يوميات الأخبار

فرصة أخرى للحياة

نوال مصطفى
نوال مصطفى

إذا أحببت أن ترى الدنيا فعلا اذهب إلى هناك،ستجد نفسك الحقيقية كما لم ترها أبدا!

أكثر ما يسعد الإنسان أن يكون صوتا لمن لا صوت له. هذا ما تعلمته من أستاذى مصطفى أمين الذى زرع فى أبناء أخبار اليوم هذا الإحساس الرائع بالمسئولية الأخلاقية تجاه الضعفاء، المقهورين، الفقراء، الذين لا سند لهم ولا ظهر. وقد كنت ومازلت تلميذة مخلصة لمبادئ تلك المدرسة الصحفية العظيمة التى تؤمن بهذا الدور الإنسانى النبيل للصحافة إلى جانب أدوارها الأخرى.
لذلك شغف قلمى منذ التحاقى بدار أخبار اليوم بالقضايا الإنسانية التى تمس الجانب الضعيف فى مجتمعنا، الذى يحتاج إلى دعم ومساندة، ووجدت نفسى مأخوذة بالإبحار فى عوالم بشر يعيشون فى القاع. كتبت عشرات القصص الصحفية التى يعيش أبطالها الحقيقيون فى الحارات والأزقة والأحياء الفقيرة والعشوائية، أحاول أن أنقل آلامهم، وأصور أحلامهم الصغيرة.
لا تتركينا!
لحظة فارقة غيرت حياتى، وقلبت مسارها رأسا على عقب. فمن بين عشرات القضايا الإنسانية التى حركت قلمى وشغفى، احتلتنى هذه القضية بالتحديد لتصبح جزءا من حياتى وقدرى. أطفال الزنازين الذين عشت قصصهم، وكتبت حكايات أمهاتهم الموجعة سكنوا ضميرى، وهمسوا فى أعماقى: لا تتركينا!
التقيت منذ تلك اللحظة وجها آخر للحياة لم أكن أراه أو أعرفه. اكتشفت كيف تتغير مصائر البشر، وتسرق سنوات من عمر الإنسان بسبب غلطة بسيطة نتجت فى أغلب الأحيان عن جهل، أو عدم وعى بالقانون، وقبل هذا وبعده ذلك الفقر اللعين الذى لو كان رجلا لقتلته كما قال الخليفة عمر بن الخطاب.
تبنيت القضية بعد حملة صحفية ممتدة على صفحات جريدة الأخبار العريقة تحت عنوان «ابرياء فى سجن النساء». تفاعل القراء معها وطالبونى بتأسيس جمعية أهلية لرعاية هؤلاء الأبرياء الصغار، البراعم الخضراء التى فتحت عينيها على الدنيا لتجد نفسها داخل سجن!
شعرت أن هؤلاء الأطفال أطفالى وقررت أن أفعل شيئا للتخفيف من مأساتهم. غُصت تماما فى هذا العالم، استمعت إلى عشرات الحكايات من السجينات خلال الزيارات التى تقوم بها الجمعية شهريا لتقديم المساعدات العينية من ألبان وملابس وأدوية ومواد غذائية وبطاطين وقوافل طبية وغيرها من الاحتياجات الأساسية.
المعايشة العميقة تجعلك تغوص أكثر وأكثر فى أعماق القضية التى احتلتك، تحاول أن تصل إلى الجذور، يشغلك جدا أن تجد حلولا لها. فى غمار ذلك يأتى كشفى الثانى، أو القضية الثانية التى لا تقل أهمية عن الأولى «سجينات الفقر» أو «الغارمات» هؤلاء اللاتى التقيت بهن عام 2007 واكتشفت وجودهن بكثرة داخل السجن فأطلقت حملتى الثانية«سجينات الفقر» لأسلط الضوء على تلك الظاهرة المجتمعية الخطيرة.
شعرت أنهن ضحايا للفقر والجهل والقهر فدافعت عنهن وأصبحت القضية التى تعاطف معها المجتمع كله، وسارت فى الركب جمعيات أخرى كثيرة، ثم توج مشوارى الطويل بتبنى الرئيس عبد الفتاح السيسى شخصيا لهذه القضية الاجتماعية المهمة وأطلق مبادرته الإنسانية النبيلة «سجون بلا غارمات».
لكن الأمر لم يتوقف عند اطلاق سراح الغارمة وتسديد ما عليها من ديون، فبعد خروجهن من السجن يدخلن سجن أكبر هو سجن المجتمع «سجن الوصمة»! يجدن كل الأبواب مغلقة فى وجوههن، لا مجال لكسب الرزق بالحلال، والنتيجة أن حوالى 60% منهن يعدن مرة أخرى إلى السجن.
من هنا ولدت فكرة مشروع «حياة جديدة» لتمكين سجينات الفقر اقتصاديا وتأهيلهن نفسيا، بالإضافة إلى وضع خطة إعلامية مدروسة تهدف إلى تغيير نظرة المجتمع تجاه السجينة السابقة، والتعامل معها باعتبارها إنسانة قبل كل شئ أخطأت لسبب أو لآخر، ودفعت ثمن خطأها غاليا، وأصبح من حقها فرصة أخرى للحياة.
تقديرا لهذا الجهد المستمر عبر سنوات طوال، والاخلاص للهدف الذى تبلور فى نموذج متكامل قابل للتطبيق فى أى بلد فى العالم يعانى من نفس المشكلة مع الغارمات وأطفالهن فزت بجائزة الأمير طلال بن عبد العزيز الدولية للتنمية المستدامة ومحاربة الفقر. ومنحت الجائزة فى الفرع الرابع المخصص لجهود الأفراد من أجل تأسيس مشروع بناء يصنع نموذجا، وكان المشروع هو «حياة جديدة» وكان الفرد الذى وراء هذا المشروع هو شخصى المتواضع.
لحظات الألق
غمرتنى السعادة التى من الصعب وصفها وأنا أصافح الملكة صوفيا ملك أسبانيا وعضو لجنة تحكيم الجائزة والأمير عبد العزيز بن طلال بن العزيز وباقى أعضاء هيئة التحكيم من قامات العالم الرفيعة، يصافحنى يشد على يدى مشجعا مهنئا السفير علاء يوسف، المندوب الدائم لمصر فى الأمم المتحدة بجينيف، بحرارة وفرحة، فقد حرص على حضور الاحتفال لأن مصر ممثلة فيه لأول مرة منذ إنشاء الجائزة قبل ثمانى سنوات. رجفة من التأثر انتابتنى لأن هذا الاحتفال المهيب يقام تحت قبة الأمم المتحدة وفى قاعة حقوق الإنسان بجنيف.
الجائزة موجهة لتطوير وتنفيذ المشروع فى محافظة أخرى من محافظات مصر، سوف تكون محافظة البحيرة فى سجن دمنهور. شكرا لله أولا الذى وفقنى لأداء هذه الرسالة النبيلة ولكل من ساند ودعم مشروعى فريق عملى المؤمن بقضيته، أصدقائى المشجعين المؤازرين، كل من آمنوا بقضيتى، مؤسسة أشوكا العالمية التى منحتنى زمالتها الرفيعة عام 2013، مؤسسة دروسوس التى شاركتنى مشروع «حياة جديدة» بالتمويل والدعم والمشورة والخبرة. شكرا لأسرتى الكبيرة والصغيرة اللتان تساندان خطواتى وتدعمانى وتحتملان انشغالى الدائم عنهما من أجل هؤلاء المنسيين.. هناك خلف القضبان!.
أن ترى الدنيا بقلبك
أجلس فى حالة كونية عميقة، وفلسفية. أحاول التركيز فى كل شئ لاستكشف بحواسى الأخرى (التى ليست من بينها حاسة البصر) ما حولى. تلفنى مشاعر قوية، تهزنى من من أعمق أعماقى. أشعر بالقائد الكفيف مميزاً، عارفا، يحاول تهدئة ارتباكى فى بداية الرحلة، بالتأكيد كان معظمنا فى حالة توتر خلال الدقائق الأولى وهو ينتقل فجأة من نور النهار إلى الظلام الحالك الرهيب، قائدنا الكفيف هو الوحيد الذى يرى فى الظلام ويصف لنا بدقة ورفق ما يجب أن نراه بحواسنا الأخرى ويسألنا ما هذا الذى تراه هنا؟ ما الذى تلمسه، ما الشئ الذى تشمه الآن؟.
تجربة إنسانية مثيرة، عميقة، مؤثرة، ومحفزة كل هذا تعيشه ويتسرب إلى أعماقك فى آن معا. التجربة تلخصها عبارة واحدة «حوار مع الظلام» أو فى أعماق الظلام. ساعة كاملة تتخلى فيها عن حاسة البصر بمحض إرادتك، تجد نفسك فى نهايتها تلج فضاء آخر، وترى أنوارا أخرى لم نرها من قبل نحن المبصرين ولم نعرفها.
