يوميات الأخبار

6 أشهر فى مصنع الرجال

عاطف زيدان
عاطف زيدان

«أتوق بعد كل هذه السنوات إلى ذلك المصنع الرائع، الذى يتم بين جنباته، إعداد الرجال على أعلى مستوى من الانضباط والالتزام والوطنية وتحمل المسئولية وتولى المناصب القيادية».

«هنا قضيت أجمل أيام العمر، خلف هذا السور، كم شاركت فى «اختراق الضاحية»، بالجرى لمسافة تقترب من 10 كيلومترات. الصحيان والنوم، بـ «البروجى»، وهو صوت «توت توت توت توت توت توت» الذى يزلزل المكان من قوته، 6 أشهر اعتبرها الأجمل فى حياتى». هذه العبارات أكررها كلما مررت على مصنع الرجال، أقصد الكلية الحربية بمصر الجديدة، لدرجة أن أبنائى حفظوها من كثرة تكرارها، وقد يبادر بعضهم لترديدها، قبل أن أنطق بها، فاضطر للضحك. التحقت بالكلية الحربية فى أبريل ١٩٨١، طالبا بالدفعة 54 ضباط احتياط. كنت أتعطش لممارسة حياة ضباط الجيش. تعلمت فى الكلية، الانضباط وتحمل المسئولية وأصول القيادة. كنا نصحو على «نوبة صيحان». يقوم كل منا خلال دقائق معدودة، بترتيب فراشه، ورش أوراق الورد على جنباته، والاغتسال وتنعيم الذقن. انتظارا لدخول قائدنا وهو من الطلاب المنتظمين فى الكلية الحربية، الذين يصغروننا فى العمر ببضع سنوات، وما أن نسمع كلمة «ثابت أو انتباه»، إلا ويتسمر كل منا فى مكانه. ويمر القائد لتفقد فراش كل منا، وكذا ملابسنا وذقوننا، ويوقع الجزاء على من أهمل فى ترتيب أو نظافة فراشه وملابسه وحلق ذقنه. وينزل الجزاء على المخالف كالصاعقة: «حبس خميس وجمعة» يعنى عدم مغادرة الكلية آخر الأسبوع. ولا يجد المخالف ما يقوله سوى: علم يافندم بصوت عال - بينما يتمزق حزنا من داخله - وفور خروج القائد طالب الحربية، نلتف حول من خضعوا للعقوبة لمواساتهم، كنا ننظر لقادتنا من طلبة الحربية، بإعجاب شديد، فقد كانوا مثالا للانضباط والصرامة والحزم، رغم صغر سنهم، وكنا نرتعد كلما قابلت قائدنا الطالب مصادفة فى الكلية. وأذكر أنه بعد تخرجنا، وقيام كل منا بتعليق النجمة على كتفه. تصادف مرورى بالقائد الطالب الذى كان يقود فصيلتى. فإذا به يؤدى لى التحية بكل جدية، ثم مد يده مصافحا: ألف مبروك يافندم، وهو الذى كان قبل ساعات، نتحاشى مقابلته، ونرتعد من دخوله العنبر. فى أحد الأيام وأثناء تفقد مظهرنا فى طابور الصباح، وقف القائد الطالب أمامى، وسألنى: بتشتغل إيه يا طالب. قلت بفخر: صحفى بالأخبار يافندم. فأعاد تكرار السؤال بصوت غاضب، فتذكرت ما يجب قوله: طالب ضباط احتياط يافندم. ومر الخطأ ولله الحمد، دون عقاب. كانت التدريبات فى الكلية الحربية قاسية علينا. فقد كان أصغرنا فى الثانية والعشرين من العمر. وبيننا أطباء ومهندسون وصيادلة وخريجو تجارة وحقوق وإعلام وعلوم... الخ الخ. وللأسف كان الكثير منا يدخن. وهذا الأمر محظور، بل يعد جرما فى الكلية الحربية. لكننا كنا نتفنن فى تهريب السجائر اثناء عودتنا مساء كل جمعة. وكان الأبرز والأكثر تفننا فى ذلك، زميل لنا اسمه صبرى. كان يفك «رفية» البدلة الرسمية ويضع السجائر بها، ثم يعيد خياطتها أسبوعيا. وكنا نحرص نحن المدخنين على الالتفاف والتودد إلى صبرى لعله يعطف علينا بسيجارة أو اثنتين بعد انتهاء ما معنا من مخزون. بل كنا نشكل فريق مراقبة، و«نخمس» فى السيجارة فى الحمام. فقد كان ضبط أى منا وهو يدخن أو يحمل سجائر أثناء عودته كل جمعة، مخالفة جسيمة عقوبتها قاسية. وقد ساهم ذلك فى امتناع البعض منا عن التدخين تلك العادة السيئة، حتى لا يعرض نفسه لمثل تلك الجزاءات. لقد قضيت وزملاء دفعتى ستة أشهر فقط فى الكلية الحربية، وشتان بين شخصياتنا وحالاتنا البدنية بين دخولنا وتخرجنا. ولك أن تتخيل حالة من يقضى 4 سنوات بين جنبات هذه القلعة الشامخة. لذا أتوق بعد كل هذه السنوات إلى ذلك المصنع الرائع، الذى يتم بين جنباته، إعداد الرجال على أعلى مستوى من الانضباط والالتزام والوطنية وتحمل المسئولية وتولى المناصب القيادية. تحية للقائمين على الكلية الحربية، وكل ضابط صف وجندى، يساهم فى إعداد وتخريج حماة الوطن.
روح أكتوبر
الأحد:
نتحدث كثيرا عن روح أكتوبر، لكن حديثنا، يبدو مبهما، فى عيون الأجيال الجديدة. فأكثر من 80 فى المائة، من أهل مصر حاليا، لم يعيشوا أحداث النصر الأعظم فى تاريخ العرب الحديث، إلا فى بعض الموضوعات المقررة فى المناهج الدراسية، أو الموضوعات الصحفية والأفلام والمسلسلات. من حسن حظى وأبناء جيلى، أننا عشنا تلك الأحداث المجيدة فى تاريخ أمتنا. وتملكتنا جميعا تلك الروح الوثابة، التى تعلى مشاعر الانتماء الوطنى، على ماعداها من مشاعر أخرى، طيبة كانت أو قاسية. فلا صوت يعلو على صوت المعركة، لم يكن مجرد شعار، رفعته حكومة مصر برئاسة الدكتور عزيز صدقى عام 1973، وإنما كان أسلوب حياة، فرضه كل مصرى، على نفسه، بل كل هيئة أو شركة أو مؤسسة عامة وخاصة، إيمانا منا جميعا، بوحدة الهدف، وضرورة إنكار الذات، من أجل تحقيق النصر، وهو ما تحقق فعلا، رغم المؤامرات الغربية، والتحديات الكبيرة التى كانت تواجه البلاد. لم يفكر أحد فى طعامه وشرابه وكسائه وسكنه، وإنما كان كل التفكير مركزا، على توفير أقصى ما يمكن توفيره، من دعم مادى ومعنوى للقوات المسلحة فى حربها ضد الكيان الصهيونى، واسترداد سيناء الغالية، فتحقق ما أردناه. لم يكن النصر الأعظم، نتيجة طبيعية للأداء القتالى المبهر لقواتنا المسلحة فقط، وإنما نتيجة منطقية لتحلى الشعب المصرى ومؤسساته المختلفة وفى مقدمتها القوات المسلحة بروح العطاء الوطنى اللامحدود، أو روح أكتوبر، كما نردد دائما. إنها روح العطاء الممتع المغموس بالرضا وإنكار الذات والصبر والتحدى وإعلاء مشاعر الحب والانتماء.
ما أحوجنا هذه الأيام، لروح أكتوبر، لمواجهة المؤامرات الخارجية، والحرب القذرة، التى تتعرض لها بلادنا، من كل جانب، خاصة فوهات الشياطين الموجهة إلينا، ليل نهار من قطر وتركيا. لهدم ما أنجزناه. فقد حققت بلادنا فى بضع سنوات، ما يشبه المعجزة. شبكة طرق بمواصفات عالية تقارب 4 آلاف كيلومتر. قناة سويس جديدة، أمنت القناة القديمة، وقطعت الطريق، أمام أية محاولات أخرى منافسة، فى دول مجاورة. مشروعات ضخمة لربط سيناء بالوادى والدلتا، من خلال شبكة أنفاق عملاقة، مع تهيئة الظروف لتحويل منطقة قناة السويس إلى منطقة اقتصادية متكاملة، على غرار المناطق الاقتصادية الخاصة التى نقلت الصين من دولة فقيرة إلى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، خلال سنوات قليلة. أما العاصمة الإدارية والعلمين وغيرهما من المدن الجديدة، فالحديث يطول، ويكفى أن نقول هنا، إنه ما من خبير مصرى أو دولى، إلا وقد عاب على الأنظمة المصرية، قبل وبعد ثورة يوليو 1952، تركز خطط التنمية على مساحة 6 فى المائة فقط من أرض مصر. ما يجعل إقامة مدن جديدة مطلبا قديما للخبراء، آن أوان تنفيذه. ناهيك عن مشروعات الإسكان الاجتماعى ومناطق المساكن البديلة للعشوائيات، ومبادرات علاج مرضى فيروس سى والأمراض المزمنة.... الخ الخ.
