يوميات الأخبار

ورق دشــت

رفعت رشاد
رفعت رشاد

إذا كانت الصحف من قبل تبيع الأخبار والمعلومات وبرامج التسلية للجمهور، الآن علينا أن نبيع الجمهور نفسه، من القراء والمشاهدين والمستمعين والمغردين والمدونين والمتصفحين، إلى المعلنين.

 تتوالى الأنباء عن صحف تغلق أبوابها ومجلات تودع قراءها. تبدو كمؤشرات عن احتضار الصحافة الورقية، أو هى إرهاصات لأن الصحافة المطبوعة مازالت تصدر فى كل الدول. وكما أن الصحف جاءتنا من الغرب فإن أخبار احتضارها أيضا تأتى من الغرب، من هناك ينتشر العلم وتأتى موجة تكنولوجية لتطوى أخرى كانت موجودة. مؤخرا أغلقت جريدة واشنطن بوست مجلتها إكسبريس التابلويد المجانية وسرحت الصحفيين العاملين بها وعددهم ٢٠ صحفيا. أصاب خبر زوال إكسبريس بالحزن كل من يهتم بالصحافة فى العالم من القراء أو العاملين بالصناعة. كانت توزع ١٣٠ ألف نسخة مجانا على ركاب المترو ومع ذلك لفظها الركاب بعدما تم توسيع نطاق الواى فاى أو خدمة الإنترنت داخل قطارات ومحطات المترو فأصبح يمكن للركاب أن يتمتعوا بقراءة ومتابعة الصحف والمواقع والتقارير والأخبار الرقمية بدون الحاجة إلى صحف. إكسبريس أنهت وجودها بعنوان رئيسى سيظل محفورا فى تاريخ الصحافة «نأمل أن تتمتعوا بتليفوناتكم المحمولة الحقيرة»، فى إشارة إلى أن زوال الصحيفة كان بسبب التليفون المحمول الذى يختصر العالم ويخص به كل فرد يحمل جهازا صغيرا.
صار العالم غرفة صغيرة بعد أن كنا نصفه بقرية صغيرة، يوما بعد يوم تتقارب المسافات وتكاد تتلاشى بين سكان الأرض. نعيش مع مؤثرات الإنترنت وصحافة المحمول. صحفنا المصرية مهددة ولم تعد هناك صحيفة واحدة تربح، بل إن الدولة دعمت الصحف القومية التى تملكها بمبالغ طائلة خلال سنوات قليلة مضت، ولم تعد المشكلة فى توفير الدعم فحسب، بل وصلت إلى مرحلة الأزمة بعدما تدهور المضمون الذى تنشره الصحف للدرجة التى يشكو منها رئيس الجمهورية باعتبار أن الصحف لا تقدر على التعبير عن حال الدولة بشكل مرض.
محنة الصحافة
تعرضت الصحف المصرية خلال السنوات التسع الماضية لهزات عنيفة وجاءتها ضربات من جوانب متعددة ليصل بها الحال إلى ما وصلت إليه. فبعد يناير ٢٠١١ لم يكن هناك بوصلة تسير عليها الصحف وتم اختيار قيادات للصحف حسبما رأى القائمون على الأمر وكانوا خليطا من كل الأطياف فاختار كل منهم مواليه ليأتى الإخوان ويقيلوا هؤلاء ليأتوا بمواليهم ولم يسكت الناصريون فجاءوا بمجلس أعلى للصحافة جاء بأنصارهم ولما استقرت الأمور قليلا جاء الحاليون، وهكذا خضعت الصحافة المصرية للكشف والعلاج من أطباء من مدارس وتخصصات مختلفة وأدى ذلك إلى استمرار علتها فيما عدا قلة منها يدرك القائمون عليها رسالتهم من خلال خبرتهم وحرصهم على مصلحة الدولة.
