يوميات الأخبار

يا شراعاً وراء دجلة يجرى..

داود الفرحان
داود الفرحان

وشوهد عبد الوهاب، للمرة الأولى والأخيرة، يغنى فى صحراء العراق فى ذلك الليل البهيم، وبدون فرقة موسيقية، وتحت تهديد السلاح.

عنوان هذه اليوميات مأخوذ من قصيدة رائعة لأمير الشعراء أحمد شوقى مطلعها «يا شِراعاً وَراءَ دِجلَةَ يَجرى.. فى دُموعى تَجَنَّبَتكَ العَوادى/ سِر عَلى الماءِ كَالمَسيحِ رُوَيداً.. وَاجرِ فى اليَمِّ كَالشُعاعِ الهادى». لحن الموسيقار الفذ محمد عبد الوهاب هذه القصيدة على عجل ليغنيها فى بغداد فى عام 1931 تلبية لدعوة من الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية الحديثة لمناسبة افتتاح أول معرض زراعى - صناعى فى بلاد الرافدين.
أول أغنية أوركسترالية
لم يكن عبد الوهاب معروفاً على نطاق واسع خارج مصر، فقد بدأ انتشاره وإشعاعه الفنى مع أول أفلامه «الوردة البيضاء» فى عام 1933 وصار نجماً مع أفلامه الأخرى «دموع الحب» و»يحيا الحب» و»يوم سعيد» و»ممنوع الحب» و»رصاصة فى القلب» و»لست ملاكاً» ثم «غزل البنات» فى عام 1949 وكان هذا الفيلم الذهبى من بطولة عبقرى الكوميديا نجيب الريحانى العراقى الأصل الذى داهمه الموت قبل انتهاء تصوير الفيلم ولم يشاهده. وظهر عبد الوهاب فى الفيلم فى مشهد واحد غنى فيه رائعته «عاشق الروح» من ألحانه وكلمات حسين السيد، وكانت هذه الأغنية أول أغنية أوركسترالية فى تاريخ السينما العربية. واستمرت حفلات عبد الوهاب الحاشدة فى العاصمة العراقية خمسة أسابيع كانت إحداها فى القصر الملكى وبحضور الملك فيصل الأول والوزراء ونساء ورجال الدولة.
فى الليل لما خِلى
ولعبد الوهاب قصة غريبة وطريفة عن تلك الرحلة الوحيدة طغت فى طرافتها على تلك الحفلات. تفصل بين بغداد والحدود العراقية - السورية والأردنية صحراء تمتد أكثر من 700 كم ليس فيها على الطريق إلا ثلاث مدن صغيرة هى الفلوجة والرمادى وطريبيل على الرغم من أن نهر الفرات يخترقها لمسافات طويلة. كان عبد الوهاب يخشى ركوب الطائرات فاستخدم السيارات بين بغداد وبيروت ثم بحراً إلى الإسكندرية، وكاد أن يفقد حياته فى صحراء الانبار عندما نفد البنزين من السيارة التى كانت تنقله مع أحد أعضاء فرقته ويدعى إبراهيم أفندى، أما أفراد الفرقة الآخرون فسافروا جواً.
