يوميات الأخبار

كلام فى المسرح

يسرى الجندى
يسرى الجندى

أنا لا أتحدث عن الخطيئة الأولي.. بل أتحدث عن رمز الخير الآن.

عمنا (توفيق الحكيم) قدم للحركة المسرحية العربية ما اسماه (مسراوية) جمع فيه بين المسرح والرواية.
فكانت تجربة هامة سعت إلى الحد من الإطناب والاطالة  وتغلب، بعكس المسرح الذى ينحو الى الاقتصاد فى التعبير رغم أن نجيب محفوظ وعبقرية يوسف ادريس تتجلى فيها الابداع بأرقى معانيه ونجيب محفوظ مثلاً بوجه خاص ما تميز أعماله بالتكثيف والاقتصادى فى التعبير. وعموماً فإن تجربة الحكيم استطاعت بغير ذلك أن يتغنى على ما يميز الرواية وما يميز المسرحية، وتحليل ذلك قد يطول.
وبحسب ذلك التوجه تميزاً للمسرح على حساب الرواية؟! ربما.. لكن يظل هناك خصوصية درامية. للرواية فيما عدا مسألة التكثيف هذه على أن توفيق الحكيم كتب قبل ذلك الرواية وأن كان المسرح هو توفيق الحكيم بكل أطيافه الزمنية يظل هو الرائد الكبير الذى ذكرنى ذلك بتجربة تراثية. شاركنى فيها المخرج الصديق والمبدع الكبير عبد الرحمن الشافعى - حيث جرى استلهام الحكيم فيما أشرنا إليه عن تجربة مسرح (روض الفرج) بمسرحية كان إسمها (زعيط ومعيط) عن مسرحية الهلالية حيث جمع فيها الشافعى بين النص الادبى والسرد الشعبى بأداء وغناء شعبى لشاعر الربابة فى ضفيرة! أبدع فيها الشافعى حيث جمع فى براعة بين النص الأدبى وأدوات الحكّى الشعبى بالسرد والغناء مع الدراما المعاصرة مما ساعد على أن تتبلور التجربة فى قالب جديد وفى مستويات لغوية متعددة ما بين الفصحى والعامية والشعر العامى الركيك.
والحقيقة أن محاولة الشافعى الاغراء فيها كان (د. على الراعى) قد جمع فى بحثه عن مسرح روض الفرج وعلاقته بالتفسير المعاصر تفسيره وتكثيفه للغة بعرض يعيش شعبنا بالسخرية والغفلة من مشاهدى العرض فى تلك الفترة ثم جاء المسرح فيما بعد حتى الوقت الحالى فن المعاصر وكان التوفيق حليف المحاولة فى عرض «حكاوى الزمان» فبقدر ما حققت قبلها فتحت بابا لانفتاح فى الشكل الجديد غير أنها للاسف لم تجد امتداداً مثل تجربة يوسف ادريس (السامر)!
خونا بنوب.. الفلاح الفصيح
جاء ذكر الفلاح الفصيح فى عروض النصوص أكثر من مرة منها هذا النص الذى تضمنه عرض حكاوى الزمان فى مستويات متعددة ثم أوقع (زعيط ومعيط) كمدخل للتجربة ورد فى الفصول المضحكة التى لا نجد فيها ما يضحك الآن فأردف الراعى أنه اقترب مع شخصية الفلاح هذه وبالتالى اقترب من جذور الشر فى الواقع الانسانى فأدار حديثه المضنى نحو هذه المنطقة وهو ما فعله كثير من الشعراء وكتاب المسرح فى تحليل الواقع وفقاً لهذا فى الجوهر قابيل وهابيل و«ست» الذى قتل أخاه فى بداية عصر الفراعنة (روض الفرج) وحتى الآن:
وفى برديات الفراعنة الكثير عن بست وأوزريس - أى قابيل قاتل هابيل ثم فى عصر تال (سعد اليتيم) الذى حاول الثأر من عمه قاتل أبيه وتمضى المحاولات وهى ان لم تحمل تلك السخرية الفجة الحادة الا انها تحمل اضاءات  لوجه الشر وجذوره فى الشخصية الانسانية وواقعها عموماً كما ورد فى زعيط ومعيط وحكاوى الزمان! مثلما ورد فى مسرحية الشاعر مهران السيد وغيرها سواء كان ذلك بالرجوع إلى (د. الراعى) أو غير ذلك ولكنها فرضية ناقصة.. لأنه لابد من الرجوع الى تجربة النظرية التى عكف فيها على نصوص مسرح روض الفرج والبرديات وأصول التراث الشعبى أو أدب العامة حيث الشخصية المصرية - التى بدت للكثيرين مهيضة الجناح خاضعة للقهر.. لكنها تمتلك درجة عالية من الوعى الذى أخفته حتى تصل الى لحظة مناسبة فتتعرى قوتها بشكل فعال ولننظر الى ذلك فى حكاية خونانوب وحواره مع الفرعون.
حوارات خونا نوب مع الفرعون
يقول خوخانوب وهو فلاح من وادى الملح قد وقع عليه ظلم من أمير الناحية حيث صادرها الأمير وكان الفلاح فى طريقه الى السوق لبيع محصوله.. غير أن الأمير صادرها وضربه. يقول خونا نوب يا أيها الفرعون الاله.. وأنا فلاح من وادى الملح أتيت لكى أرفع شكواى لمسامعك الملكية فلتسمع لى وهنا وجه آخر للفلاح المستكين المتملق.. فإذا به يجمع ما بين الرد بقوة دون التخلى عن التملق.
هذا ما يجعلنى اطرح نفسى ارضاً فمتى يتهمه الكهنة بالكفر وأنكار ألوهية الفرعون. فيقول اتعذب يا مولاى كثيراً.. لكنى لم أكفر بالفرعون الأعظم وعدالته القدسية.
واذ يجد إعراضاً من الملك الفرعون عنه ويكذبه فيما قال حتى تتغير نبرته فيقول قد صار ويصير قصيراً.. يكاد يكشف وهم القدسية المذعومة. هو يتملق الكهنة خوفاً من سلطتهم لكنه يخشى بطشهم.
يقول  خونانوب حيث صار هؤلاء يهابهم وهو الكفر بالكهنة والفرعون!
فقول خونانوب:
اطرح ارضا كل الشرر.
اني أتكلم وأطيل كى تسمعنى. لكنك تأبى ان تتصور أميرك يسرق ولا تهرب من هذا الامر وحقق فيه.
وسفينة دون الربان.. إنت العادل دون عدالة!
أنه يزيل حاجز الخوف عن قلبه الجريح فيكمل وعد جاشت نفسه تجاه ما يحدث:
استمع إلى قلب فلاح صريح يتعرض لجلالتك الملكية - باللوم إليك فلا تسمع من كهنتك أو من أمراتك مثل كلامى هذا ستظل ضريراً يقتادونك.. لكن من هم؟ تملك أرضا ومخازن ممن؟!
من أمرائك الأعلون.. لكن فلتعلم ان العدالة خالدة أعلم يا فرعون هذه الارض أنك قاتلى فليأت الموت إلى فقلبى مستريح.. لم أنصف.. لكنى أنصفت الحق وجه الفرعون الاعظم.
إن نستعد بهذا الاستشهاد.. دفاعا عن حقنا.
الشر يستطير.. ثم ينهزم!
كان خونا نوب فى البداية مكبلاً بالخوف.. فنطق بما يخدم الشر.. احتدام المواجهة ومع النقاش مع الفرعون تبدد الخوف وأختار الشهادة لكى يكشف لنا وللفرعون كل الزيف الذى يعيش ومدى العبث الذى يبذل الكهنة لغرض سطوتهم.. لقد تصنع.. الفرعون ألا يقبل بما يتحدث به الفلاح ليفضح الكهنة.. ولكنه غير من موقفه من مواجهة الفلاح بكل الحقيقة.. حقيقة نفسه والواقع حوله.. فى حوارات نجدها تتردد فى البرديات القديمة لتؤكد أنها تدل على درجة عالية من الوعى كامنة موجودة تنتظر اللحظة المناسبة.. وهنا هى تأتى حين يدفع الحقيقة كى تظهر مع شدة المعاناة التى عاشها الفلاح وانضجت الوعى الكامن داخله ليواجه شر العالم حوله. وليخرج من دائرة الظلم والزيف حتى لو واجه الموت ما باح بالحقيقة (أعرف يا فرعون إنك قاتلى) .
فإن كان الفرعون قد تغير من داخله لما سمع فى تلك المواجهة.. وصار الأمر مبدأ خال من الصدق. مضلل.. ولكن ظل المبدأ وانتصر على مر التاريخ.
وظل العالم منقسما ما بين قابيل القاتل وهابيل المقتول.. وهو ما نراه الآن فى منطقتنا.. والقاتل والقتيل اخوان شقيقان.
كانت هذه تجربتى فى المحاكمة. وإن اعترض الجلاد على رفضه على محاكمة المقتول لقاتله. واستمرار لعبة الغابة رفضا منهم للظلم حتى من بنى جلدتهم - مثل الهلباوى وفتحى زغلول وحادث دنشواى وهو ملمح آخر من ملامح هذا العصر التعس حيث يتولى القوى المخادع دور الشرطى الأرعن الذى ينهب دون حياء ضعاف الأمم مستسلمة إذ يسرق أقواتهم.. وهو ما تفعله كل القوى الكبيرة الباغية تاريخيا مع الضعاف من الأفراد والأمم.
فهل ستظل الغلبة للقوة والبغي؟
لا...
هذا يصل بنا إلى نقطة فاصلة.. فمتى تتوقف عجلة الشر الذى يدهس الجميع؟
الجواب فى الاستشهاد الذى يمثله خونا نوب أعطى للخير فرصة الانتصار فى قادم الايام برغم أن الصورة الآن - صورة العالم - تقول إن النصر حليف الشر..
الشهادة والشهيد
أنا لا أتحدث عن الخطيئة الأولي.. بل أتحدث عن رمز الخير الآن.
الشهادة.. والشهيد وهزيمة الشر
حيث إن كل ألوان الشرور.. تصدر من نبع واحد.. ومبدأ زائف طافح بالكذب والتدليس، فقد صرنا ننظر بحسرة وألم إلى سمة صارت تدفع الجميع بالشر ومؤازرته.. يوميا صار ما يحدث فى الشرق والغرب على السواء بالملايين.. صرنا نعتاد على مشاهد هذا الخلل ونعتاد عليها وعلى كل ما نراه من تربص الشر.. وما يحدث للضعاف أفرادا وشعوبا من تآمر وشر.. يدفع الملايين فى معظم الأمم الثمن الغالى حيث يبدو العالم غابة مخيفة لا يعرف المرء كيف يهرب منها حتى جاء لنا فى معركتنا مع الشر..
من تقدم للشهادة
يقول الشهيد المخلص:
أنا زيكم كنت واخد دور مش عارف أصله ولا فصله ولا ليه ولا فين! حياتى بجرجرها ورايا كئيبة بلا عنوان.. جيت أكلمكم عن تجربتي.. وأنا فى وجه الاستشهاد.. وأنا فى وجه الموت.. الأشبه بالميلاد ورجلية على عتبات الاستشهاد.. الاشبه بالميلاد.. بضع دقائق لا أكثر لكنها فى عمر الكون..  اللى ح أقوله غريب يمكن لكنه حقيقي.. وأنا دلوقت بحاول أكلم فيكو اللى فى آخر لحظة.. نفس الانسان الحقيقية.. ما أعظمها.. لكن وا آسفاه فى دوران الأيام بالدنيا.. فى التيه اليومى لحياة الناس.. تتغمى عينهم .. يتروض من كائن لا محدود الروح والقدرة إلى كائن عمره آلاف الأعوام فيه كل تاريخ البشرية  الكائن محدود  داير فى  طاحونة لا تظهر روحه الحقيقية إلا أحيانا فى لحظات.. فى ومضات ثم يعود إلى العتمة إلى الدوران.. يمكن ما يحسش فى كل حياته غير بوميض واحد.. يمكن..
إلى اللقاء .. مع الشهيد.. وألوان الشهادة
الشهادة حبا.. والشهادة يأسا وضياعا

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا