حكايات| رحلة البحث عن ضريح الرسول في مصر (2) .. المساجد المُعلقة

القبة الضريحية لمقام مسجد محمد الأنور
القبة الضريحية لمقام مسجد محمد الأنور

أخبار الأدب: عبدالمجيد عبدالعزيز

خاضت صحيفة «أخبار الأدب» رحلة مثيرة للبحث في أصول مسجد «محمد الأنور»، الذي كان من المفترض أن يستقبل جثمان الرسول ﷺ، وتنقلت بين الروايات التاريخية المختلفة حول حامل اسم المسجد الذي يعد واحدا من الآثار المحيرة والغامضة، فصاحب المشهد لا نكاد نعثر له على ترجمة أو سيرة، فلم تذكره كتب الأنساب واحتارت فيه موسوعات المساجد والأضرحة.
 

لقراءة الجزء الأول من الحكاية:  رحلة البحث عن ضريح الرسول في مصر (1(

 

أثر فاطمي عمره ألف عام
يقول الدكتور عاصم رزق في كتابه الموسوعي "أطلس العمارة الإسلامية والقبطية بالقاهرة"، إنه لم يعثر على ترجمة وسيرة لمحمد الأنور في كل المصادر والمراجع التي استطاع الاطلاع عليها خلال إعداده لتلك الموسوعة، وهو ما يبرر عدم إحاطة القائمين على المسجد حاليا بأي معلومات واضحة عن "محمد الأنور"، ويبرر سبب عدم إقامة مَولد مستقل له حيث لا يعرف أحد لا تاريخ مولده ولا وفاته.


وبالرغم من ذلك، يمكن إجمال الآراء حول شخص المدفون في قبة محمد الأنور إلى 4 آراء، الأول قول علي مبارك في "الخطط التوفيقية" نقلا عن السخاوي في كتابه "تحفة الأحباب وبغية الطلاب"، من أن البعض يزعم أن محمد الأنور هو نجل زين العابدين بن الحسين بن علي، حيث يرجح علي مبارك عدم صحة هذا القول بدليل أن علماء الأنساب لم يذكروا أن زين العابدين كان له ولد يدعى محمد الأنور أو محمد الأصغر من الأساس، مستشهدا بقول العبيدلي النسابة أن مشهد محمد الأنور "من مشاهد الرؤيا".


والرأي الثاني هو الرأي الأكثر شيوعا والذي تعتمده وزارة الأوقاف المصرية طبقا للوحة النسب الشريف المعلقة داخل المسجد، وهو أن محمد الأنور ابن زيد الأبلج بن الحسن بن علي، أي أنه عم السيدة نفيسة صاحبة المشهد الشهير بالقاهرة.


بينما يرى حسن قاسم في كتابه "المزارات الإسلامية" رأيا ثالثا، وهو أن "محمد الأنور" هو ابن زيد شقيق السيدة نفيسة وليس عمها -وعلى الرغم من تبني حسن قاسم لهذا الرأي إلا أنه ذكر مسجد محمد الأنور ضمن مشاهد الرؤية في كتابه!.


أما الرأي الرابع، فهو رأي ينتشر على بعض المواقع غير الموثوقة على الإنترنت، ويبدو أن صاحبه أراد التوفيق ين الرأيين السابقين، فزعم أن المدفون أسفل قبة مسجد محمد الأنور هما شخصان، عم السيدة نفيسة وابن شقيقها معا!


وعن المقصود بمشاهد الرؤيا، تقول الدكتورة سعاد ماهر في موسوعة "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون"، أنه ظهر في العصور الوسطى ما يعرف باسم أضرحة الرؤيا "فإذا رأى ولي من أولياء الله الصالحين في منامه رؤيا مؤداها أن يقيم مسجدا أو ضريحا لأحد من أهل البيت أو الولي المسمى في الرؤيا، فكان عليه أن يقيم الضريح أو المسجد باسمه"، ومع مرور الزمن ينسى الناس أن الضريح مجرد مشهد رؤيا فارغ ويأخذون في تقديس المكان معتقدين أن الضريح به أحد الأشراف أو الأولياء بالفعل.

 

اقرأ حكاية أخرى:  بأي لغة كلم الله نبيه موسى؟.. ليست «العربية»

 

ويظهر من كلام المؤرخين أن المسجد كان يطلق عليه اسم "محمد الأصغر" في بداياته، ثم شاع إطلاق اسم "محمد الأنور" عنه في مراحل متأخرة.


كل ذلك يزيد من الشكوك حول شخص المدفون في القبة المنسوبة لمحمد الأنور، بل ويزيد الشكوك في وجود شخص بهذا الاسم قد عاش يوما.


أما عن بناء المسجد نفسه، فيشير كل من السخاوي وعلي مبارك أن أول من بنى مشهد محمد الأنور، هو الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، حيث كان ذلك البناء ضمن ثلاث مساجد أخرى عرفت باسم "المساجد الحاكمية المعلقة".


ويقول السخاوي إن الحاكم أمر ببناء هذه المساجد المعلقة في رمضان سنة 402هـ بالقرب من مسجد أحمد بن طولون، بعدما أخبر أن في هذا الموضع قبور جماعة من الأشراف، أي أن عمر المسجد يزيد على ألف عام.


ويضيف علي مبارك أن من بين هذه المساجد الثلاثة، مسجد "محمد الأصغر"، والمسجد المعروف عند العامة بمسجد عبدالرحمن الطولوني، بينما المسجد الثالث اختفى مع مرور الزمن، مرجحا أنه كان يقع بالقرب من المسجدين الأولين ثم زال.


ويشير السخاوي إلى أن المسجد شهد عمليات ترميم عدة في عهد دولة المماليك بقسميها دون أن يفصّل أو يوضح أشخاص القائمين على تلك الترميمات، أما عاصم رزق فيبين أن المسجد تم تجديده في سنة (1195هـ/1780م) طبقا للكتابة التاريخية التي لازالت منقوشة على باب المسجد الملحقة به القبة، في عهد الوالي العثماني محمد باشا سلك -وفي بعض المصادر محمد باشا ملك- الذي كان يتولى حكم مصر من قبل الدولة العثمانية، وقبل هذا التاريخ بسنوات قليلة قام الأمير عبدالرحمن كتخدا بتجديد باب المسجد كما يقول حسن قاسم في "المزارات الإسلامية" ضمن أعماله لترميم عدد من المشاهد بشارع الأشراف.


وفي لوحة وضعت على مدخل المسجد، نكتشف أن القبة والمسجد تم تجديدهما مرة أخرى عام 1387هـ/1967م بجهود ذاتية لأحد الموسرين من سكان المنطقة ويدعى "الحاج محمد النبيعي"، ويبدو أن هذا التجديد لم يكن على الوجه الأمثل، حيث أغلق المسجد بعدها بسنوات بسبب تدهور حالة مبانيه، قبل أن يتدخل أهالي المنطقة مجددا ويقدمون مساهمات مالية للجهات المسؤولة لتسريع عملية إصلاحه وفتحه للصلاة والزيارة، وهو ما تم لاحقا بالفعل.

ويؤكد عاصم رزق، أن المسجد الملحق بالقبة هو مسجد حديث، حيث لم يتبق من العمارة الأثرية للزاوية التي كانت ملحقة بالقبة شيئا يذكر بعدما أقيم المسجد بدلا منها، فيما يعتقد أن القبة الضريحية تعود للعصر الفاطمي ولكن أدخل عليها الكثير من الترميمات، وأسفل هذه القبة يقع مدفن تعلوه تركيبة خشبية غير محددة التاريخ، بينما لم يعد هناك أي أثر للمنارة "المئذنة" القصيرة التي ذكرها علي مبارك عند الحديث عن المسجد.


وعلى هذا، يصبح مسجد محمد الأصغر مجرد مشهد رؤيا، منسوب لشخصية لم يعرف التاريخ عنها شيئا ويشكك في وجودها النسّابون والمؤرخون، ولولا حب أهالي المنطقة وتعلقهم بهذا المسجد وبشخص محمد الأصغر الذي لا يعرفون عنه شيئا لزال هذا المسجد منذ سنوات ولم يعد له أثر.


كان يمكن للقصة أن تنتهي عند هذه النقطة، لولا إشارة عابرة، فتحت أمامنا بابا للبحث، قد يغير من كل التاريخ المذكور أعلاه عن مشهد محمد الأصغر وصاحبه وغرض بنائه، تلك الإشارة هي "المساجد الحاكمية المعلقة" التي قيل أن الحاكم بأمر الله بناها فوق قبور جماعة من الأشراف.