كان الوقت ليلاً، وليس هناك أى إنس أو جن. وفجأة ظهر لهم بعض الأعراب الذين أشهروا عليهما أسلحتهم، إلا أن إبراهيم أفندى كشف لهم عن شخصية عبد الوهاب المغنى المصرى الشهير، وبالصدفة كان أحد الأعراب قد سمع بالفنان الكبير فسأله: هل أنت الذى تغنى «يا جارة الوادى»؟ ويقول عبد الوهاب فى قصة حياته إنه أطلق ضحكة اخترقت صمت الصحراء حين عرف أن شهرته وصلت إلى هذه الأرض المقطوعة. فاستغل عبد الوهاب الفرصة وطلب من الإعرابى تدبير صفيحة بنزين للسيارة العاطلة، فردوا عليه أن الدنيا ليل ولا يمكن تدبير ذلك وأنه سيبات ليلته معهم فى مضاربهم القريبة. ولم يكن أمام الفنان إلا أن يوافق خاصة وأن أسلحتهم مازالت مشهرة فى وجهه! و»فى الليل لما خِلى» جاء الطعام السمين للضيف النحيل، وهو عبارة عن «صينية» كبيرة من اللحم المسلوق وتحته كميات من الرز وتحتهما خبز منقوع بشوربة اللحم، وهو ما يعرف بأكلة «الدليمية» نسبة إلى لواء الدليم وعشائره العريقة التى تحمل نفس الاسم الذى تغير إلى الأنبار. وكان معروفاً عن عبد الوهاب وسوسته فى كل شيء وخشيته على صحته، إلا أن ذلك لم ينفعه فى الإفلات من «الدليمية» التى يتجنبها كثير من العراقيين لدسامتها الظاهرة. وهكذا «سلمها لله» وهات يا أكل بالأصابع الخمسة لعدم وجود ملاعق! ولم تنته المشكلة بهذا، بل أصرّ أهل الخيمة على أن يغنى لهم عبد الوهاب بعض أغانيه، وحاول الفنان التذرع بحجة الإجهاد من طول الطريق أولاً وعدم وجود فرقته الموسيقية معه ثانياً، غير أن ذلك لم يجدِ، وشوهد عبد الوهاب، للمرة الأولى والأخيرة، يغنى فى صحراء العراق فى ذلك الليل البهيم، وبدون فرقة موسيقية، وتحت تهديد السلاح مقاطع من «يا جارة الوادى» و»لما انت ناوى تغيب على طول» و»خايف أقول اللى فى قلبى»! ولم يكرر عبد الوهاب السفر إلى العراق منذ تلك الواقعة، لكنه استمر على السفر بحراً كل صيف إلى سوريا ولبنان.
صبى باب الشعرية
قبل سنوات صدر فى القاهرة عن دار الهلال كتاب فريد للأطفال عن قصة حياة طفل اسمه محمد عبد الوهاب! مؤلف الكتاب محمود قاسم وهو مؤرخ وباحث وناقد فنى ناجح وله موسوعات عديدة. ويبدأ كتاب «محمد عبد الوهاب.. نهر الأنغام» بمقدمة يقول فيها المؤلف: «الغناء أقدم هواية فى التاريخ، موجودة مع الإنسان منذ أن وجد نفسه فى أحضان الطبيعة، يسمع أصواتها المتعددة، وأصوات ساكنيها، من طيور صداحة وحيوانات أليفة ومتوحشة. لذا يمكن أن نقول إن الإنسان حيوان يغنى ويلحن. فكم من طيور جميلة الأصوات، لكنها لا تعرف أنها تغنى أو تدندن.. العندليب والكروان والبلبل والعصافير والحمام والطاووس. ومنذ أن عاش الإنسان فوق الأرض وهو يورث ألحانه وأغانيه إلى أبنائه وأحفاده. هذا هو الدرس الذى تعلمه بشكل مبكر الطفل محمد عبد الوهاب فى ذلك البيت العتيق فى حى من أقدم أحياء القاهرة الشعبية فى حارة الشعرانى فى باب الشعرية».
التواشيح كانت البداية
وهكذا مهد المؤلف من البداية لخيال الطفل أن يربط أصوات الطيور الجميلة بأصوات المطربين الشجية. وهى بداية موفقة لتشذيب ذائقة الطفل وتعويده على أن يتذوق الصوت الجميل واللحن الجذاب. وحتى لا تظل البداية معلقة فى الهواء والخيال، فإن المؤلف يلفت انتباه الأطفال إلى أن من أوائل الأمور التى شدّت أذنى محمد عبد الوهاب التواشيح والابتهالات الدينية والأدعية وأصوات التراتيل. فقد كان أول ما تسمعه أذناه كل فجر هو الأذان بصوت عمه إمام المسجد وأبيه المشرف على المسجد. وبدأ عبد الوهاب يحفظ القرآن الكريم ويتعلم اللغة العربية وأُسس الحساب على يد شيخ «الكتّاب» فى مسجد الشيخ الشعرانى. وكانت موهبة حفظ القرآن الكريم غالبة عليه. فهو يسمع المصلين وهم يرددون الآيات الكريمة فى المسجد، فتبدو له الأصوات متناغمة والآيات ساحرة وخاصة فى صلاة العيد وتكبيراتها الشجية.
