يوميات الأخبار

أسرار على شاطئ ترعتنا

د. مبروك عطية
د. مبروك عطية

تفشت ظاهرة خطيرة وهى دخول العاطلين بيوت الناس للزواج، وأنا كم سألت البنت أو أهلها: ماذا يعمل الخاطب الذى دخل بيتكم كى يتزوج ابنتكم؟ فيكون الجواب ربنا يسهل.

الاربعاء:
قبل الغروب كل يوم وعلى شاطئ قريتنا قبل أن يغور ماؤها وتتحول بقدرة عاجز من البشر، وللعاجزين قدرة على التخريب أشد من قدرة القادرين على البناء، ألا ترى البناء يكون فى سنين والتخريب يكون فى لحظات! قبل الغروب هنالك أسرار لم تبح بها ترعتنا القديمة التى كان يزورها الدور كل خمسة عشر يوما فتزدهر كعروس الحسن إذ جليت، وينقطع عنها ليجرى فى حوض مجاور لها فلا يبقى من مائها إلا طلل لم يعرفه أحد غيري، فجميع الناس يعرفون طلل المبانى، وقد عشت عمرى باحثا فى طلل المعانى.
ولأطلال المعانى إطلالات كلما برزت أحيت ميتا، وساقت ربيعا فى زمن الخريف، وساقت ذلك كله فى ثوب من الأحزان لا يراه أحد إلا من توقف عند هذه الأطلال، وسقاها من ماء عمره قطرات تجمدت استعطافا وترحما حتى عطفت عليه أطلال المعانى بتلك الاطلالة، وقلما تجد مثل هذا الجهد عند أحد إلا إذا كان مولعا باستدعاء بعض التفاصيل التى ينهل منها وجدانه الذى يعيش عليها، إذ بعدها لا حياة ولا وجدان فى صدر ميت، رضى بالحياة جمودا يظنه حركة، وسكونا يظنه هدوءا، ووهما يحسبه حقا، نعم هنالك الكثير من البوح الذى ظل سرا بين المتناجين فى قصة من ماضيهم، وفى موقف من مواقف حاضرهم، ومن حديث لا يخلو من حكمة، ولا يفرغ من درس عظيم، عزف عن تناوله جيل من بعد جيل حتى صار خبرا مهجوراً، ولغة منسية، وعاطفة كأنها طيف من الأساطير، وها أنا وهأنذا بائح بشىء من تلك الأسرار راجيا أن نشم جميعا عبيرها، فتتوغل فينا ربما كما توغلت فى أصحابها، أو أن نستمتع بقراءتها، وقد يهدى إلينا ذلك الاستمتاع دربا من دروبها، فنسلكه طائعين.
أبى أن يزوجه ابنته
الخميس:
ومن أسرار البوح على شاطئ قريتنا القديمة أن فلاحاً جلس إلى جوار جاره فى الحقل وزميله فى الفلاحة وقال له: يا أخى الولد شقى وسافر وعاد وبنى بيتا يفوق بيت عمدة قريتنا، وعنده من المواشى الكثير ومن الخبرات الكثير فكيف ترفض نسبه؟ ولا تزوجه؟ «اسم النبى حارسها».
فرد عليه قائلا: الواد عاق لوالديه، يا أبو «بسلامته»، ومهما بنى فلن يدوم بناؤه ومهما حصل من خير فلن يدوم بقاؤه، فكيف أزوجه ابنتى وأدفع بها إلى الهاوية؟
ثم قال له هذه العبارة التى لم تزل باقية إلى يومنا هذا «اللى ملهوش خير فى أبيه وأمه ملهوش خير فى حد تانى».
وأنا أسوق هذا السر من زاويتين: الأولى: أن عاق والديه مبشر بالخراب فى الدنيا والآخرة، والثانية: أن أسترجع سيرة أناس كانوا فقهاء بغير تفرغ لدراسة الفقه، وأن المخاطبين كانوا مريحين غير مجادلين، فإن زميله الذى استمع إلى علته فى عدم تزويج العاق ابنته لم يزد على قوله فى الإجابة والرد عليه عن «صدقت».
حماها الحرامى فاستقامت
