يوميات الأخبار

هؤلاء وحمو بيكا

 أيمن منصور ندا
أيمن منصور ندا

 أيمن منصور ندا

«عندما تسود أخلاق السادة ينصلح كلُّ شيء .. وعندما تسود أخلاق العبيد يتحول كلُّ شيء إلى الأسوأ»..

يوجد مثل بريطانى يشير إلى أن «العقول العظيمة تفكر بطرق متشابهة»، فلا توجد اختلافات جوهرية فى الأداء بينها، وإن اختلفت فى التوجهات.. وتوفلر، ومالتوس، وپاريتو، وحمو بيكا، من العقول العظيمة التى تفكر بطرق متشابهة وتهتم بالأفكار أكثر من اهتمامها بالأحداث أو بالأشخاص!
ألفين توفلر (1928- 2016) كاتب أمريكى شهير، من أهم كتبه «صدمة المستقبل»، أشار فيه إلى أن البشرية (ويقصد بها الغرب الأمريكي) قد تصطدم مع المستقبل بسبب كثرة التغيرات التى ستحدث فى إطاره.. سيصبح الغرب غير قادر على مواجهة المستقبل إن لم يجدوا آليات جديدة للتعامل معه.. ولذا، فهم يدرسون هذه الآليات ويطوّرونها من خلال «زعزعة الأساسات» القديمة لديهم.. نحن لدينا مشكلة أعمق منهم ؛ لدينا صدمة فى التعامل مع الواقع ومع الحاضر.. نحن غير قادرين على مواجهة مشكلاتنا الحياتية اليومية حتى البسيط منها.. والنتيجة المنطقية المتوقعة هى أنهم سيتركوننا وحدنا فى «قاع الواقع» وينطلقون بعيداً عنا إلى المستقبل..
توماس مالتوس (1766- 1834) اقتصادى بريطانى موسوعىّ الثقافة.. كانت له نبوءة اقتصادية متشائمة؛ إذ يرى أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية (2، 4، 8، 16،...)، والإنتاج يتزايد بمتوالية حسابية (2، 4، 6، 8،...)، وفى ضوء اتساع الفجوة بين المتواليتين، ستحدث مجاعة وانهيار تام.. الغرب استطاع أن يفصل سلك الإشعال عن القنبلة.. ونحن أسلاك القنبلة لا تزال موصولة لدينا بمزاجنا وبإرادتنا.. والقنابل لا تسبب لنا مشكلة، بل نستمتع بمشاهدتها، ونلتف حولها، ونطرب لسماع صوت انفجارها..
فيلفريدو پاريتو (1848- 1923) مفكر إيطالى صاحب قانون (مبدأ) پاريتو: 80/20، والذى يشير إلى أن 80% من النتائج سببها 20% من الأسباب.. بالطريقة نفسها، فإن 80% من أزماتنا ناتجة عن 20% من أساليب تصدينا لمشاكلنا.. النسبة الأكبر من أزماتنا سببها مجموعة صغيرة من الأسباب يمكن تحديدها بوضوح، ويمكن القضاء عليها بسهولة، ولكننا لا نرغب فى ذلك، لأننا نستمتع بحالة التأزيم المستمرة للمواقف والقضايا الحياتية.. دعهم يتأزمون و»خليهم يتسلوا» !
حمو بيكا ( 1984 -....) : مطرب مصرى، بلغ عدد مشاهدات أغانيه على اليوتيوب أكثر من مائة مليون مشاهد خلال عام واحد، ويرى أن «ربّ الكون ميّزنا بميزة.. الرجولة والنفس عزيزة»، ولذا، فلا شيء يهم بعدها.. حمو بيكا ورفاقه فى كلّ مجالات حياتنا هم نتاج لصدمة الواقع الذى نعيشه، وفرق الناتج بين النمو الثقافى البطيء (المتواليات الحسابية)، والانفجار فائق السرعة للعشوائيات (المتواليات الهندسية)، وهو أيضاً ضمن 80% من النتائج المترتبة على 20% من أسباب تخلفنا..
