يوميات الأخبار

درس فى الهوية

علاء عبد الهادى
علاء عبد الهادى

لم يهتم أى من أبنائى بالآثار المصرية، وكرهوا "التاريخ والجغرافيا" على مدار مراحل تعليمهم، ولكنهم مؤخرا بدأوا يهتمون

البحث عن هوية، مطلب واحتياج إنسانى، وأهمية الهوية تعادل أهمية البوصلة فى صحراء جرداء، فى ليلة ظلماء غير مقمرة لتحديد أى الطرق نسلك.. جزء أساسى من أزمة الجيل الحالى أنه بلا هوية، متخبط، "شوية" يقولوا له: انت سليل الفراعين العظام، وآخرون يقولون له، لقد استخفوا أقوامهم، وأطاعوهم فحقت عليهم لعنة الله، وآخرون، بالتأكيد تعرفونهم، يقولون له: أنت مسلم، عربى، ثم مصرى، ومسلم بنجلاديش أقرب إليك من المسيحى المصرى، وآخرون قالوا له: أنت لا هذا ولا ذاك: أنت إفريقى، وكل شىء فيك يربطك بالقارة السمراء، وهناك من يتبرأ من كل هؤلاء ويقول: نحن لا هذا ولا ذاك: لسنا عرباً، ولسنا أفارقة، ولا آسويين، ولا حتى شرق أوسطيين، نحن المصريين وكفى، لنا موروث فريد، ومتفرد لا مثيل له فى كل هذه الأقاليم المتاخمة لنا.
قاعة الاحتفالات الكبرى
يوم الثلاثاء الماضى استمتعت بمحاضرة للدكتور زاهى حواس عالم الآثار المصرية الأشهر فى قاعة الاحتفالات الكبرى لجامعة القاهرة فى إطار موسمها الثقافى، حيث يحرص الفيلسوف والمفكر دكتور محمد عثمان الخشت رئيس الجامعة على أن يستعيد الدور الثقافى والفكرى والفنى الذى لعبته الجامعة العريقة على مدار عقود طويلة، وكانت مصنعا وحاضنة لكل الأفكار التنويرية، وقادت المجتمع المصرى طوال هذه العقود لذلك يسعى لانفتاح الجامعة على الحياة أخذاً وعطاء ولا يقتصر دور الجامعة على الاسلوب الكلاسيكى الذى يقصر تلقى العلم فى المدرجات.. كل هذا يأتى فى إطار مشروعه الواعد لتطوير العقل باعتباره مناط التكليف، وهو أساس التغير، إذا أردنا التغيير، وهو موضوع يطول قد أعود إليه تفصيلا فى يوميات أخرى.
مناسبة المحاضرة صدور كتاب للدكتور حواس عن الفرعون الذهبى "توت عنخ آمون" عن سلسلة "كتاب اليوم" التى أشرف برئاسة تحريرها، وجدها الخشت، مع حفظ الألقاب، فرصة ذهبية تحقق أحد مرتكزات مشروعه الفكرى، لذك تحدث وهو يقدم الدكتور زاهى أمام جمع غير من طلاب جامعة القاهرة وأعضاء هيئة تدريسها احتشدت بهم قاعة الاحتفالات الكبرى، عن وجود مشكلة فى علاقتنا بالتاريخ، بعضنا يريد أن يركن إلى ما صنعه الأجداد من حضارة، وكأنه يريد أن نبقى أسرى ما صنعه الفراعنة من حضارة، ولكن المهم أن نصنع نحن حضارة جديدة نستلهم فيها الحضارة الفرعونية، ولا نستنسخها من جديد.. وبرؤية فلسفية، وهذا ملعبه. راح الخشت يدلى بدلوه وقال إن الحضارة الفرعونية ارتكزت على: فلسفة وطب وهندسة، وما كان يمكن للفراعنة أن يتقدموا من دون رؤية فلسفية للواقع الاجتماعى وللكون من حولهم، قبلهم كان الوعى الإنسانى مرتبطا بالمادة، الإنسان مجرد مادة، أو ظاهرة من ظواهر الطبيعة، حتى الله الخالق، نظروا إليه نظرة مادية، فالله عندهم مجرد ظاهرة طبيعية، ولكنها فقط أكبر وأقوى، ومع الفراعنة حدثت النقلة من المادة إلى الروح.. هذه المرحلة الانتقالية المهمة فى تاريخ مصر القديمة والإنسانية كلها مجسدة فى تمثال أبو الهول المكون من جزءين: رأس إنسان، وجسد حيوان، الجزء الأول الذى هو العقل اللامادى يرمز إلى زينة العقل والذكاء والوعى والروح.. ويستمر الخشت فى استناراته ويقول إن الحضارة الفرعونية نصفها تحت الأرض، ونصفها الآخر فوق الأرض.
الساحر يتحدث
يمتلك د.زاهى حواس كاريزما تسحر، حتى أساتذه الآثار الذين قد يناظرونه علميا، ولكنها هبة الله، ولم تكن بداياته كطالب تنبئ بأى شىء، مجرد طالب حصل على ليسانس آثار بتقدير سيئ، ولم يفكر فى العمل فى الآثار، بل حاول أن يعمل فى الخارجية والسياحة وفشل، وذهب مكرها لاستلام عمله فى مصلحة الآثار.. كان أول يوم استلم فيه عمله فى منطقة حفائر أسود يوم فى عمره، وفى يوم ناداه أحد العمال لاستطلاع شىء، كان تمثالا صغيرا، وفى اللحظة التى راح فيها زاهى يزيح التراب عن التمثال، وتكشفت أمامه معالمه، تولدت بداخله حالة عشق للآثار، وفى تلك اللحظة تغيرت حياته، وحصل على دبلومة، وتقدم لمنحة "فولبرايت" وحصل على الماجيستير والدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هناك عاد ليصنع نجوميته من فوق هضبة الأهرامات.
> > >
خلال عام ستحتفل بمصر بإنجاز أكبر مشروع ثقافى فى القرن الحادى والعشرين، وهو مشروع المتحف المصرى الكبير الذى بدأ العمل فيه فى 2005 وخلال 3 سنوات سيحتفل العالم كله بأهم كشف أثرى فى التاريخ؛ كشف مقبرة الفرعون الذهبى على يد هوارد كارتر، أعظم أثرى فى التاريخ، وإن كان هناك دور للصبى الصغير حسين من عائلة عبد الرسول فى قيادة الفريق الذى كان يموله اللورد كرنافون للكشف، كانت مسئولية حسين إحضار المياه للعمال الذين يعملون فى التنقيب فى وادى الملوك لأربعة أعوام متعاقبة دون نتيجة، وهدد كرنافون بأن يوقف تمويله للبعثة ولكن المياه المتساقطة من زير ماء كان يزوده الصبى حسين صنعت فجوة قادت لأعظم كشف عرفته الإنسانية إلى يومنا هذا، ويومها قلد كارتر الصبى حسين قلادة فرعونية، عاش يتقلدها على صدره إلى أن مات، وورثها ابنه، وللآن تفتخر عائلة عبد الرسول بهذا الميراث والشرف.
أراد زاهى أن يهدى مصر ما يليق بأهم حدثين خلال الأعوام الثلاثة القادمة: افتتاح المتحف المصرى الكبير، ومئوية "توت" فقرر تأليف أوبرا من وحى قصة توت عنخ آمون ولكن بدون أن يستند إلى حقائق تاريخية، ولكنه الخيال المستقى من أجواء الأحداث، القصة الخيالية تعتمد على أن توت ولد فى تل العمارنة من زوجة "كانوبية" وليس من نفرتيتى التى أنجبت البنات فقط، وهذا ما جعلها فى حزن شديد لأن البنت لن تكون فرعونا، فذهبت إلى أحد الكهنة، وأوصاها بقتل توت حتى يخلو طريق العرش، وبالفعل اتفقت مع حاكم مملكة كوش فى جنوب مصر "السودان حاليا" لكى يغدر به ويقتله.
العالم الآخر
الاعتقاد فى العالم الآخر، هو سر عظمة الحضارة الفرعونية، لذلك بنى المصرى القديم المقبرة والأهرامات، ولكى يبنيهما فهو محتاج إلى هندسة وعلم وفلك، وكان هناك ما يمكن اعتباره أقدم جامعة فى أون ( عين شمس حاليا )، ولكن إبداعات المصرى القديم كان مبعثها دينيا عقائديا، لذلك كان الذى يشغل الفنان ويعطيه الأوامر هو الكاهن، وكانت قيم العدل والحق تسود هذا المجتمع الذى يستعد للبعث، وإلا ما صنعت هذه الحضارة، لأن الشعوب المقهورة لا تصنع حضارة.