الجمعة:
اشتهر فى قريتنا رجل بسرقة الزروع وإغراقها وسرقة المواشى أو سمها، كان علما فى ذلك بلا منازع، ولم تتجه تهمة فى تلك الجرائم إلا إليه، وفى عام من أعوام الرمادة فى قريتنا استدعاه رجل حكيم، وعينه حارسا على زرعته، واتفق معه على نصيبه من المحصول يوم الحصاد، فلما سألته: لم فعلت ذلك؟ قال: فعلته لأنه سيحرسها بحق، وما سوف يحصل عليه من جراء حراستها أقل بكثير من الذى كان سيسرقه إن لم يدمر الزرعة كلها.
وصدق فيه المثل «حاميها حراميها» لكن على الوجه الذى لم يعرفه الناس، فالناس يعرفون هذا المثل على أن الحرامى إذا حمى الضيعة سوف يبددها ويسرقها، وهذا الرجل الحكيم فهم أن الحرامى سوف يحمى، وقد كان.
لقد كان هذا الرجل بلا حرفة ولا صنعة، ولا يرحب أحد به ولا يدعوه إلى مجالسته لشرب كوب من الشاى إلا إذا فرض هو نفسه على المجلس فشرب رغم أنف الجميع، لأن الشومة لا تغادر ساعده، وقرن الغزال لم يعرفه الناس إلا فى جيبه، وقد احتاج إلى قرن الغزال رجل ذات يوم فلم يجده مع أحد، ومر هذا الرجل فحمد الله وكبر وهلل وقال له: أدركنا بمطواتك، فأدركه وقضى حاجته وشكره، فانظر كيف كان الناس مطمئنين إلى وجود السلاح مع هذا الحرامى.
وأذكر أن الناس قد قلدوا هذا الرجل عاما من بعد عام لما رأوا خيرا فى هذا الذى اقترحه، وأصبح اللص مدير أمن الحقول، وهذا يجعلنا نستثمر حكمة ديننا الذى جعل البطالة نجسة ودع أمير المومنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أحد ولاته وعلى مفرق الطريق سأله: «ماذا تفعل لو جاءك الناس بسارق؟» فأجاب الوالى: «أقطع يده» فقال عمر رضى الله عنه: «وإذا جاءنى أحدهم جائعا أو عريانا أقطع أنا يدك»، ثم استدرك قائلا: «يا هذا إن الله خلق هذه الأيدى لتعمل فإن لم تجد فى الطاعة عملا وجدت فى المعاصى أعمالا».
وهذا كلام واضح فى تثقيف الحكام وتنبيه الأمراء إلى المسئولية الكبرى المنوطة بهم فى علاج البطالة، لأن الذى لا يجد عملا فى الحلال المشروع وجد فى الحرام الممنوع أعمالا كثيرة، الأمر الذى تكون نتيجته شرا ووبالا على الجميع، فأخو البطالة مستعد للتجنيد لدى الفئة الباغية التى ترى المجتمع كافرا وقتل الأبرياء مشروعا، فهم يجندونه فى الوقت الذى يشاءون لأنه جاهز فى كل وقت، فلن ينتظروه حتى يعود من عمله لأنه لا عمل له. وأنا أرى فى ظل هذا الحديث الشريف «من بات كالا من عمل يده بات مغفورا له» أن العامل يعود من عمله لينام فلا وقت عنده كى يؤجره أحد فى سرقة أو قتل أو حضور مجلس لأمير نصب نفسه أميرا وسأل العاطلين السمع والطاعة له دون غيره.
وقد تفشت ظاهرة خطيرة لم يلتفت إليها كثير من الذين يجب عليهم أن يتلفتوا، وهى دخول العاطلين بيوت الناس للزواج، وأنا كم سألت البنت أو أهلها: ماذا يعمل الخاطب الذى دخل بيتكم كى يتزوج ابنتكم؟ فيكون الجواب ربنا يسهل.
فأسأل: هل عنده من شقة فيكون الجواب ربنا يسهل.