هذه العقول العظيمة التى تفكر بهذه الطرق المتشابهة، تصل بنا إلى طريق مسدود ومتشائم، أهم معالمه أن أزمتنا مستمرة، ولا أمل فى الأفق، ما دمنا نتبع نفس الأساليب فى حلّها.. ولذا من الأفضل أن ننسى ما قالوا، وأن نغنى مع حمو بيكا «شقلطونى فى بحر بيرة... دوغرى سكة أنتى الأميرة»!!
أخلاق السادة وأخلاق العبيد
تلقيت رسالة كريمة من المستشار ثروت بدوى (رئيس هيئة القضاء العسكرى سابقاً)، تعقيباً على مقالين سابقين لى تم نشرهما فى جريدة «الأخبار» حول بعض سمات الإدارة والمدراء فى مصر، الأول عنوانه «ابتعد : لا تحجب عنى ضوء الشمس»، والثانى بعنوان «سرير بروكرست وأحلامنا المقصوصة»..ورسالة المستشار ثروت بدوى،التى تعتبر بحثاً فلسفياً عميقاً فى جذور المشكلة وتداعياتها والآثار المترتبة عليها، تأتى مكملةً لهاتين الفكرتين ومتممةً لهما فيما يشبه «الثلاثية الإدارية».. واقتطف من رسالته المطوَّلة بعض فقراتها ذات الدلالة..
«من الظواهر اللافتة للانتباه فى البناء الاجتماعى المعاصر أنه لكى تصبح»سيداً»فى كثير من المجالات الوظيفيةلابدَّ وأن تبدأ السُلَّم الوظيفى من أوله ؛ ولابدَّ أن تكون «عبداً» لفترة من الزمن.. أخلاق العبيد منتشرة فى محيطنا الوظيفى بشكل لا تخطئه عين.. وعندما يتحول هؤلاء العبيد إلى أسياد، وأولئك الخدم إلى أهل سلطة، تنتقل معهم كثير من الأمراض الاجتماعية أهمها التسلق، والنفاق، والمحسوبية، والانتقام».
«كثير من قواعد التربية فى أيامنا تميل إلى فكرة الطاعة المطلقة والعبودية باعتبارها أساساً للتقدم والرقي.. أطفالنا يتعلمون أن النقل مفضّل على العقل، وأن طاعة الأوامر هى من باب الأدب والفضل.. صغار الموظفين يرون أن النجاح فى العمل مرهون بالسمع والطاعة، وبالتقرب إلى الرؤساء زُلْفَى، وبالنفاق لهم.. الموظف المثالى هو الموظف الذى يسمع الكلام وينفذ الأوامر بحذافيرها.. الموظف المفكّر أو الُمبْدع هو موظف مشاغب، ولا فرصة له للترقى أو للصعود»..
«فكرة التفرقة بين أخلاق العبيد وأخلاق السادة هى فكرة متأصلة فى الفكر الإنسانى.. الفيلسوف الألمانى «فريدريك نيتشه» بلغ المدى فى التفرقة بين هذين النوعين من الأخلاق فى كتابيْه «أصل الأخلاق وفصلها»، و»ما وراء الخير والشرّ»، حيث أشار إلى حدوث تحوّل من مفهوم «الجيّد فى مقابل السيئ» الذى اخترعته أخلاق السادة، إلى مفهوم «الطيب فى مقابل الشرير» الذى اخترعته أخلاق العبيد.. أخلاق العبيد هى أخلاق استهانة ومهادنة وتزلف ومداهنة وخضوع.. أخلاق السادة هى أخلاق الشجاعة والترفع والإجادة».. قبله أشار أفلاطون إلى مسئولية المجتمع عن انتشار هذين النوعين من الأخلاق»فالمجتمع العادل هوالذى يضع كلَّ شخص فى المكان المناسب الذى تؤهلّه له طبيعته ونزعاته»، وعدم قيام المجتمع بهذه المهمة يؤدى إلى نتائج مهلكة له وللأفراد على حدّ سواء».