وصل الحال أن صارت الدولة تدعم الصحف بمبالغ كبيرة لتوفير المرتبات رغم أن الاتجاه فى الدولة إلى رفع الدعم، لكن حرص الدول على الصحافة هو ما يجعلها تدعم هذه المهنة والصناعة التى يعمل بها عشرات الآلاف فى مجالاتها المختلفة. هذا الدعم لن يستمر إذا لم تكن هناك مؤشرات على تحسن أحوال الصحافة، فالدولة لن تستنزف أموالها فى قربة مقطوعة ولابد من الإصلاح، فالإعلان عن التغييرات الصحفية فى الصحف القومية والترقب الحادث فى مهنة وصناعة الصحافة يؤدى إلى سكون حركة القيادات الموجودة انتظارا لما سيتم ويفضل كل منهم عدم اتخاذ قرارات أو إجراءات ويفضل تسيير الأعمال، وفى نفس الوقت يصاب الطامحون فى تولى المسئولية بالإحباط وربما ينعكس ذلك على أدائهم فيما بعد. وقد يعتقد البعض أن كل «تأخيرة فيها خيرة» كما يقول المثل الشعبى، لكن هناك قولا آخر عكس هذا المثل «إن تنفيذ خطة عمل جيدة الآن، أفضل من تنفيذ خطة مثالية فى الأسبوع القادم».
 إذا كانت الصحافة الورقية تتراجع فإن إصلاح الأحوال ليس مستحيلا مع الأخذ فى الاعتبار أن مقاومة التقدم العلمى لن تأتى بنتائج إيجابية، كما أن الفرد فى أى مكان يبحث عن راحته التى يجدها فى تليفونه المحمول الذى صار توأمه اللصيق ولا يستغنى عنه فهو معه فى سريره وفى الحمام وأقرب إليه من زوجته وأولاده. لقد غير المحمول فى سنوات قليلة شكل العالم وصيغ العلاقات بين الأفراد وقضى على العديد من وسائل التكنولوجيا الحديثة وقصف عمرها فلم تستمر سوى سنوات قليلة. قضى المحمول على التليفون الأرضى وعلى الكاسيت وعلى الفيديو وربما يقضى على الكتب والسينما والتليفزيون وهو بذلك يغير من حياتنا تماما فلن نجد يوما ما دورا للسينما أو نحمل جهاز كاسيت ولن نضطر لحمل الكتب، وهكذا تتغير أنماط حياتنا وهناك ما لا نعرفه مما سيأتينا غدا فيعمق هذه التغييرات.
أسباب أزمتنا
إن اختفاء مجلة إكسبريس جاء لأسباب تكنولوجية فى عالم الاتصال لكن أزمة الصحافة المصرية لها أسبابها المتعددة، فصحافتنا تفتقد المضمون التحريرى الجذاب الذى يشبع رغبات القارئ ويدفعه لشراء الصحيفة، وبعد أن تراجع توزيعها، تراجعت مساحات الإعلانات فيها، فالمعلن يرغب فى الانتشار فى أوسع مساحة مؤثرة ممكنة، وتعد الإعلانات بمثابة العمود الفقرى الذى تقوم عليه الصحف وبضعفه تنهار الصحف خاصة أن الجهات الحكومية التى كانت تعد المصدر الأول والأكبر للإعلان فى الصحف صارت تحجم عن نشر الإعلانات فيما عدا ما ينص عليه القانون وذلك توفيرا للنفقات.
تعانى الصحف القومية من التخلف الإدارى وترهل العمالة وإهمال أساليب التسويق الحديثة وعدم تطوير قدراتها على جذب العملاء فنجدها ترنحت بعد إحجام وزارة التعليم عن إسناد طباعة الكتب إليها. كما أن هناك عوامل أخرى تسببت فى الأزمة ومنها ارتفاع سعر الطاقة وسعر الورق المستورد خاصة بعد تعويم الجنيه وافتقاد التخطيط وتدريب القيادات والكوادر.
