ورقة وقلم

٤٦ عاماً على يوم الثأر والنصر والكرامة رائحة الياسمين.. أبداً لا تزول!

ياسر رزق
ياسر رزق

من عمق سحيق فى ذاكرتى، تطفو أيام حرب أكتوبر، معطرة برائحة الياسمين..!
أعشق الياسمين. أهيم به منظراً وزهراً وعطراً، ربما لأنه يرتبط عندى بمدينتى الحبيبة الإسماعيلية، منذ تفتحت عيناى رأيت شجيراته القصيرة تحوط حدائقها الحزينة، كأنها تحرسها وتحميها من دانات مدافع العدو الرابضة على الضفة الشرقية لقناة السويس، تصب حممها على مدن القناة طيلة 6 سنوات وبضعة شهور.
رائحة الياسمين، آخر ما ودعتنى به الإسماعيلية حينما غادرتها قبل حرب أكتوبر بأسبوع، وأول ما استقبلتنى به حدائقها حينما عدت إليها مع أسرتى عند السماح بعودة المهجرين إلى بيوتهم فى مدن القناة. للمفارقة كان ذلك يوم 30 يونيو عام 1974..!
فى السنوات السبع العجاف ما بين التهجير والعودة، كنت أجىء من مهجرى فى الإجازة الدراسية، لأقضى مع أخى الأصغر بضعة أيام فى مدينتى الحبيبة، بموجب تصريح يستخرجه لنا والدى من العاصمة المؤقتة للمحافظة بمدينة التل الكبير.
كان رحمه الله فى مطلع الثلاثينات من عمره، شاباً متحمساً لثورة يوليو ومفجرها عبدالناصر، لم يفارق قط الإسماعيلية وبقى على خط النار، يتابع ويرسل قصصه الإخبارية إلى نفس الجريدة التى أكتب فيها الآن.
لم تهزمه الهزيمة، وبقى على يقينه بالثأر والنصر القريب، برغم دوى القصف ولهيب النيران وهزيم القنابل، ودماء الأبرياء وأشلاء البشر.
كنت أراه يطل على بحيرة التمساح، ينتظر يوم تعود النوارس، ترفرف على صفحة مياهها الفيروزية وتغرد، وكنت أرافقه يجول فى حدائق الملاحة ذات الأغصان المنكسة، وأسمعه يتحدث عن أمله فى أن يرى الجسور تمتد عبر شاطئى القناة تنقل الرجال والدبابات والمدافع، وفى أنفه تتغلب رائحة الياسمين الآتية من الحدائق، على رائحة الموت الذى يطل من الضفة الشرقية للقناة ويتخفى وراء الساتر الترابى.
كان غرض والدى بسيطاً للغاية، ألا ننسى أنا وشقيقى أن لنا موطنا أجبرنا العدو على الهجرة منه هو الإسماعيلية، وأن لنا قناة أغلقها العدوان الإسرائيلى، وأن لنا أرضا شرق القناة فى سيناء، احتلها العدو ولابد أن يأتى يوم لنحررها، إن لم يكن فى جيله، فهو فى جيلنا.
< < <
لا أنسى إجازتى الأخيرة فى الإسماعيلية فى الأسبوع الأخير من سبتمبر 1973.
تلك الأمسية الأخيرة قبل الرجوع إلى مهجرى، أتذكر تفاصيلها، كأنها اليوم برغم مرور 46 عاماً عليها، وبرغم أنى كنت على أعتاب الثامنة من عمرى.
كنت أسير فى شارع سعد زغلول أمام والدى وأصدقائه الصامدين، أتابع أحاديثهم عن أيام العدوان والذكرى الثالثة لرحيل الزعيم، وعن الرفاق الذين استشهدوا فى حرب الاستنزاف.
بدت لى أصواتهم ذبيحة، تئن نبراتها، ثم تتبدل دون مقدمات إلى بهجة وتتصاعد الضحكات الشابة المجلجلة منهم، حين يأتى ذكر معارك رأس العش وتدمير إيلات وأسبوع تساقط الفانتوم، ثم يتطرق الحديث إلى اليوم المرتقب الموعود حين نحطم أنف العدو وندوس على كبريائه ونحرر الأرض.
كنت أشاهد على حوائط المنازل يميناً ويساراً رسوماً للفنانين الشعبيين تسخر من جولدا مائير رئيسة وزراء العدو وموشيه ديان وزير الحرب الصهيونى، وعلى وقع خطواتى أسمع أصوات «طرقعة» لأوراق الشجر الذابلة التى تفترش الطريق ومعها حبيبات ثمار جافة تساقطت من أغصان الأشجار التى تتعانق خالية من الأوراق فى تلك الأيام من بواكير الخريف.
وبالقرب من شاطئ القناة، وجدت أبى وأصدقاءه يشيرون لى ولشقيقى من بعيد إليها وإلى مرابض العدو على الساتر الترابى، ويقولون لى: سوف نهزمهم، وسوف يعود أبناء القناة.
فى الحقيقة.. لم يكن أشدهم تفاؤلا يظن أن اليوم الموعود بعد أسبوع فقط.
< < <
46 عاماً مرت على اليوم الموعود، يوم الثأر والنصر والكرامة.
فى الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر السبت السادس من أكتوبر عام 1973، التقت 222 طائرة قاذفة ومقاتلة انطلقت من قواعدها على امتداد الأرض المصرية، فى سماء القناة، ثم اتجهت إلى قواعدها على الارتفاع «صفر»، لتقذف قواعد العدو الجوية ومراكز القيادة والشوشرة ومحطات الرادار والصواريخ وتدمرها.
بينما أطلق ألفان من المدافع داناتها على حصون العدو وملاجئ قواته فى تمهيد نيرانى استغرق 53 دقيقة بمعدل 175 دانة فى الثانية الواحدة.
وعلى طول القناة ولمسافة 170 كيلو مترا، عبرت الوحدات والتشكيلات التابعة لخمس فرق من المشاة قناة السويس، على جسور العبور، وفى غضون 6 ساعات كان لنا مائة ألف جندى فى سيناء، يطوقون النقط القوية وحصون خط بارليف ويحتلونها ويتوغلون شرقاً، يدمرن المدرعات المعادية بالمقذوفات الموجهة المضادة للدبابات، لحين عبور التشكيلات المدرعة.
لم يصمد الساتر الترابى أمام مدافع المياه التى أهالت رمال الساتر البالغ ارتفاعه 20 متراً بزاوية ميل 80 درجة، وانشقت فيه الثغرات لتنفذ من خلالها المركبات والمدرعات.
ولم تصمد حصون خط بارليف الذى أقيم خلف الساتر وبعمق 5 كيلومترات أمام الهجوم المصري، برغم أن كل التقديرات كانت تقول إنه يتطلب قنبلة ذرية لتدميره.
لم نفقد فى عملية العبور سوى 174 شهيدا، برغم أن تقديرات الخبراء الروس كانت تقول إن الخسائر قد تصل إلى 20 ألف مقاتل.
لم تطلق مواسير النابالم تلك المادة الحارقة التى تشتعل فى المياه جحيمها على القوات العابرة، لأن عناصر الصاعقة البحرية نجحت فى إغلاق فوهاتها فجر يوم العبور.
وانطلقت صواريخ الدفاع الجوى المصرية تحمى الجبهة والمدن المصرية من الغارات المعادية، ولتصدر قيادة سلاح الجو الصهيونى رسالة مفتوحة لطياريها تحذرهم من الاقتراب لمسافة أقل من 15 كيلومتراً من الضفة الشرقية للقناة خشية الإسقاط بالصواريخ المصرية.
< < <
انتصر الجيش المصرى نصراً مؤزراً، فى تلك الحرب المقدسة التى شنها بالتنسيق والتعاون مع الجيش السورى على جبهتى سيناء والجولان.
حطم المصريون نظرية الحدود الآمنة الإسرائيلية، ومعها أنف الغطرسة الصهيونية، وأذلوا العدو وقادته وساسته على رمال سيناء.
عاد أبناء القناة إلى مدنهم وأعيد افتتاح قناة السويس.
استكملت السياسة تحرير باقى سيناء بالتفاوض، فى 25 ابريل 1982، ثم بالتحكيم على منطقة طابا فى 19 مارس 1989.
كان النصر حليف المصريين البواسل، وعلى رأسهم القائد الأعلى الرئيس الراحل أنور السادات، ورجاله الأبطال بدءا من المشير أحمد إسماعيل على القائد العام للجيش المظفر وحتى أصغر جندى خاض المعركة.
< < <
هذا الجيل من أبناء وأحفاد جيل أكتوبر، لم يسمع صفارات إنذار تنعق فى سماء البلاد، تحذر من غارات معادية.
لم تصطدم عيناه بسواتر الجدران تسد مداخل المنازل، لتقى البيوت من شظايا القصف والرصاص المنهمر.
لم تلصق أوراق «الجلاد» الأزرق على نوافذه ومصابيح الإنارة فى منزله لمنع نفاذ اشعة الضوء إلى الخارج، فترشد الطائرات المعادية إلى وجود منازل وسكان.
لم يضطر إلى التدافع هلعاً على سلالم المنازل، للهبوط إلى المخابئ والملاجئ، للنجاة من قصف الغارات الجوية.
هذا الجيل لم يعش أيام الرعب تلك، ولا أيام الحزن على الأرض السليبة، ولا سنين تجرع المرارة وأنين الكرامة.
الفضل كل الفضل لجيل أكتوبر، القادة الذين خططوا وأداروا أعمال القتال، والضباط الذين قادوا التشكيلات والوحدات والصف الذين قاتلوا ببسالة منقطعة النظير، والجنود الذين عاشوا على الجبهة أكثر من 7 سنوات، يرهنون مستقبلهم ويبيعون شبابهم وأعمارهم رخيصة فى سبيل الثأر والنصر والكرامة.
الفضل لمن قضى نحبه منهم واستشهد فى المعارك أو لقى ربه بعد ذلك بشهور أو سنوات، ولمن ينتظر منهم، ومابدلوا تبديلا.
< < <
اليوم.. أقف أمام شاطئ القناة مع من يشاء أن يقف معى، عند ربوة المعدية رقم (6) بالإسماعيلية الحبيبة.
لم يعد هناك الساتر الترابى الذى تعتليه قوات العدو ودباباته. إنما صارت مكانه القناة الثانية والجزيرة المحصورة بين القناتين.
لم يعد ثمة أثر لخط بارليف، فهناك الإسماعيلية الجديدة، ببناياتها الجميلة وفيلاتها الرائعة ونواديها البديعة وحدائقها النامية. هذا الحلم الذى عاش أبناء الإسماعيلية قرابة 45 عاماً يتوقون إليه بعد حرب أكتوبر، وأخيرا جاء أوانه.
لم تعد سيناء معزولة عند الوادى.
فى شمال الإسماعيلية.. نفقان
وجنوب بورسعيد.. نفقان
وشمال السويس.. نفق جديد بالإضافة لنفق الشهيد أحمد حمدى نائب مدير المهندسين الذى استشهد أمام شاطئ القناة.
بجانب كوبرى السلام عند القنطرة وكوبرى الفردان للقطارات شمال الإسماعيلية.
شجيرات الياسمين مازالت تحوط حدائق الإسماعيلية وتنمو حول حدائق الإسماعيلية الجديدة شرق القناة، تملأن أجواء المدينتين والقناتين بهذا العطر الفريد، الذى ينساب مع نغمات السمسمية، يوقظ الفؤاد وينعش الوجدان ولا يغيب عن الذاكرة ولا يزول.
< < <
فى العيد السادس والأربعين لنصر أكتوبر وفى كل عيد علينا أن نتذكر دوما أن الغفلة هى بوابة الهزيمة، وأن الضعف مفتاح العدوان.
وهذا الجيل من أبناء جيل أكتوبر، من القادة والرجال البواسل، أقسم على ألا يتكرر عدوان 1967، وعلى أن يبذل الروح والدم والعرق فى سبيل صون كل ذرة رمل من تراب مصر وحماية مكتسبات النصر والسلام.
علينا أن نتذكر دائما أنه لولا فى مصر جيش وطنى قوى، ما دام السلام طيلة أربعين عاماً، وما بقيت الدولة المصرية صامدة فى مواجهة محاولات التخريب والتطويق والإسقاط، ولولا حرص القيادة السياسية على أن تمتلك قواتنا أحدث طائرات القتال والقطع البحرية ومنظومات الصواريخ الدفاعية وأسلحة الردع، لصارت مصر لقمة سائغة للأعداء والطامعين.
تحية لرجال القوات المسلحة الشجعان البواسل على مر الزمان، والمجد للشهداء، الذين يرقبون ما يجرى على أرض مصر سعداء فرحين بما أتاهم الله.