يوميات الأخبار

ذكريات زيارات رئاسية

محمد الشماع
محمد الشماع

مساحات فارغة فى عقول هؤلاء الشباب المتعلم بسبب الحياة بدون غذاء للعقول أو ثقافة أو فنون راقية، يتم شغلها بتلك الافكار الشاذة والخاطئة.

لا اعرف لماذا عادت بى الذاكرة إلى سنوات ليست بعيدة مازالت احداثها ماثلة فى الذاكرة، وأنا أتابع جولات الرئيس عبدالفتاح السيسى لافتتاح مئات بل آلاف المشروعات القومية والعملاقة فى مختلف المجالات الصناعية والزراعية والانتاجية فى كل محافظات مصر توافرت لها كل عوامل النجاح - مثل كل المشروعات- ضمن العشرات بل المئات من القلاع الانتاجية والحضارية التى تضع مصر فى مصاف الدول الكبرى وتصب فى صالح المواطن المصرى. ربما عاودتنى الذاكرة بأحداثها لتقارن بين ما كنا عليه وما اصبحنا فيه بالتأكيد بدأ الفارق واضحا وضوح الشمس، فقد عملت محرراً لشئون رئاسة الجمهورية، فترة طويلة تابعت فيها عن قرب كل ما يجرى من أحداث ووقائع وأزمات ونجاحات واخفاقات.
تابعت الزيارات والافتتاحات الرئاسية على مدى أكثر من عقدين ونصف من الزمان وطُبعت فيها الكثير من تلك الافتتاحات بمظاهر على خلاف الحقيقة والواقع، فمثلا كانت المشروعات تستغرق عدة سنوات قد تصل فى بعض المشروعات الى ثلاثين عاما! كما فى بعض المستشفيات والمدارس والطرق والكبارى ومحطات الصرف الصحى والمياه ناهيك عن افتتاحات لمشروعات غير مكتملة وافتتاحات لمشروعات عدة مرات، مما يرفع تكلفة هذه المشروعات ويمثل اهدارا للمال العام بالمليارات دون تحقيق أى عائد.. كما كانت هناك افتتاحات وزيارات معدة سلفا «تليفزيونية عشان اللقطة»!
تذكرت واقعة نادرة لابد أن يذكرها كل من حضرها وكنت احد هؤلاء ممثلا عن الشباب بأخبار اليوم يوم افتتاح المطبعة الصحفية فى عام ١٩٨٤ وعقب الافتتاح الذى ضم كبار الصحفيين والمفكرين من قيادات وأبناء مؤسستنا العريقة الاساتذة مصطفى أمين وجلال الحمامصى وموسى صبرى رئيس  مجلس الادارة ورئيس تحرير الأخبار وحسين فهمى نقيب الصحفيين الاسبق وابراهيم سعدة واحمد زين وسمير عبدالقادر واسماعيل يونس وجلال دويدار ومحمد طنطاوى ورئيس مجلس الشورى د.صبحى عبدالحكيم وصفوت الشريف وزير الاعلام.. جلسنا جميعا حول المائدة الطويلة التى جلس على رأسها الرئيس الاسبق مبارك وكان كل منا قد اقترح السؤال الذى سيوجهه الى الرئيس.. فالاستاذ موسى صبرى كان يعرف تحديدا سؤال كل منا بالنص.
وفجأة تحدث استاذنا مصطفى أمين موجها كلامه للرئيس الأسبق مبارك: سيادة الرئيس: شارع الصحافة بالأمس كان عبارة عن أكوام من الزبالة والحفر والمطبات وفى منتهى السوء.. النهاردة اصبح عبارة عن حديقة نظيفة مليئة بالزهور. كان مصطفى بك يقصد أن كل ما حدث هو مجرد شكل!
فضحك الرئيس الاسبق قائلا: الحمد لله.. لكن استاذنا استمر فى الكلام قائلا: بعد ما تغادر المكان سوف تختفى كل هذه الزهور وسيعود الشارع الى ما كان عليه.. فضج الجميع بالضحك.. فعلق الرئيس الاسبق قائلا: يامصطفى بك لو ان زيارتى حتنظف الشوارع بهذا الشكل لو  أقدر حالف شوارع مصر كلها! وبالفعل بمجرد مغادرة الرئيس الاسبق شارع الصحافة كانت سيارات المحافظة ترفع الزهور والورد من الشارع لإعادتها للمحافظة وبعد يومين عاد الشارع لسيرته الأولي!
نفوت على الصحراء تخضر!