ليست نهاية العالم
وجود أزمة لا يعنى نهاية العالم، لكن علينا التفكير فى الحلول وتطبيقها بجرأة حتى يمكن الخروج من هذا النفق المظلم. فى الأساس لابد من تحديد رؤية ورسالة كل مؤسسة حتى يمكن للعاملين بها إدراك أدوارهم والمهام المطلوبة منهم، واتباع أساليب منهجية فى اختيار قيادات الصحف ووضع خطط استراتيجية لإقالة المؤسسات من عثرتها وبناء صورة حقيقية لكل مؤسسة بشأن وضعها المالى وقيمة أصولها الرأسمالية وتحديد كيفية الاستفادة من إمكانياتها ودراسة البيئة الداخلية والخارجية لتحديد نقاط القوة والضعف والفرص المتاحة وعناصر التهديد فى كل مؤسسة. مع وقف التعيينات وإعادة الهيكلة والاستفادة من الأصول الرأسمالية للمؤسسات لسداد ديونها المستحقة للدولة وإقامة مشروعات مشتركة لتحقيق فوائد لكل الأطراف واستبعاد القيادات التى تفشل فى تحقيق وتنفيذ الخطط الموضوعة. ضرورة تطوير أساليب التوزيع والإعلان وتفعيل الرقابة على أداء مجالس الإدارات والمديرين.
من أجل المستقبل
تقويم الإدارة فى الصحف القومية خطوة أولى وعلينا السير فى اتجاه مسايرة المستقبل والتطور العلمى فى مجال الاتصال والإعلام الجديد. وإذا كانت مكانة الصحف الورقية فى تراجع فإن صناعة الأخبار ونشرها وبثها لن تنتهى، وإذا كانت الصحافة الإلكترونية تنمو وتشغل كل يوم مساحات أكبر وكذلك تنتشر تطبيقات المحمول، فهناك ضرورة لتحويل المؤسسات الصحفية إلى كيانات إعلامية أكبر تتعامل فى كل أنشطة ومجالات الصحافة والإعلام، تنشر التحليلات والموضوعات والتقارير فى الصحف الورقية وتبث الفيديوهات فى نسختها الإلكترونية وتنبض بالأخبار فى تطبيقاتها على المحمول وتفتح أرشيفها وذاكرتها المطبوعة للتسويق وتقديم الخدمات الإعلامية للجهات المختلفة والتعامل مع كل الأذواق والأعمار. يتطلب ذلك إزاحة إرث الماضى فمن يتمسك بالماضى غير قادر على صنع المستقبل والتخلص من كل ما لا يضيف قيمة إلى الصناعة ويجب اختيار رجال الإدارة ممن يملكون خبرة مهنية وثقافة مجتمعية واسعة ومواهب ابتكارية، فإذا كان مقياس نجاح الإدارة سابقا تحقيق مؤشرات مالية عالية فإن إدارة المستقبل سيكون مؤشرها القدرة على الابتكار والتغيير المستمر لمواكبة فورة التكنولوجيا مع تحويل الإدارة من أسلوب الأوامر السلطوية إلى منهج تفعيل المشاركة فى التطوير واتباع أساليب الإدارة الإلكترونية، الإدارة بلا أوراق وبلا حدود زمنية، إدارة لا يحدها خطوط الطول والعرض، إدارة بلا مساحات كبيرة من المبانى وحتى الاجتماعات يمكن عقدها إلكترونيا بدون انتقال الأشخاص بأجسادهم وبدون التعطل بسبب غياب أحدهم.
وجود نظرة استشرافية على المستقبل أمر مهم وتعامل المديرين بهذه الصورة يمنحهم القدرة على التنبؤ بالمشكلات والتعامل معها قبل حدوثها وعلينا أن نهتم بالسوق العربية لتوزيع صحفنا ومنتجاتنا الإعلامية فالصحف جزء لا يتجزأ من عملية صناعة الثقافة التى تشكل وجدان المجتمع وتقود الرأى العام وإذا كانت الصحف من قبل تبيع الأخبار والمعلومات وبرامج التسلية للجمهور، الآن علينا أن نبيع الجمهور نفسه، من القراء والمشاهدين والمستمعين والمغردين والمدونين والمتصفحين، إلى المعلنين وهو ما يحقق الربح ويعظم القيمة.
لو استسلمنا لمقولة انهيار الصحف الورقية لتسببنا فى موت مهنة عريقة نحن روادها فى الوطن العربى والشرق الأوسط وتسببنا فى إنهاء صناعة تخاطب المستقبل ويعمل بها عشرات الآلاف وأسرهم، أعتقد أننا لا نريد أن تتحول الجريدة النابضة بالحياة إلى مجرد ورق دشت.