حكايات| «المعددة».. اللطم على الخدود «فن مدفوع الأجر»

«المعددة».. فن احتراف الحزن والرثاء مدفوع الأجر
«المعددة».. فن احتراف الحزن والرثاء مدفوع الأجر

صوت نواح ظاهر بشكل واضح من بين النساء وقت الجنائز، واثق وكأنه يتغنى بالنحيب والعويل، بالطبع سيكون كذلك لو كانت هذا الصوت نابع من «المعددة».  


التجليات المصرية لا تقتصر على أوقات الفرح والبهجة، فمع الأحزان أيضا يظهر تجليات أخرى أغربها «المعددة» التي يعتقد كثيرون أنها مهنة اندثرت.


يعتبر البعض العدودة أو «المعددة» كإبداع فلكلوري فيما ينظر لها يستهجنها بعين الشرع، إلا أن الحقيقة التي لا ينكرها أحد أنها رثاء مدفوع الأجر. 


لا تفوت المرأة القنائية مقامًا الا وأودعته جزءًا من تاريخها وموروثها الثقافي الخالد، فلا يقتصر إبداعها عن حدود البهجة والسعادة، بل يمتد الى حزنها التي التصقت فيه مع اجدادها وآبائها منذ فجر التاريخ.

تسجل أوراق المؤرخين والباحثين في صعيد مصر، أن العدودة المصرية المعروفة  أيضا بالمعددة، التي اشتهرت المشاهد الجنائزية، ظلت حاضرة بمآثرها الموروثة التي تنعي فيها المرأة الصعيدية فقيدها لحظة الوداع.

ولعل قيام الباحثين المختصين في هذا الشأن في إعداد الدراسات العلمية المتنوعة التي ناقشت فن العدودة، له أكبر شاهد ودليل على حضور هذا الفن المختلف في حكمه الشرعي، والمتفق على إلمامه بصنوف متنوعة من الفنون والإبداع الفريد.

تشير الدراسات إلى أن إن جذور العدودة ترجع إلى مصر القديمة، بصور  على الجداريات في المقابر الملكية في عدة عصور فرعونية منظر خروج «الندابات» مع أهل المتوفي، لوداعه وهن يرتدين السواد ويهلن التراب على أجسادهن، ويرددن الأناشيد التي تعدد من مآثر الميت وتدعو له، موضحًا أن المصري القديم كان يعتني بالمتوفى في كل مراحل الجنازة، وتمريره على طقس التحنيط لحفظ جسده من التحلل قبل الدفن، وفق معتقد البعث بعد الموت، كما امتدت إلى العصر القبطي وتوارثتها الأجيال حتى صارت من طقوس المآتم وخاصة في صعيد مصر، وقد اندثرت تلك الطقوس في المناطق الحضرية، وعلى استحياء في بعض قرى محافظات الصعيد.

«العدودة»، كانت هي الصوت الحاضر والجهور في الجنائز، في قرى الصعيد، ففور وفاة «الميت»، تذهب السيدة المعروفة بـ«لعدودة»، لمنزل الميت، سواء من تلقاء نفسها، أو بطلب أهل الميت، لإحياء مراسم الجنازة.

كانت «العدودة»، قديمًا تمكث في منزل المتوفي، منذ وفاته ولمدة 7 أيام، تقريبًا، وهي تصيح بصوتها الجهور أغاني الحزن، التي تعبر عن الفلكلور والفن الصعيدي، الذي اندثر في هذه الأيام بشكل كبير.

لـ«العدودة» مكان مخصص تتقدم المشيعات للجنازة حتى باب المنزل، وتتوسطهن طوال أيام الجنازة، وهي تؤدي أغان تعبر عن الحزن على فراق الأحبة، مثل:
«الجمل روّح بلاد الشام رمى حموله على قاعود صغار، والجمل روّح بلاد بحري رمى حموله على قاعود لبني »، وأيضا «ودا قبر مين اللي بقر هده دا قبر الغريب اللي هجر أرضه"، وما الولية نعشها مايل ملهاش ولد بين الرجال شايل».
العدودة، فن يلازم مزاج الصعايدة في الحزن، وهي فن لاستثارة مشاعر الحزن عند المعزيات، كما أنه رثاء شعبي، يعبر عن الحزن ويحرض على البكاء، وإثارة الأحزان، مقابل حصول «العدودة» على مقابل مادي بسيط، نظير إحياء مراسم الجنازة و«عشان الجنازة تبقى حامية».

لم تقتصر مهنة "العدودة"،  على تشييع الجثمان، بعد «اللطم على الخدين» والبكاء الشديد، بصوتها الجهوري، فبالرغم من أنها كانت معروفة بذلك، إلا أنه من الممكن أن تجدها في الأفراح، تغني وتمسك بـ " الدهلة" قديمًا وهي "الطبلة"، لإحياء ليلة الحناء أو العرس والصباحية.