«المشكلة فى زماننا المعاصر، أنه لم يعد من المستطاع تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.. اختلط النوعان معاً، ونتج عن ذلك مزيج من الصعب معرفة ماهيته، أوتحليل عناصره.. وبسبب انتشار أخلاق العبيد، تحول كثير من المفاهيم عن أصلها : حيث تحولت «الرشوة» إلى إكرامية»، وتحول «الغش» إلى «فهلوة وشطارة»، وتحول «الخداع» إلى «ذكاء ومفهومية»، وتحول «النفاق» إلى «تكيّف اجتماعي»، وتحول «الكذب» إلى «صلاح وطيبة».. وتحول «العجز والخنوع» إلى «صبر وتحمل»، وأصبح الشخص الإمَّعة «جنتلمان وكيوت».. وبانتشار هذه الأعراض انتشر الحقد المجتمعيّ كتعبير عن السلبية والعجز والشك فى الأخرين».
«عندما تسود أخلاق السادة ينصلح كلُّ شيء.. وعندما تسود أخلاق العبيد يتحول كلُّ شىء إلى الأسوأ»..
«حليمة عبد النبى البنا»
اليوم، يكون قد مرَّ على وفاة أمى مائة يوم.. لا أدرى أهى مائة عام لشدة اشتياقى لها، أم مائة ثانية لشدة قرب كل التفاصيل، ولاستمرار سيطرة الإحساس بالفقد؟..مائة يوم فارقة فى حياتي.. ما بين الإحساس بالطفولة الدائمة، وشعور بالكهولة المفاجئة..
لست أدرى بصفة عامة مَن الأشد احتياجا إلى الآخر : الأمُّ أم الأبناء؟ المؤكد لدىّ أننا أشدُّ احتياجاً لأمهاتنا من شدة احتياجهن لنا حتى فى سنوات عمرهن الأخيرة وفى شدة ضعفهن.. وتزداد الحاجة إلى أمهاتنا كلما كبرنا فى السن.. ليس الصغار فقط هم من يحتاجون إلى أمهاتهم.. كان رسولنا الأكرم  يبكى شوقاً إلى أمه، وهو مَنْ لم يعش معها إجمالاً إلا شهوراً معدودات فى سنواته الست الأولى من حياته، وكان يبكي، وهو شيخ كبير، كلما خطرت له على بال..عن أبى هريرة، قال: زار النبيُّ  قبرَ أمِّه، فبكى وأبكى مَن حوله.. الشاعر الألمعى «أبو العلاء المعرى» ماتت أمه، وكان قد تجاوز مرحلة الكهولة بسنوات، فشعر بأنه رضيع لم يبلغ حدَّ الفطام «مَضتْ وقد اكَتَهلتُ فخلتُ أنَّى ** رضيعٌ ما بلغتُ مدى الفطامِ».. وكان الشريف الرضى يتعجب كيف وهو الشيخ الجليل يفقد تماسكه وتجملَّه ووقاره بعد وفاة أمه «فَارَقْتُ فِيكِ تَماسُكى وَتَجَمّلى ** ونسيتُ فيك تعززى وإبائي».. والشاعر الفلسطينى محمود درويش فى شيخوخته كان يحن بشدة إلى لمسةٍ من كف أمه، وإلى خبزها وقهوتها «هَرِمتُ، فردى نجوم الطفولة.. حتى أشارك صغار العصافير.. درب الرجوع لعش انتظارك»..
«خُلِقت الأمهات على الفطرة»، لا فرق بين أمّ بدرجة رئيس جمهورية أو ملكة، وأمّ بدرجة عاملة فى الحقل.. الأمومة إحساس فطرى، الاختلاف يكون فى الدرجة الظاهرة، وليس فى الإحساس الكامن، فى القشرة الخارجية لا فى المعدن الأصلي.. لذلك ليس فى أمى شيء مختلف عن بقية الأمهات فى نوع الأمومة، ولكن هى مسألة اختلاف فى درجة العطاء من ناحيتها.. واختلاف فى درجة الاستجابة والتلقى والامتنان من ناحيتي..
كان أبى رحمة الله عليه، وأنا طفل صغير، يجلسنى على ركبتِّيه ويردّد على مسامعى قول شوقى : «فإذا رَحِمتَ فأنتَ أمُّ أو أبُّ ** هذانِ فى الدنيا هما الرحماءُ».. كنت أرى عينيْ أبى وهما مترقرقتان بالدموع، وكأنه يوصينى بأن أدعو له ما بقى من عمرى، جزاء رحمته بى، وإحسانه لى.. نظرات أمى لى وهى فى لحظاتها الأخيرة، أرجعتنى إلى المعنى نفسه، وإلى الألم ذاته..نظراتها الأخيرة لا تفارقني.. وغير قادر على فهمها: هل كانت نظرة رجاء.. أم نظرة عطف ؟! نظرة اعتذار عن الرحيل الاضطرارى أم نظرة طلب المساعدة العاجزة أمام شبح الموت الجاثم؟! أمى كانت خنساء العصر الحديث ؛ فقدت أربعة من أولادها فى حياتها.. منهم ثلاثة فى آخر عامين لها.. كانت نظراتها الزائغة التائهة، وشرودها عما يدور حولها، إشارة إلى عدم قدرة الجسم على تحمل كل هذه الآلام، وأنها لم تعد تسطع معه صبراً على الرحيل..
بعد رحيل أمى، استغرقتُ فى العمل كما لم استغرق من قبل.. أدفن رأسى فى الكتب وفى كلّ عمل أقوم به، حتى لا أضبط نفسى متلبساً بالحنين إليها.. أحاول الهروب منها، ومن نظراتها الأخيرة لى.. أصبحت بعد موت أمى أكثر حباً للأمهات، وأكثر إشفاقا عليهن.. كل أمّ أراها هى أمى، رحلت أمٌّ واحدة، وبقيت أمهات كثيرات أسعى لكسب ودهن، من أجلها، ولعلَّها ترضى..
قبل موتها بشهور قليلة، أهديت لها كتابى الأخير «إليها.. امرأة ريفية، أميّة، لم تغادر بيتها فى دلتا مصر المحروسة.. لكنها علمتنى : أن أقرأ جاهداً فى كتاب الحياة، وأن أكتب مخلصاً على جدار الزمن، وأن أسافر راضياً فى أرض الله الواسعة ؛ بحثاً عن معنى أعمق لمفهوم الإنسانية»..
لم يبق لى من أمى سوى ذكرياتها المحفورة بقوة فى داخلى، وبقايا من حاجياتها التى أصبح بعضها من حاجياتى : المِسْبحة، الراديو الصغير الموجّه على إذاعة القرآن الكريم، نظَّارتها، وعصاها التى كانت تتوكأ عليها قبل أن تستسلم للكرسى المتحرك، وبقايا زجاجات عطر شرقية كانت تستخدمها قبل كل صلاة، وحجابها (طرحتها) الذى أتنسم فيه بعضاً من رائحتها قبل أن أخلد إلى نومى.. أشياء صغيرة، ولكنها قادرة على إرجاعى إلى حضنها كل مساء.. رحم الله أمهاتنا اللاتى سبقننا إلى رحابه، وأطال الله عُمْر أمهاتنا اللاتى على ظهر هذه الحياة، ومتعَّهن بالصحة والعافية، فبهن نعيش، وبهن تستقيم الحياة..
< أستاذ ورئيس قسم الإذاعة والتليفزيون -
كلية الإعلام - جامعة القاهرة