«Dialogue in the Dark» هوالبرنامج الذى تجول فى تسعة وثلاثين دولة قبل أن يقام لأول مرة فى مصر تحت رعاية الجمعية الرائدة النور والأمل بالشراكة مع مؤسسة دروسوس للتنمية. الهدف منه هو طرح قضية المكفوفين وإدماجهم فى المجتمع بصورة مختلفة وتناول مبدع خلاق يملك من التأثير ما لا تملكه عشرات المقالات أو البرامج التليفزيونية فى إحداث تغيير حقيقى داخل كل منا فى التعامل مع تلك القضية الإنسانية المشحونة بالشجن والأمل.
ملخص الفكرة هى أن تعيش كفيفا لمدة ساعة من الزمان! بالطبع ليس الأمر بهذا التبسيط، لكنه مشروع ابداعى تم الشغل عليه باتقان وحرفنة. أنت تدخل إلى مكان لا تعرفه، أهم شئ ألا يكون معك أى مصدر للضوء لا ساعة يد أو نظارة شمسية بها فصوص مضيئة. تدخل إلى الظلام الدامس ضمن مجموعة صغيرة (فقط خمسة أو ستة أفراد بحد أقصى) يقودنا جميعا شخص كفيف (كان معنا فى المجموعة أستاذ عباس المهذب المثقف الضحوك المتفائل) وفى يد كل منا العصا البيضاء التى يستخدمها المكفوفون لمساعدتهم فى تلمس طريقهم بأنفسهم.
الرحلة مدتها ساعة مقسمة إلى أربعة أجزاء: الجزء الأول تمر خلاله على مكان مجهز كحديقة بها أشجار وبحيرة وصوت عصافير ورياح خفيفة، ثم تدخل إلى المكان الثانى لتكتشف إنه محلات وبازارات وتمثال لرجل يحمل نظارة على عينيه تستنتج أنه الدكتور طه حسين، بعدها تدخل إلى سوق الخضار وتلمس بيديك البطاطس والقلقاس والباذنجان والبطاطا. وعلى الجانب الآخر تمسك حبات الفاصوليا البيضاء والفول وحبات القرنفل.
فى المرحلة الأخيرة تصل إلى الكافيتريا التى يستقبلك فيها إثنان من المكفوفين شاب وفتاة ويسألونك ماذا تريد أن تشرب؟ ثم يأخذك قائد المجموعة الكفيف ويجلسك فى مكان تنتظر فيه مشروبك بعد الانتهاء من اعداده.
سبحان الله
تجلس لأول مرة فى الظلام لا تزال بعد مرورك بكل المراحل السابقة وتسأل نفسك كيف سيأتون بالمشروبات؟ كيف سيضعونها أمام كل منا؟ وأين يجلس زملاؤنا الآخرون فى تلك الرحلة الغرائبية؟ نسألهم فترد علينا أستاذة نادية قائلة نحن نجلس فى مواجهة بعضنا البعض. أمامنا ترابيزات منخفضة، يأتى الشاب اللطيف حاملا لكل مشروبه، ينادى علينا بالاسم ويخبط خبطتين أمام الشخص الذى جاء إليه بالمشروب حتى يعرف مكان مشروبه.
هؤلاء المكفوفون الذين نتعامل معهم بشفقة فى معظم الأحوال هم ناس أقوياء لا يشعرون بمحنتهم، نحن نشعر بها. لقد قهروا الظلام بباقى الحواس، وتفوقوا علينا نحن المبصرين، ولنا فى العبقرية المصرية المتمثلة فى الدكتور طه حسين أسوة حسنة. إنها تجربة تملؤك بالشجن والامتنان لله على نعمة البصر والنعم الأخرى، الابحار فى فضاءات أخرى من الإدراك والمعرفة.
مقرالمشروع الدائم فى مدينة نصر حى السفارت، مفتوح من اليوم لكل طلبة المدارس والجامعات والناس بشكل عام من كافة الأعمار والجنسيات، فقط عليك الاتصال بجمعية النور والأمل للتنسيق فى المواعيد. وبالطبع الدخول مجانا، وستجد هناك كل الترحيب من بشر فوق العادة فى كل شئ أدب، أخلاق، ذوق، علم، قدرة، وابتسامة لا تفارق وجوههم.
إذا أحببت أن ترى الدنيا فعلا اذهب إلى هناك، ستجد نفسك الحقيقية كما لم ترها أبدا!