مطرب الحسين
ومثل كل المطربين والفنانين العظام لم يكن الطريق إلى الشهرة والمجد مفروشاً بالورود أمام الطفل الموهوب. ويروى عبد الوهاب بسخرية ما تعرض له من ضرب على يد والده وأخيه الشيخ حسن حين علما أنه أصبح يغنى كل مساء فى مسرح شعبى فى حى الحسين حيث بدأ حياته الفنية تحت اسم «محمد البغدادى» بينما كان فى الصباح يعمل صبياً فى محل خياطة ملابس. كانت تلك هى بداية عبد الوهاب فى الفن، وهى بداية تلقى هوى لدى الأطفال الحالمين بأن يكبروا ويصبحوا نجوماً فى المجتمع. ويستمر الكتاب فى سرد قصة حياة موسيقار الأجيال التى نعرفها وأشهر أغانيه وأنجح أفلامه.
فلسفة وسخرية وتحية كاريوكا
كان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب يفاجئ المستمعين العرب بألحانه الرائعة وأغانيه الراقية، وحتى بأفلامه المعدودة، وقد فاجأنا بعد رحيله بخواطره فى الحياة والفن والناس والمرأة والحب والسياسة، وهى الخواطر التى أعدها وقدمها الأديب المصرى الكبير فاروق جويدة فى كتاب صدر فى القاهرة قبل أكثر من عشر سنوات تحت عنوان «رحلتى.. الأوراق الخاصة جداً لمحمد عبد الوهاب». وقد اخترت للقراء هذه «الأفكار» التى سجلها عبد الوهاب فى أوراقه، وفيها الكثير من السخرية التى تطبع شخصيته فى الواقع اليومى رغم بدلته وربطة عنقه ونظارته و»نحنحة» حنجرته ورتبة «اللواء» التى منحها له الرئيس المصرى الراحل أنور السادات فى سابقة هى الأولى فى تاريخ الموسيقى العربية وغير العربية. يقول محمد عبد الوهاب:
فن الغناء كالعملة، كانت فى السابق ذهباً وفى الحاضر صارت ورقاً. كان الجمهور فى الماضى يستمع للغناء بآذانه، أما اليوم فيستمع إليه بيديه ورجليه.
ألحان هذه الأيام ألحان أنابيب.. على غرار أطفال الأنابيب.
أصبح العالم يعانى من التلوث فى كل شيء.. ويمكننا أن نقول الآن إنه يوجد تلوث فنى. فى هذا الزمان تغنى الراقصات.. وترقص المغنيات! حررت تحية كاريوكا الرقص الشرقى من استعمار الراقصات الأجنبيات.
 شفرة لغوية مع يوسف وهبى
وأخيراً، يروى الصحفى الراحل محمود عوض أنه كان جالساً فى منزل عبد الوهاب عندما رنّ الهاتف، وكان المتحدث على الطرف الأخر الفنان الراحل يوسف وهبى، وبعد أن تبادلا التحية قال عبد الوهاب: «صندى عناب جاس نوح. صعدين بوغاشا صلمنى كرفس»! ثم أقفل الخط.
لم يفهم عوض شيئاً مما قاله عبد الوهاب. لكنه سأله فى لقاء آخر عن المعنى فأوضح: أن ما قاله هو شفرة سرية بينه وبين عميد المسرح العربى يوسف وهبى يتحدثان بها عندما لا يريدان أن يفهم المعنى أحد غيرهما. أما معنى عبارة «صندى عناب جاس نوح» فهو «عندى ناس». ومعنى عبارة «صعدين بوغاشا صلمنى كرفس» هو: بعدين كلمنى!
رحم الله عبد الوهاب، وأقول له لقد تحول نهر دجلة الذى شاهدتَ شراعاً يجرى وراءه إلى بحر من الدم هذه الأيام.
< كاتب عراقى مقيم بالقاهرة