميا»، لا يتردد فى أن يلبى نداءات نفسه، حتى لو بدا الأمر للآخرين غير منطقى، فمثلا من الممكن أن تقفز إلى ذهنه فكرة أن يسافر الخامسة فجرا إلى الإسكندرية ويفعل ذلك.


> ولكنى أرى أن نجيب محفوظ لايزال يثير الجدل حاليا حتى بعد وفاته، هل لأنه كانت لديه «شلة» تحكى عن مواقفه؟
ــــ  تومئ بالرفض قبل أن تقول: بالعكس شهرة والدى زادت بعد وفاته، وأنت فى بداية الحوار ذكرت أن رواية «الزوجة المكسيكية» أخذت عن رواية «البيضاء»، وكذلك صدر الكتاب الذى تحدثت عنه أيضا وهو «ضحايا يوسف إدريس»، وكان الأولى أن تسأل لماذا لايزال يثير الجدل بعد وفاته؟.. وردى على ذلك، لأن الساحة خالية ولم يأت أحد إلى الآن يسد الفراغ الذى تركه يوسف إدريس، وهذا أبلغ رد على مؤلف كتاب «ضحايا يوسف إدريس»، فوالدى لم يظلم أحدا، ولكن موهبته طغت على الآخرين.


> ولكن نجيب محفوظ افتتح له مؤخرا متحف كبير، وهذا يعكس تقدير الدولة له؟
ــــ  تبدو علامات الدهشة على وجهها قبل أن تقول: والدى أيضا له متحف فى القرية التى ولد بها فى الشرقية، فقد تبرعت الأسرة بالأرض والمقتنيات، وأنشأت وزارة الثقافة المتحف.


> إذن لماذا اتهمت وزارة الثقافة فى بداية الحوار بأنها مقصرة؟
ــــ  تخرج الكلمات من فمها سريعة: أنا لا أتهم، ولكن أقول إن جهودها غير منظمة، فأنا مثلا أتمنى أن أرى متاحف مجمعة عن رموز ومبدعى مصر يتم إنشاؤها فى قصور الثقافة المغلقة بالضبة والمفتاح، لتكون مزارا ثقافيا يقصده المصريون والعرب، فمصر كانت مليئة بالمبدعين، وليس والدى فقط.


زيارة مبارك وحافظ الأسد


> أعود إلى علاقته بالرؤساء، حيث توقفت أمام مشهد زيارة الرئيس الأسبق حسنى مبارك والرئيس الراحل حافظ الأسد لمنزلكم فى مارينا بالساحل الشمالى، ألم يكن هذا المشهد «سينمائيا» بعض الشيء؟


ــــ تطلق ضحكة عالية قبل أن تقول: إذا كنت تراه سينمائيا، فهذا رأيك، ولكن ما حدث حقيقة لم يكن مرتبا على الإطلاق، فقد سمع والدى بينما كان يرتدى الشورت ويقوم بحلاقة ذقنه أصواتا مرتفعة وكانت هناك حالة من الصخب فى محيط المكان، فخرج إلى الشرفة يستطلع ماذا يحدث، فكانت هناك زيارة للرئيس الأسبق مبارك بصحبة حافظ الأسد، فأشار مبارك لوالدى لتحيته، ورد والدى التحية، وقام بتوجيه الدعوة لهما، وكانت المفاجأة أنهما قبلا الدعوة، وصعدا معا إلى منزلنا، وكان والدى وقتها حافى القدمين، وكريم الحلاقة على وجهه، وكنت وقتها بصحبة والدى وقمت بإعداد الشاى لهما.. وأعود إلى الفرق بين والدى ونجيب محفوظ، فهذا الموقف يكشف لك الفرق بينهما، فنجيب محفوظ لو كان فى مكان أبى ما خرج إلى الشرفة، ولكن شخصية أبى كانت مختلفة. 


> وهل استفاد من هذه الشخصية المختلفة؟


ــــ تخرج الكلمات من فمها سريعة قائلة: بالطبع استفاد، فكاتب القصة القصيرة تركيبته مختلفة عن تركيبة كاتب الرواية، فكاتب القصة القصيرة مثل «الأكلة الحرشة» طبيعته حامية، لأن القصة القصيرة ما هى إلا لمحة لو لم يكتبها الكاتب فورا من الممكن أن تضيع منه، بينما الرواية الطويلة تحتاج إلى النفس الطويل.


> تريدين القول إن كتابة الرواية صبغت شخصية نجيب محفوظ بـ «الروتينية»؟


ــــ تومئ بالموافقة قبل أن تقول: بالطبع، فكل كتاب الرواية، وليس نجيب محفوظ وحده، شخصيتهم روتينية، حيث يستيقظون فى موعد محدد ويكتبون فى موعد محدد.


روايات إدريس وأغانى أم كلثوم


> بما أنك قارنت كثيرا بين شخصية يوسف إدريس ونجيب محفوظ، فهل سيكون لك رأى مختلف عن ابنة نجيب محفوظ فى تقييم أعمال والدك، فقد سألتها فى حوار عن رأيها فى أعمال والدها، فقالت إنها لا تحب من أعماله رواية «أولاد حارتنا»، فهل هناك أعمال لا تحبينها لوالدك؟


ــــ تظهر مشاعر الحماس واضحة على وجهها قبل أن تقول: أعتقد أنه من عبقرية يوسف إدريس أنه لا يوجد عمل عنده عليه ملاحظات، فكل عمل عنده أفضل من الذى سبقه، فأعماله مثل أغانى أم كلثوم، كلها رائعة، وأنا فى هذه الجزئية مغرورة إن شئت أن تصفنى بذلك.


> وهل استفاد من دراسة الطب أدبيا؟


ــــ تخرج الكلمات من فمها سريعة قائلة: بالطبع، فهو دائما ما كان يقول لى إن دراسة الطب ساهمت بشكل كبير فى تفوقه الأدبى، لأنها ساعدته فى تشريح النفس البشرية.


انتقاد الشعراوى


> من القضايا التى أخذت مساحة من اهتمام الرأى العام، وارتبط بها اسم يوسف ادريس، هى انتقاده للإمام الراحل محمد متولى الشعراوى، والذى شبهه بالراهب الروسى المثير للجدل «راسبوتين»، ثم اعتذاره بعد ذلك للإمام، فهل هناك من أجبر والدك على الاعتذار؟


ــــ تصمت لوهلة قبل أن تقول: أظن أنه أجبر على الاعتذار.


> ومن أجبره على ذلك؟


ــــ شعبية الشعراوى والرسائل الغاضبة من القراء المحبين لوالدى دفعته لتقديم الاعتذار، لأنه لم يكن يريد أن يسبب ضيقا لقرائه.


> يعنى لم يكن الاعتذار إحساسا منه بالخطأ فى الوصف؟


ــــ لم يغير والدى رأيه فى الشعراوى، وكان الاعتذار كما قلت لك لإرضاء القراء.


> ألا يبدو ذلك غير متسق مع شخصيته؟


ــــ بالعكس والدى لم يكن يخجل أبدا من الاعتذار، وكان دائما ما يقول لى إن الاعتذار هو قدرة القوى.


> ولكنه لم يكن مقتنعا بهذا الاعتذار كما قلت سابقا، وهذا ما أراه غريبا على شخصيته؟


ــــ كان يعتبر القراء مثل أسرته الصغيرة، ولم يكن يريد مضايقتهم.


الاتهام بالإلحاد


> اتهم والدك بالإلحاد، رغم أنه زار الكعبة وتعلق فى أستارها وأخذ يبكى، كما حكى الكاتب الراحل سليمان الحكيم الذى رافقه فى هذه الرحلة بأحد مقالاته، فهل حكى لك الوالد عن هذه الزيارة؟


ــــ تظهر مشاعر التأثر واضحة على وجهها قبل أن تقول وهى تحاول حبس دموعها: سألتنى فى بداية الحوار عن مواقف جعلته يبكى، وأنت ذكرتنى بهذا الموقف الذى حكاه لى والدى بنفسه، وموقفا آخر حدث فى انجلترا أثناء رحلة علاجه التى سبقت الوفاة، حيث بكى وقال إنه سيسافر فور العودة لمصر إلى السعودية لأداء العمرة، فوالدى كان بداخله إيمان عظيم وحب كبير لله.


> إذن لماذا اتهم بالإلحاد؟


ــــ لأنه فى وقت من الأوقات كان منحازا لليسار، ولكن من منطق الثورة، فقد كانت طبيعته ثورية.


> وهل كل يساريا ملحدا؟


ــــ هذا من غباء البعض الذى ابتلينا به، والذين يصفون أى شخص يسارى بأنه ملحد، فالشخص قد يكون يساريا فى آرائه، لكنه ليس يساريا فى المعتقدات، فنحن «شعب متدين بطبعه» .