الحرب علينا لن تتوقف، فى ظل الإنجازات المتتابعة. لكن تحلى كل منا بروح أكتوبر، كفيل بإجهاض هجمات الشياطين، وما أكثرهم فى هذا الزمان.
بطل العبور.. شهيدًا
الثلاثاء:
فى سبتمبر 1981، وبينما نحن طلاب الدفعة 54 احتياط، فى طابور الصباح، بالكلية الحربية، فوجئنا بالعميد محسن نبيه قائد لواء الطلبة، يتفقد الصفوف، وهذا فى عرفنا حدث كبير. وبينما هو يتفقد، يشير إلى أحد الطلبة، فيخرج من الصف، ثم يتخذ وضع «انتباه» وأشار إلى طالب ثان وثالث وهكذا، وعندما اقترب منى، والخوف والترقب يتملكاننى، ولسان حالى يقول: استر يا رب، أشار إلى قائد لواء الطلبة، فتقدمت إلى الأمام. وواصل القائد إشاراته إلى آخرين، الواحد تلو الآخر، ثم طلب منا البقاء فى أماكننا بعد الطابور. وبعد طول ترقب أخبرنا أنه تم اختيارنا للمشاركة فى العرض العسكرى أمام الرئيس السادات، فى ذكرى انتصارات أكتوبر، كممثلين لكلية الضباط الاحتياط، وأن التدريبات سوف تبدأ اليوم، وحتى يوم العرض. وبدأنا تدريبات شاقة حتى جاء يوم العرض. وتحرك الطلاب ممثلو الكليات العسكرية المختلفة بخطوات منتظمة، تعكس القوة والصلابة والانضباط، وما أن وصل دورنا وكنت دليلا لأحد الصفوف، التفتنا إلى المنصة، وأدينا التحية العسكرية، وقعت عينى على بطل الحرب والسلام، للمرة الأولى والأخيرة. وبعد انتهاء مهمتنا ذهب كل منا إلى منزله، وفتحت التليفزيون لمتابعة باقى فقرات العرض، ففوجئت بتلاوة آيات من القرآن الكريم على كل القنوات، عرفت بعدها أن بطل أكتوبر العظيم، استشهد فى يوم عرسه. حزنت بشدة كحال مصر كلها. رحمك الله يا أعظم رجالات مصر. ودمت خالدا فى قلوب المصريين إلى الأبد.
ابن عم الشهيد
فى اليوم الأول لانضمامى كضابط للشئون المعنوية لأحد التشكيلات العسكرية فى الإسماعيلية عام 1981، وبعد حضور أول اجتماع لقائد التشكيل برؤساء الأفرع وقادة الكتائب. أخذنى رئيس العمليات جانبا، وسألنى: انت تعرف الرائد الشهيد عبد الدايم زيدان. بادرته قائلا: طبعا.. ابن عمى. رد والحزن يملأ وجهه: يااااااه. وقال بعد فترة صمت استرجع خلالها ذكريات نصر أكتوبر العظيم: لقد كان الشهيد بطلا مقداما. سألته: هل حضرت لحظة استشهاده. قال: طبعا.. وأتذكرها كأنها حدثت أمس. وحكى لى تفاصيل ما حدث.. وكيف قدم ابن عمى روحه دفاعا عن وحدته. وقال وكأنه يطمئننى بحفظ جميله: إننى أحيى ذكرى استشهاده سنويا فى بيتى. هنيئا لك يا ابن العم بالشهادة وادعوا الله أن تكون مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
آخر كلام
الجمعة:
فتأتى انت يا سينا
أتيتك مسهد العين
ففى الوجدان أشواق..
ليوم فيه تلقينا.
وأحلام تداهمنا..
إذا جئناك تبقينا.
فهبى يا عروس الحلم..
واستبقى أيادينا.