من دفتر الأحوال

ماذا عن الجنون؟!

جمال فهمى
جمال فهمى

الجنون والمجانين صارا ظاهرة قوية جدا فى عالمنا المعاصر حتى ان الجنان الرسمى اصبح يحكم مباشرة فى العديد من دول العالم، بل فى الولايات المتحدة الأمريكية التى هى أهم واخطر امبراطورية فى التاريخ (بعد ان سكن دونالد ترامب البيت الأبيض)، ونعرف ان الجنون احتل منذ القدم مساحة كبيرة فى الابداع الإنسانى عموما والإبداع الأدبى بالذات، وهنا أتذكر نصا رائعا لأعظم مبدعى الحكى فى وطننا العربى نجيب محفوظ، يحمل اسم  همس الجنون،، وهو عبارة عن مجموعة قصصية نُشرت فى العام ١٩٣٩ وهى تحمل اسم قصة منها استهلها محفوظ استهلالا غريبا (بل ربما عبقريا) إذ هو يقذف فى وجه القارئ،مباشرة ومن دون تمهيد،السؤال الآتي:
وما الجنون؟ ويجيب:
إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة والموت، تستطيع أن تعرف الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، فسر مغلق. وصاحبنا يعرف الآن أنه نزل ضيفا بعض الوقت بالخانكة، ويذكر ماضى حياته كما يذكره العقلاء.. أما تلك الفترة القصيرة ـ قصيرة كانت والحمد لله ـ فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلا حائرا لايدرى من أمرها شيئا.
.. كانت رحلة إلى عالم أثيرى عجيب، ملىء بالضباب، تتخايل لعينيه منه وجوه لاتتضح ملامحها، وتجىء أذنيه منه أحيانا ما يشبه الهمهمة وما أن يرهف السمع ليميز مواقعها حتى تفر متراجعة تاركة صمتا وحيرة.
ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم، حتى الذين عاصروا عهدها العجيب أسدلوا عليها ستارا كثيفا من الصمت والتجاهل لحكمة لا تخفى، فاندثرت دون أن يتاح لمؤرخ أمين أن يحدث بأعاجيبها. كيف حدثت ؟ومتى وقعت ؟ وكيف أدرك الناس أن هذا العقل غدا شيئا غير العقل وأن صاحبه أمسى شاذا يجب عزله؟.. هكذا يتساءل محفوظ فى حكايته، ثم تمضى القصة بعد ذلك فى عرض مشاهد من حياة الرجل تكشف كيف تحول وتحرر شيئا فشيئا من قيود العقل وحلق بعيدا فى فضاء الجنون الواسع الذى انتهى به إلى السكن الدائم فى مستشفى «الخانكة»  للأمراض العقلية.
هذا ما ابدعه نجيب محفوظ فى موضوع الجنان والمجانين، ولكن جعبة الإبداع الإنسانى خارج حدودنا غنية جدا بأعمال تتناول الجنون، ومنها فى السينما ذلك الفيلم الألمانى العظيم «عيادة الدكتور كاليجاري»، وهذا الدكتور هو الشخصية المحورية فى الفيلم المعتبر من جانب أكثر النقاد والمؤرخين لفن السينما، واحد من أجمل وأقوى منتجات هذا الفن، على الرغم من أنه أنتج وعرض منذ قرن كامل من الزمان(عام 1919) وقت أن كانت الأفلام مازالت مجرد صور صامتة لايسمع مشاهدوها شيئا مما يقوله أبطالها.
مختصر حكاية فيلم «عيادة الدكتور كاليجاري»، تبدأ بمشاهد نلاحظ من خلالها ان»العيادة»هذه ليست كذلك بالضبط، ولكنها مشفى أو بالأحرى مصحة لعلاج الأمراض العقلية والنفسية يديرها الدكتور آنف الذكر، ورويدا رويدا يفهم المشاهد أن كاليجارى حقق شهرة واسعة وشعبية كبيرة بسبب ما شاع عن قدراته الفذة فى ممارسة «لعبة»التنويم المغناطيسى للاشخاص عموما وخصوصا هؤلاء النزلاء المساكين فى مصحته، ومع تطور أحداث الفيلم نكتشف أن هذا الطبيب مجنون بالهيمنة والتسلط إلى درجة ارتكاب شرور شنيعة، فهو يستخدم لعبته الساحرة فى السيطرة على شاب مريض (يدعى سيزار) يحركه كيفما شاء ويوجهه لارتكاب جرائم بشعة تنتهى بموت المسكين سيزار منهكا متعبا.. أما الفيلم فينتهى بالقبض على كاليجارى وتخليص الناس من شروره وجنونه.