أى رب هذا الذى لا أعرفه فإن الرب الذى أعرفه قال: «وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله»، أى أن العاجز عن الزواج ينبغى أن يبتعد عنه حتى يجمع عملا وبيتا، لكن أن يدخل عاطل ليلعب ويأكل ويشرب ويحضن ويقبل حتى يسهل الرب، فذلك فساد كبير.
الرب الذى يعرفه كثير من الناس فى هذا الزمان غير الرب الذى عرفنا به محمد صلى الله عليه وسلم، فالرب الذى يعرفه كثير من الناس يسهل للعاطلين ويرزق النائمين ويكرم المتواكلين، والرب الذى عرفنا به محمد صلى الله عليه وسلم هو الرب الذى يوفق العاملين ويكرم الساعين ويرزق المتوكلين.
ولذلك عندما أمرنا أن نسأله قال: «اهدنا الصراط المستقيم» أى صراط العاملين لا الباطلين والمتزوجين عن قدرة لا عن ضعف والفاهمين لدينهم فلا أحد يجندهم فى حربه ولا أحد يتضرر بسببهم ومازال محفورا أمام أعيننا «لا ضرر ولا ضرار» ويجب أن يكون محفورا فى ضمائرنا وليس فقط مرسوما أمام أعيننا فكل رسم بدا مصيره إلى الزوال، وكل معنى فى النفوس استقر مصيره إلى الخلود والبقاء.
وما أيسر أن نقر المعانى فى النفوس بخطاب دينى رشيد لا يعرف السطحية ولا يجارى الجاهلين الذين عبثوا بعظيم معانى الدين فحولوه إلى دعاء يستجاب بلا عمل وإلى حسن ظن بالله ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب لأننا لو أحسنا الظن بالله لسلكنا كل الدروب وارتقينا كل سلم وما غمضت لنا عين حتى نحقق ما نريد.
وهذه قصيدتى بمناسبة المولد النبى الشريف
السبت:
يا مولد الهادى البشير سلام
من نوره تتجدد الأيام
 كل المحامد من عظيم صفاته
خلق تروم لمثله الأيتام
فالله أدبه فأسس منهجا
من متنه تتفتق الأحلام
يا خير خلق الله أنت محمد
فى العالمين وكلهم أرحام
صلى عليك الله والملأ الذى
ملأ السماء ونورهم بسام
والمؤمنون صلاتهم محيا لهم
من مثل أحمد للقلوب زمام
يا أيها القلب الذى من نبضه
نبت الندى واخضرت الآكام
اللين أنت وأنت رحمة ربنا
لولاك ما غشى الوجود سلام
يا خير من شكر الإله قيامه
ولمثله تتورم الأقدام
ترقى بليل الحب عبدا ساجدا
 وجميع من عبد الإله نيام
والجود أنت إذا رفعت لواءه
من بعد أحمد لا يقال: كرام
يا من سبقت الريح بالخير الذى
ما طاولته من السماء غمام
علمتنا الإسلام دين مودة
أعلاه خيرا للفقير طعام
ولقد ضمنت لمن يصون لسانه
جنات خلد ما بهن سقام
والأمهات لبرهن منازل
تحتية من فوقها الأقدام
تجرى بخيرات حسان كلها
 من نهرها تتألق الأقلام
حملته وهنا والضلوع مناهل
 وأريجها بين الحشا أنغام
وضعته وهنا والعذاب بضعفها
بخيوطه تتوالد الأحلام
غذته مولودا بآية صدرها
وبطيب طعم حيث كان فطام
يا أيها المختار من بين الورى
ما زلت تعلو والعلو مقام
ما ناله أحد تسامى منزلا
يا سيدى وجميعنا خدام
الله أسأل شربة من نهره
يوم الورود وكلنا استسلام
وشفاعة للعاشقين جماله
يوم الحساب وكلنا آثام
يا رب صل عليه دوما كلما
عم السلام إذ الدمار حرام

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا