يوميات الأخبار

ذكريات.. ترسم مستقبلنا

د. محمد حسن البنا
د. محمد حسن البنا

«المطلوب أن تتاح الحرية الكاملة للكاتب فيما يعتقد أنه صح، بشرط أن يلتزم بمبادئ وآداب المهنة، ولا يخوض فى الأعراض مثلا، وأن نعطى الحق لرؤساء التحرير فى تقدير ما ينشر متشحين بالمصلحة العليا للوطن قبل النظام»

دروس التاريخ، وما يحمله من ذكريات، ترسم المستقبل، لهذا نقول من ليس له ماضٍ لا مستقبل له. التاريخ كتاب مفتوح ينهل منه عشاق المستقبل، قد يزيف أحيانا، بقصد خبيث أو دون قصد، لكنه يطهر نفسه بنفسه، هكذا علمتنا الأيام، وصدق الله سبحانه وتعالى حين تحدث فى كتابه الحكيم عن الصراع بين الحق والباطل، باعتباره من سنن الحياة، فلا يمكن أن يسودها الخير وتخلو من الشر، وبالمقابل لا يمكن أن تعانى من الشر المطلق بحيث لا يكون فيها قائم بالحق، يقول تعالى فى سورة الرعد «كذلك يضرب الله الحق والباطل»، وفى الإسراء «ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق»، من هنا تتبين لنا حقيقة مسارات التاريخ.
وعندما سمى الله القرآن بأنه «الفرقان» دلالة لما فيه من فارق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ولما فيه من تفرقة بين نهج السماء ونهج الأرض، وبين تشريع البشر وتشريع رب البشر. وما يحدث من ابتلاءات لنا ليعلم الله من هو أحسن عملا، ومن يدافع عن الحق، ومن ينصر الباطل، وعلينا أن نعلم أن الله سبحانه ينصر الحق، وأن الباطل، وإن حقق انتصارات هنا وهناك، فإنها انتصارات آنية واهية، وليست بانتصارات حقيقية واقعية. وهو ما تأكد لنا من قوله سبحانه فى الأعراف «فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون»، وقوله فى الأنفال «ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون»، وقوله فى الإسراء «وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا».
لهذا أقول لمن يهاجمون رموزا توفاها الله مثل مولانا الشيخ محمد متولى الشعراوى، ربنا يهديكم ويرشدكم إلى التفرقة بين الحق والباطل، وأقول لمن أصابهم الضرر، وأنا منهم، علينا أن نتحلى بالصبر والثبات على الحق. وقد تعلمنا من القرآن الكريم أن العاقبة للحق، وأن الباطل مهما تطاول وبغى وطغى فإنه إلى زوال.
لست قاصدا هؤلاء فى يومياتى، فقد تحدثت عنهم فى مقالى اليومى «بسم الله» بمعشوقتى الأخبار، وعما يجيش فى صدرى عن مولانا الشعراوى. بل أقصد أن ذكرياتنا القريبة قد ترسم مستقبلنا القريب أيضا، فنحن نسعى إلى عملية إصلاح سياسى، يتيح الرأى والرأى الآخر بكل شفافية وموضوعية، ومن دون اصطناع، وأن يكون الهدف الأسمى المصلحة العليا للوطن، فالكلمة تبنى ولا تهدم، وتقوم وتصوب من دون فضح أو شرشحة، والنقد البناء يقصد دعم ومساندة الأعمدة الرئيسية التى تقوم عليها الدولة.
الحمامصى والشناوى
وقد ذكرنى ما كتبه الزميل الناقد الفنى الكبير طارق الشناوى فى مقاله «كروان الفن وبلبله!» حينما ذكر أستاذنا جلال الدين الحمامصى، صاحب المقال الشهير دخان فى الهواء، يقول الشناوى: الكتابة على الحافة، أى أن تصل لآخر ما تعتقد أنه متاح، الفيصل هو النشر، والباقى (دخان فى الهواء)، وهو بالمناسبة عنوان الباب الذى كان يكتبه أحد أساتذة الصحافة الكاتب الكبير جلال الدين الحمامصى، أعلم قطعا أن أغلب القراء لا يتذكرون اسمه، ولهذا سأضيف لكم أن فيلم (إحنا بتوع الأتوبيس) مأخوذ عن واقعة حقيقية أشار إليها فى كتابه (حوار وراء الأسوار)، كثيرا ما تعرض عموده فى جريدة (الأخبار) للحذف أو المنع، ومن كان يلعب دور الرقيب كاتب كبير وموهوب جدا الأستاذ موسى صبرى، والذى كان يعتبر أن الحمامصى أستاذه الأول، وتلك حكاية أخرى.
يوضح الشناوى أن الرئيس الراحل أنور السادات ألغى الرقابة على الصحف، لكنه منح رؤساء التحرير سلطة الرقيب، وصار الأمر يخضع، وحتى الآن لتقديره فى السماح بالنشر، وهو ما يفترض الوصول لتلك المساحة الزئبقية، بين أن تكتب ما يمكن أن يتحمل رئيس التحرير مسئولية نشره. كلنا نجتهد، فهى منطقة هلامية، نتعرض فيها عادة لقدر من التناقض فى التلقى، من يعتبرك شجاعًا لأنك قطعت تلك المسافة فى البوح، ومن ينعتك بالرعديد لأنك وقفت فقط على شاطئ الحقيقة، متجاهلين القاعدة الفقهية (ما لا يدرك كله لا يترك كله).
ما يهمنى أن الشناوى تحدث عن تاريخ مجيد للصحافة المصرية، يمكن أن نطلق عليه جيل العمالقة، الذين رغم الضغوط الشديدة كانوا يبدعون، موسى صبرى رغم دفاعه المستميت عن النظام وقتها، إلا أنه صحفى مبدع تعلم المهنة على يد جلال الحمامصى مثله مثل الكثير من الأجيال عبر التاريخ، الحمامصى رائد الصحافة المثالية، وموسى صبرى صاحب الواقع، ورؤيته الحفاظ على النظام، وإن كان بمنع أو قص مقالات الكتاب، حتى وإن كان أستاذه، وأعتقد أن موقف الكاتبين «الحمامصى وصبرى» سليمان. الأول يعلى شأن المواطن ومصلحة الدولة، والثانى يقدم مصلحة النظام على أية مصلحة أخرى، وله مبرراته التى تنتهى إلى استقرار الدولة وأمنها. وهى المعضلة التى مازالت تبحث عن حلول فى الوقت الحاضر والمستقبل. الزمن يتغير، وأدواته تتغير، وعقول الناس تختلف، فلابد من البحث عن نقطة توازن بين وجهتى النظر المختلفتين. المطلوب أن تتاح الحرية الكاملة للكاتب فيما يعتقد أنه صح، بشرط أن يلتزم بمبادئ وآداب المهنة، ولا يخوض فى الأعراض مثلا، وأن نعطى الحق لرؤساء التحرير فى تقدير ما ينشر متشحين بالمصلحة العليا للوطن قبل النظام.
وقد يكون لزاما علينا أن نعود إلى ما كتبه جلال الحمامصى فى كتابه «القربة المقطوعة» الصادر عام 1980، فيه المشكلة والحل، فيه الرصد والتحليل للأحداث، فيه من يقول إن ما يكتبه المفكرون بلا صدى، وكأنهم ينفخون فى القربة المقطوعة، لنخرج منها بدرس مهم، يقول إن ما يكتبه الكاتب يحترم، وما يبديه من أفكار تحترم، ليس هذا فقط، بل وتجد صدى لدى المسئولين بالإيجاب أو النفى والتفنيد. ساعتها ممكن أن نصلح القربة المقطوعة!.
العجيب أن الإعلام الآن يعانى مشكلات طاحنة، سواء من الجانب الاقتصادى وما نتج عنه من خسائر باهظة وتدنً فى دخول العاملين به، أو من الجانب المهنى، وهو الأهم، وهى مشكلات تم تحديدها وحصرها، دون أن يتصدى أحد بشفافية لها، بالرغم من وجود حلول عملية وعلمية لها، لم أر كلية أو معهدا أو جامعة تتصدى لهذه المشكلات، رغم أن لدينا أكثر من 100 كلية ومعهد ومجلس وهيئة متخصصت فى الإعلام!.
القيم والأخلاق
بعد يومياتى السابقة عن القيم والأخلاق، كتب القارئ حامد البنا خواطر يقول فيها «أيها الكُتاب والمخرجُون والمنتجُون باللَّه عليكم ارحمُونا بأفلامكم ومسلسلاتكم والتى تزرع قيما خَرِبه تُخرب قيم شبابنا، إن شبابنا ليس هم الممثل محمد رمضان الذى يمثل دور البلطجة ببراعة، ونحن نرفض هذا.. وقد نتج عن أعمالكم أن الشاب راجح قتل الشاب محمود البنا بتلا «المنوفية» وبسلاح أبيض.. والله ده حرام أن تبثوا قيم إحنا فى غنا عنها.. قيم البلطجة.. قيم المخدرات.. وقيم كلها عدوانية للغير.. أيها المسئولون عنا:  بالله عليكم انتبهوا لما يُنشر أو يُذاع أو يُعرض بدور السينما يخالف قيم المصريين التى تربينا عليها، وضرورة العودة إلى قيم الإسلام والتمسك بها.. وجزاكم اللَّه عن شبابنا كل خير».
شجرة التوت
لكل منا ذكريات، لكن الشاطر من يكتبها أو يحكيها بأسلوب قصصى جذاب، مثل أديبنا العظيم الدكتور طه حسين، فى كتابه الخالد «الأيام»، وهذا ما فعله الزميل والصديق أحمد عبد الكريم فى كتابه «حكايات تحت شجرة التوت»، عرفت أحمد صحفيا بارعا فى قسم الاستماع السياسى، وهو قسم يشكل الصحفيين بصورة متكاملة، من يعمل فيه لابد أن يكون لديه حس صحفى عالٍ، وحس وطنى وسياسى راقٍ، وخلفية كاملة عن العلاقات الدولية، فهو يستمع إلى ما تنقله المحطات الإعلامية المختلفة سواء إذاعة أو تليفزيونا أو فضائيات، ويقدمها فى صورة تقرير للمسئول عن النشر، صحيح أن هذا العمل تطور وأصبحت الأجهزة الحديثة تغنى عنه، ثم انتقل عبد الكريم محررا بقسم المحافظات، واختار القليوبية ليغطى أخبارها ونشاطاتها وهموم سكانها، فكان من المراسلين البارزين فى القسم. ثم اتخذ قرارا يصعب على غيره اتخاذه، فقد اعتزل المهنة ليتفرغ للأدب والثقافة، فكان إنتاجه مميزا، وإن تأثر بأسلوب عمله فى الصحافة. وهو ما وضح فى كتابه الأول بعنوان «حواديت وكواليس صحفية»، والذى اتبعه بكتابه شجرة التوت، الذى يحكى فيه قصة نشأته وسط أسرة مصرية متوسطة الحال، يرصد فيها أحوال مصر منذ أيام الملكية مرورا بثورة 23 يوليو 1952، ويربط ما مر بمصر من أحداث بحياته الشخصية، كل هذا بأسلوب شائق يذكرك بحياتك، وما مر بها من خير وشر. الكتاب من نوع التراجم الشخصية، وربما يدفع صديقى أحمد عبد الكريم لأن يتابع سلسلته، فهى نموذج لكل منا، ومنها نرسم مستقبلنا. ولم يغلق هذا العام على كتابيه، بل صدر له مؤخرا كتابه الثالث «عازف الناى» ليصبح الأكثر إنتاجا فى عالم الكتب.
سدرة المنتهى
حينما وصل النبى صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى وأوحى إليه ربه: يا محمد، ارفع رأسك وسل تُعط.. قال يا رب: إنك عذبت قوما بالخسف.. وقوما بالمسخ.. فماذا أنت فاعل بأمتى؟ قال الله تعالى: (انزل عليهم رحمتى.. وابدل سيئاتهم حسنات.. ومن دعانى أجبته.. ومن سألنى أعطيته.. ومن توكل على كفيته.. واستر على العصاة منهم فى الدنيا.. وأشفعك فيهم فى الآخرة.. ولولا أن الحبيب يحب معاتبة حبيبه لما حاسبتهم يا محمد إذا كنت أنا الرحيم وأنت الشفيع..؟ فكيف تضيع أمتك بين الرحيم والشفيع)؟!
سبحانك يا رب ما أعظمك، وما أرحمك... أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. يَقول إبليـس لله عـزَ وجلَ: {وعزتك وجلالك! لأغوينهم مادامت أرواحهم فى أجسادهم}! فيقول الله عز وجل: {وعزتى وجلالى لأغفرنَ لهم ماداموا يسَتغفروننى..}! اسْتغفِر اللّه.. استغفر الله.. استغفر الله.. أكثروا من الاستغفار
ولنعلم أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ولم يجدوا أصحابهم الذين كانوا معهم على خير فى الدنيا فإنهم يسألون عنهم رب العزة، ويقولون: «يا رب لنا إخوان كانوا يصلون معنا ويصومون معنا لم نرهم» فيقول الله جل وعلا: اذهبوا للنار وأخرجوا من كان فى قلبه مثقال ذرة من إيمان. قال الحسن البصرى - رحمه الله - {استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة} الصديق الوفى هو من يمشى بك إلى الجنة … قال ابن الجوزى رحمه الله: إن لم تجدونى فى الجنة بينكم فاسألوا عنى فقولوا: يا ربنا عبدك فلان كان يذكرنا بك! ثم بكى رحمه الله رحمة واسعة. وأنا أسألكم إن لم تجدونى بينكم فى الجنة فاسألوا عنى.. لعلى ذكرتكم بالله ولو لمرة واحدة - اللهم إنا نسألك رفقة خيرٍ تعيننا على طاعتك، وأدِم اللهم علينا تآخينا فيك إلى يوم لقاك.. سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.