واقعة أخرى حضرتها فى المؤتمر الذى كان يحرص على حضوره الرئيس الأسبق فى معرض الكتاب السنوى، يلتقى فيه بالمفكرين والكتاب والصحفيين ويجرى حوارات معهم.. دار حوار بين الرئيس الاسبق وأحد الزملاء الصحفيين «المعروفين» كان قد حصل على قطعة أرض مساحتها مائة فدان بالطريق الصحراوى وكانت مشكلة عدم توافر المياه عقبة أمام الاستصلاح.. وناشد الزميل الرئيس الاسبق قائلا: ياريس وفر لنا شوية مياه واحنا بكرة نزرع الصحراء كلها؟!
ضحك الرئيس ساخرا: جرى ايه يا.. انت فاكر نفسك عبدالحليم حافظ وهو بيغنى.. نفوت على الصحراء تخضر.. اقعد يا...؟؟!
لاننا كنا نزرع الأرض بالاغانى وكان لها تأثير كبير فى اقناع الشعب بما هو ليس موجوداً!.. فى الماضى كان بعض المسئولين ينقلون المزروعات من  المزارع القديمة الى أماكن الصحراء التى يعلن عن استزراع مساحات كبيرة منها ويعرضون تلك المزروعات على انها من انتاج الارض الجديدة ايضا وبمجرد انتهاء الزيارة الرئاسية تختفى تلك المزروعات من الخضر والفاكهة ويبقى حجر الاساس واللوحة التذكارية!
موقف آخر.. كنا فى الطائرة الرئاسية فى جولة أوروبية وكان من عادة الرئيس الاسبق أن يلتقى الصحفيين المرافقين له على الطائرة اثناء الطيران.. فاجأنى الرئيس متسائلا عما نشر بغلاف مجلة آخر ساعة -كنت رئيسا للتحرير- وكانت صورة الغلاف لمستشفى الاحرار بالشرقية من أكبر المستشفيات فى مصر استغرق بناؤه ٣٠ عاما افتتحه الرئيس وبعد انتهاء الحفل تم اغلاقه بأمر المحافظ!
سألنى الرئيس الاسبق.. لماذا أغلقه المحافظ؟ قلت: عشان مفيش صرف صحى للمستشفى والبعض يقول هناك بعض النواقص من المعدات واطقم التمريض والعلاج!!
تلك بعض من الذكريات للزيارات الرئاسية التى تابعتها ومعها ايضا مشاكلها. المدن الجديدة التى تم افتتاحها ولكن اغلق السكان وملاك الوحدات السكنية وحداتهم وتركوها خالية لعدم اكتمال الخدمات والامن وفرص العمل رغم الافتتاح الرسمى الرئاسى!
نعم هناك فارق كبير بين الأمس واليوم، كان إنشاء محطة مياه صغيرة يستغرق سنوات وسنوات.. اليوم نفتتح العديد من المشروعات الكبرى ومحطات المياه الضخمة للشرب فى يوم واحد لتوفير مياه الشرب النظيفة لمدن وقرى محافظات الصعيد والوجه البحرى ضمن خطة ضخمة لتغطية كل المدن بالمياه تلك المدن والقرى كانت تشرب المياه مخلوطة بمياه الصرف الصحى، المشروعات العملاقة لانتاج الكهرباء بشبكة الطرق والمدن والمجتمعات الصناعية المتخصصة، المدن الجديدة، القضاء على العشوائيات وانقذنا اهالينا من الحالة غير الانسانية التى كانوا يعيشون فيها، قاربنا من تحقيق الاكتفاء الذاتى من العديد من احتياجاتنا وزاد التصدير بعد زيادة الانتاج الزراعى والصناعى فى العديد من السلع والصناعات وبدأنا نجنى ثمار كل هذه الجهود واصبحنا نفتتح ١٥ مشروعا فى يوم واحد ولدينا الكثير يؤجل للافتتاح لكنه يعمل وينتج ولن يغلق أو يتوقف بعد الافتتاح.
التلميذ والأستاذ
كان استاذنا العظيم مصطفى أمين دائما ما يؤكد لنا أن أى مسئول واثق من قدراته وكفاءته وخبرته يكون حريصا على أن يجمع حوله اصحاب الخبرة والكفاءة والرأى حتى يستطيع أن ينجح فى تحقيق اهداف الهيئة أو الكيان الذى يتولى ادارته.. وأن المسئول بهذا الفكر وبالعمل يكبر ويعلو شأنه هو وكل من حوله من العاملين والمساعدين، بل ويسعد هذا المسئول أكثر عندما تظهر نجاحات وانجازات كل من حوله من هؤلاء وتزداد سعادته عندما يتفوق احد هؤلاء حتى لو كان من تلامذته وكانت له مقولته الشهيرة على تلامذته الذين تفوقوا ومن هؤلاء النجوم المرحوم الاستاذ سامى جوهر اشهر صحفى حوادث فى مصر حيث قال عنه استاذنا: سامى جوهر التلميذ الذى تفوق على استاذه! وهناك الكثير والكثير من أمثال سامى جوهر بل اكثر!
الجاهل يقود المتعلمين!
لماذا معظم قيادات وعناصر الجماعات الإرهابية من خريجى الكليات العملية كالطب والهندسة والعلوم، وتلك قضية فى غاية الاهمية والخطورة ومع ذلك يتم تجنيد هؤلاء الشباب بسهولة مع أن المجتمع ينظر اليهم على انهم متعلمون تعليما عاليا ومتفوقون فى دراستهم.. ومع ذلك فهم ليسوا مثقفين بدليل ان الكثيرين منهم ادلوا  بأعترافات مثيرة بأنهم كانوا اعضاء فى جماعات يتولى أمر تلقينهم المفاهيم والعقائد الخاطئة ممن كانوا يطلقون على انفسهم امراء الجماعة والذىن يكونون فى الغالب عامل جاهل لم يحصل على قسط من التعليم، لكنه حفظ بعض الخطب الدينية والاحاديث المغلوطة وبعضا من آيات القرآن الكريم يفسرها بطريقة خاطئة. ليوظف الدين لخدمة اغراضهم السياسية أو التضليل باسم الدين أو بدعوى حقوق الانسان التى ترتكب باسمها ابشع الجرائم وهى تفتيت الاوطان وهدم الدول.
يتخرج الآلاف من الدارسين فى هذه الكليات العملية وهم بعيدون تماما عن اية معلومات انسانية أو ثقافية أو فكرية أو مجتمعية، ويحصرون انفسهم فى العلوم العملية البحتة، بعيدا حتى عن تذوق الادب والشعر والموسيقى. إن تدريس قدرا ولو بسيطا من العلوم الإنسانية بتلك الكليات أمر غاية فى الاهمية لكشف مزاعم وافكار الجماعات الارهابية المتطرفة التى يسعى لتحقيق اهدافها ولايجد أى صعوبة فى تجنيد هؤلاء الشباب المتعلم وبث سمومه وافكاره الشاذة فى عقولهم ووعودهم الكاذبة بحجز قصر فى الجنة وان الحور العين فى انتظارهم لانهم يقاتلون فى سبيل الله وأن الحياة الدنيا هى حياة الشقاء وأن كل حكومات العالم فاسدة وهم الاتقياء.
مساحات فارغة فى عقول هؤلاء الشباب المتعلم بسبب الحياة بدون غذاء للعقول أو ثقافة أو فنون راقية، يتم شغلها بتلك الافكار الشاذة والخاطئة. فى بعض الدول الصناعية المتقدمة كاليابان حيث يستغرق الشباب كل الوقت فى الدراسة العملية البحتة بعيدا عن الثقافة والترويح عن النفس والاطلاع على العلوم الانسانية تكون التنمية هى ارتفاع معدلات الانتحار!
انتى بتشتغل إيه؟
زمان كنا بنوزن الإنسان بما حصل عليه من شهادات فانتشرت مقولة بلد شهادات- واغفلنا تماما اصحاب الخبرات فى كل المجالات فكانت النتيجة اننا اصبحنا نجد مشقة وعذابا فى العثور على فنى فى الكهرباء أو اصلاح الاجهزة والمعدات أو السباكة أو النجارة واصبحنا نتكعبل فى عديمى الخبرة والموهبة واختفاء الفنى الحقيقى ولانجد سوى الفهلوى الذى يعرف فى كل شىء والنتيجة خسائر ونصب على المستهلكين وتوكيلات صيانة غير حقيقية.
فى المقابل انتشر حاملو الشهادات العاطلين عن العمل لعدم حاجة سوق العمل اليهم ولانعرف حصرا للوظائف. آسف لمسميات الوظائف الجديدة والتى يحملها الكثيرون وبين كل لحظة واخرى يطل علينا مسمى جديد مثل: انت بتشتغل  ايه يقولك HR او ماركتنج أو مبرمج أومطور عقارى فين متعرفش.