الإعلام والآثار
لم يهتم أى من أبنائى بالآثار المصرية، وكرهوا "التاريخ والجغرافيا" على مدار مراحل تعليمهم، ولكنهم مؤخرا بدأوا يهتمون ويتابعون ما تنشره قناة "ناشيونال جيوجرافيك أبو ظبى" من حلقات عن حضارة مصر، يعنى المشكلة فى كيفية توصيل الرسالة، نجح الغرب فى عرض بضاعتنا وفشلنا نحن، والنتيجة الطفل فى الغرب يعرف عن الحضارة المصرية القديمة أكثر مما يعرفه خريج الجامعة المصرية، الأسباب كثيرة، ود.زاهى حواس يحمل الإعلام المسئولية فى عجزه عن توصيل الرسالة بصورة جذابه كما فى الغرب، وقال إن ديزنى تريد أن تصنع محتوى يستثمر عظمة وروعة الحضارة المصرية ويستوعبه "ويهضمه" الأطفال، لذلك ابتكروا شخصيتين: "ليتل زاهى" و"بجر زاهى" وكلاهما يستثمر شخصيته ببرنيطته الشهيرة وقميصه الأزرق «الجينس» الذى أصبح ملازما له فى كل اكتشافاته الأثرية، وتدور بين الشخصيتين حوارات حيث تكون هناك بردية ترجمها "بجر زاهى" غلط وعندما ذهب بها "ليتل زاهى" إلى المتحف هربت كل الحيوانات التى عاشت مع المصرى القديم، وقابل أنوبيس حارس الجبانة، وعندما عاد إلى "بجر زاهى" ترجم له البردية بصورة صحيحة أدت إلى عودة كل الحيوانات إلى المتحف، كل هذا بصورة شائقة تخلق حالة حب وشغف لدى الطفل يتعلم من خلالها وفى إطار من المتعة كل شىء مثلا عن علاقة المصرى القديم بالحيوانات، وحقيقة عبادته لها.
> د. عبدالله التطاوى فى ختام المحاضرة التى أعقبها توقيع زاهى لكتابه، قال هذه محاضرة غير تقليدية، ولكنها فى الحقيقة "درس فى الهوية".
إشراقة الشارقة
بمجرد انتهاء الدورة الـ 38 من معرض الشارقة الدولى للكتاب الذى يحظى برعاية خاصة من سمو حاكم الشارقة المتيم بحب مصر والمصريين الدكتور سلطان بن محمد القاسمى منذ أيام قلائل، بدأ الاستعداد لدورة العام المقبل، يتحدون أنفسهم، ولا يكاد أحمد بن ركاض العامرى رئيس هيئة الشارقة، ودينامو المعرض يترك معرضا مهما للكتاب فى العالم إلا ويزوره بحثا عن الجديد، لم تكتف هذه الإمارة بما وصلت إليه من موقع متميز فى عالم النشر والكتب حتى أصبحت عاصمة عالمية للكتاب، ولا حتى بإنشاء أول مدينة حرة للنشر فى الشرق الأوسط، ولكنهم كسروا الرقم القياسى لأكبر حفل توقيع لكتب فى يوم واحد، وفى مكان واحد وسلمت موسوعة جينس للأرقام القياسية شهادة برقم قياسى جديد شارك فيه 1502 كاتب فى حفل توقيع جماعى واحد، لمؤلفات بمختلف لغات العالم، متجاوزاً الرقم العالمى السابق الذى سُجِل فى تركيا بمشاركة 1423 كاتباً فى وقت واحد، اختتم المعرض دورته الأخيرة التى نظمتها هيئة الشارقة للكتاب، تحت شعار «افتح كتاباً تفتح أذهاناً»، استقبل خلالها 2.52 مليون زائر على امتداد 11 يوماً، وبمشاركة أعلام أدبية من حملة نوبل للأدب، والبوكر العالمية، ومخرجين سينمائيين حصدوا جائزة الأوسكار، إلى جانب مشاركة أكثر من 2000 دار نشر من 81 دولة عربية وأجنبية.. شىء جميل أن تكون الثقافة السر الحقيقى وراء إشراقة الشارقة.