وهنا بادرني سؤال جعلني أبدأ رحلة بحث جديدة غير متوقعة، وهو: هل المساجد الحاكمية المعلقة، هي ذاتها المشاهد الثلاثة التي بناها الحاكم بأمر الله على أمل أن ينقل إليها جثامين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما من المدينة المنورة إلى القاهرة؟

 

اقرأ حكاية أخرى| مفاجآت الكعبة.. حجارتها من 5 جبال وامرأة شاركت ببنائها لأول مرة 

 

أغرب شطحات الحاكم
اشتهر الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي بأوامره الغريبة وأفعاله المثيرة للجدل، حتى أن المقريزي لم يجد وصفا يمكن إطلاقه على فترة خلافة الحاكم سوى قوله إن "أفعاله لا تعلل، وأحلام وساوسه لا تؤول"، ليعبر عن عدد لا يصحى من الوقائع الغريبة والشاذة التي حفل بها حكم هذا الخليفة الذي حير المؤرخين.


إلا أن محاولة الحاكم نقل جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبو بكر الصديق وعمر الخطاب رضي الله عنهما، لدفنهم في أرض مصر، تظل هي الأغرب في تاريخ هذا الخليفة الذي ملأ الدنيا ضجيجا وصخبا.


يقول الدكتور أيمن فؤاد سيد في كتابه (الدولة الفاطمية في مصر.. تفسير جديد) إن المصادر الفاطمية والدراسات القائمة عليها لم تشر بأي حال إلى محاولة نقل الحاكم لجثامين النبي وصاحبيه من المدينة إلى مصر، وكان أول من تطرق للحديث عن هذه المحاولة وكشف تفاصيلها، هو الجغرافي الأندلسي أبو عبيد البكري، في كتابه الشهير "المسالك والممالك"، وذلك في معرض حديثه عن جغرافيا مصر.


ويقول البكري في كتابه عن هذه الواقعة، وهو النص الذي سنعتمده أساسا في البحث عن المشاهد الثلاثة: "وبين الفسطاط ومدينة القاهرة نحو ميلين في خراب كانت مساكن لكتامة وغيرها، وهناك اليوم ثلاثة مشاهد على الطريق من الفسطاط إلى القاهرة بناها الحاكم ولها السدنة والخدمة، وتوقد فيها السرج الكثيرة الليل كله. وزعموا أنه كان أراد نقل جثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجثة أبي بكر وجثة عمر رضي الله عنهما إليها".

صورة توضح مساحة المسجد في شارع الخليفة

ويكشف الجغرافي الأندلسي، أن الحاكم أغدق الأموال على بعض رجاله لتنفيذ هذه المهمة، فتوجهوا إلى المدينة واستأجروا عددا من الدور القريبة من المسجد النبوي، وبدأوا في حفر خندق طويل باتجاه الغرفة النبوية الشريفة، على أمل الوصول إلى الجثامين ونقلها سرا إلى القاهرة، وبينما كان رجال الحاكم على وشك النيل من جسد الرسول، اكتشف أهل المدينة هذه الجريمة فألقوا القبض على رجال الحاكم وقتلوهم ومثلوا بجثامينهم، ثم ردموا تلك الحفرة وصبوا عليها الرصاص.


ويظهر من كلام البكري، أن المشاهد كانت موجودة وقت إعداده لكتابه "المسالك والممالك"، والذي يعتقد أنه كتبه عام 460هـ/ 1058م، اعتمادا على الكثير من الملاحظات التي وردت فيه، أي بعد قرابة 40 عاما على واقعة اختفاء الحاكم بأمر الله في عام 420هـ، كما يظهر من كلامه أن المشاهد ظلت مضاءة ويتم مراعاتها طوال تلك الفترة.


وبعد نحو 400 عام على وفاة البكري، جاء المؤرخ ابن فهد المكي برواية شبيهة -ولكنها ليست متطابقة- في كتابه "إتحاف الورى بأخبار أم القرى"، أكد فيها سعي الحاكم لنقل الجثمان الشريف.


يقول المكي في كتابه عن هذه الواقعة: "سنة تسعين وثلاثمائة.. فيها أشار بعض الزنادقة على الحاكم العبيدي صاحب مصر بنبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه وحملهم إلى مصر، وزين له ذلك وقال: متى تم هذا الأمر يشد الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر، وكانت منقبة يعود جمالها على مصر وساكنيها. فدخل ذلك عقل الحاكم، فأرسل إلى أبي الفتوح أمير مكة يأمره بذلك".


ويتابع بأن أبو الفتوح توجه في عدد من رجاله إلى مسجد الرسول، وفور وصوله، حضر إليه جماعة من أهل المدينة، بعدما بلغهم السبب الذي جاء من أجله والجريمة التي يوشك أن يقدم عليها، ولم يشأ أهل المدينة أن يجادلوا أبو الفتوح في أمر هو من المسلمات، بل أحضروا قارئا للقرآن وطلبوا منه أن يقرأ الآيات من 12 إلى 14 من سورة التوبة، وعندما انتهى من التلاوة اضطربوا وكادوا يقتلون أبو الفتوح ورجاله، فتراجع الرجل قائلا "الله أحق أن يخشى" رافضا أن ينفذ أمر الحاكم بإخراج جثمان الرسول، وفي تلك الليلة شهدت الجزيرة العربية رياحا شديدة ربما لم تشهد مثلها من قبل، ويختتم المكي روايته بالقول إن هذه الرياح شاع ذكرها في الآفاق، وبالتالي أصبحت حجة لأبو الفتوح أمام الحاكم يبرر بها امتناعه عن نبش القبور الكريمة ورفضه الامتثال لأوامر الخليفة.


ويظهر من الروايتين السابقتين -رواية البكري ورواية المكي- أنهما تتحدان في الهدف وتختلفان في التفاصيل، ما يرجح أن الحاكم حاول مرتين نبش قبر النبي ونقل جثمانه، وليس مرة واحدة، كانت أولاهما هي ما ذكرها المكي والتي أرسل فيها الحاكم أبو الفتوح لنقل الجثمان جهارا نهارا أمام أهل المدينة، ولكن عندما عجز عن فعل ذلك، حاول مرة ثانية مستخدما الحيلة لنقل الجثمان سرا، وهي المحاولة التي ذكرها البكري عندما حاول رجال الحاكم حفر خندق باتجاه الحجرة النبوية الشريفة قبل أن يفتضح أمرهم.


ويظهر من كلام المكي أن المحاولة الأولى تمت سنة 390 للهجرة أي في نهاية القرن الرابع، أما المحاولة الثانية فيرجح أيمن فؤاد سيد أن تكون قد وقعت في بدايات القرن الخامس، أي بعد الواقعة الأولى بقرابة عشر سنوات أو يزيد.

 

اقرأ حكاية أخرى|  أحله لثلاثة أيام.. قصة «نبيذ» أحبه النبي

 

ويشير أيمن فؤاد سيد إلى أن الحاكم كان يهدف من وراء هذا المشروع برمته إلى تحوير الجغرافيا الروحية والدينية للعالم الإسلامي، عن طريق حرمان المدينة من أكثر رموزها تقديسا بتحويل قوافل الحجاج إلى العاصمة الفاطمية، ويرجح أن يكون الشخص الذي أشار على الحاكم بهذه الجريمة، هو "ياروختكين العضدي" متولي حرب الرملة.


أما عن الموضع الذي اختاره الحاكم لبناء هذه المشاهد الثلاثة، فلم يتحدث عنه سوى البكري في مقدمة روايته عن الواقعة، واكتفى بالقول أنها كانت "على الطريق من الفسطاط إلى القاهرة"، أي أنها كانت على طريق رئيسي يربط بين مدينتي الفسطاط في الجنوب والقاهرة الفاطمية في الشمال، فيما لم يهتم كثير من المؤرخين بالحديث عن موضع هذه المشاهد بالتحديد، ربما لانتفاء الغرض الذي أنشئت من أجله، أما الدكتور أيمن فؤاد سيد في كتابه "القاهرة.. خططها وتطورها العمراني"، فقد أكد أن المشاهد الثلاثة شيدت بالقرب من جامع أحمد بن طولون.

خريطة تظهر الطريق الذي يربط بين القاهرة والفسطاط