بأقلام الأشقاء

ليـس وداعـا !

الشيخ راشد بن عبدالرحمن آل خليفة
الشيخ راشد بن عبدالرحمن آل خليفة

ليس يسيراً أن يقف الإنسان موقف المودع، للمكان، والأصدقاء، والزملاء، وأن يحتفظ فى مكنون وجدانه بالذكريات، يعود إليها بين الحين والآخر، لينقب ويبحث فيها عن مخزون أكثر من ثمانى سنوات، عامرة بالأحداث والتطورات، شارك فيها مراقباً ومتابعاً تارة، ومحركاً وفاعلاً تارة أخرى.
هذا ما أشعر به الآن، وأنا على وشك انتهاء مهمتى الدبلوماسية فى أرض الكنانة، مصر الحبيبة والعزيزة على قلب كل عربي، والأثيرة دائما لكثير من البحرينيين، وأنا أحدهم، ممن أسرتهم القاهرة ومعالم مصر الأخرى بسحرها، ودلفت إلى قلوبهم وتربعت فيها، وباتت، وباتوا معها جزءًا لا يتجزأ منهم ومنها، فى شبه توحد لا يستغربه كل من عاش على هذه الأرض الطيبة، وارتبط بأهلها وشعبها.
أغادر مصر بعد أن تشرفت، ولأكثر من ثمانى سنوات، بتمثيل بلادى كسفير لمملكة البحرين فى جمهورية مصر العربية الشقيقة، ومندوبا دائما لدى جامعة الدول العربية، إلى أن أصبحت عميداً للسلك الدبلوماسى العربى فى قاهرة المعز، التى لا تهدأ ولاتنام، وتظل عبر التاريخ شاهدة على أحداث كثيرة، غيرت وجه المنطقة فى حقب زمنية مختلفة.
أتيت إلى مصر فى عام 2011، فى خضم أحداث متلاحقة شهدتها كل من مصر والبحرين، وعدد من الدول العربية، أراد من أراد خلالها، أن يعود بعقارب الساعة إلى الوراء، وأن ينال من بلداننا، ويبدد آمالها، ويعرقل تقدمها، تحت دعاوى سرعان ما انكشفت، وتجلت للعيان الحقيقة فى حزم من المؤامرات والمخططات، التى استهدفت أمن واستقرار دولنا، لكن سرعان ما انقشعت الغمة، بعد أن تمسكت الشعوب برفض سقوط بلادها.
ولأكثر من ثمانى سنوات كنت شاهداً على التنامى القوى لعلاقات بلدينا البحرين ومصر، لا سيما العلاقات الوطيدة بين القيادة السياسية فى البلدين، ممثلة فى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين المفدى، وأخيه فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية الشقيقة، وحجم التنسيق بين مختلف الجهات فى البلدين تجاه مختلف القضايا الإقليمية والدولية.
لقد تطابقت رؤى البلدين الشقيقين وتماثلت تجاه العديد من القضايا والتطورات، وشكلت مواقفهما دوما، نموذجا يحتذى به فى تنسيق المواقف، والحفاظ على المصالح العليا، وصون الأمن القومى العربي، والتصدى لكل محاولات زعزعة الأمن والاستقرار، والأعمال الإرهابية التى استهدفت منطقتنا، ولم تسلم منها البحرين أو مصر، لكنهما نجحتا فى تحجيم هذه الأعمال، والحد من خطوراتها وتأثيرتها على التقدم والتنمية.
ولقد تجلى التطابق فى مواقف البلدين، فى وقوف كليهما بكل قوة وصلابة تأييداً للبلد الآخر، وتأكيد قيادتى البلدين، بأن أمن الخليج خط أحمر لا يُسمح بتجاوزه بالنسبة لمصر، وأن الأمن القومى لمملكة البحرين جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصري، وحرص حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين المفدي، على تأكيد ذلك عبر زيارات جلالته المتكررة إلى بلده الثانى جمهورية مصر العربية، وأيضا زيارات فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى، رئيس جمهورية مصر العربية الشقيقة، إلى بلده الثانى مملكة البحرين.
ولقد انعكس ذلك كله على علاقات الشعبين الشقيقين والمصالح المشتركة للبلدين، حيث تزايدت الاستثمارات البحرينية فى مصر والاستثمارات المصرية فى البحرين، إذ تحتل الاستثمارات البحرينية فى مصر، المرتبة 14 على مستوى العالم، وتقترب الاستثمارات البحرينية من حاجز 3 مليارات دولار، كما يصل عدد الشركات المستثمرة بمساهمات بحرينية فى مصر إلى 183 شركة. ويتجاوز حجم التبادل التجارى بين البلدين الشقيقين 160 مليون دولار، ويسعى البلدان لزيادته فى المستقبل القريب.
وعندما أستعرض تاريخ العلاقات بين البلدين الشقيقين، وأنا أتأهب لمغادرة بلدى الثانى، والعودة إلى بلدى الأول، فلا يمكن أن تفوتني، أو تغادر ذاكرتي، تلك المحطات المهمة فى هذه العلاقات، والتى تتجاوز التاريخ الحديث إلى حقب تاريخية قديمة، ربما تضرب بجذورها فى عمق هذا التاريخ، وصولا إلى الحضارة المصرية القديمة، وحضارة دلمون العريقة فى البحرين.
ولاننسى المشاركة المتميزة من المصريين المتخصصين فى مختلف المجالات، فى مسيرة التنمية بمملكة البحرين، ونعتز كثيراً بدورهم فى مجالات التعليم، والقضاء، والاعلام، والهندسة، والطب، ومختلف التخصصات الأخرى، فالجالية المصرية فى مملكة البحرين توصف دائماً بأنها جالية متميزة، وقد اندمج أفرادها فى المجتمع البحرينى، الذى لا يختلف كثيرا فى عاداته وتقاليده عن المجتمع المصري، وهو ما يزيل أى شعور بالاغتراب لدى كل من البحرينيين والمصريين فى البلد الآخر.
نعم أكررها فى الختام، «ليس وداعا»، وإنما وعد، بتجدد اللقاءات والزيارات إلى بلدى الثانى مصر، والتواصل مع أصدقاء كثيرين، اكتسبتهم، وجمعتنى بهم سنوات عملى فى مصر الحبيبة..
فإلى لقاء يتجدد دائماً.