في ذكرى رحيله:

تقرير خاص| قدوته وأمنية لم يحققها.. كيف كانت حياة «محمد الدرة» قبل استشهاده؟

الشهيد محمد الدرة
الشهيد محمد الدرة

«لا تخف يا أبي».. آخر كلمات محمد الدرة لوالده قبل استشهاده

محمد الدرة حفظ من كتاب الله قبل استشهاده

«الدرة الصغير» تمنى أن يكون ضابطًا.. وقدوته كان ياسر عرفات

 

تغيب الشمس وتشرق إيذانًا بالفلق كل يومٍ، لكن ثمة أشخاصٍ لا تغب شمسهم أبدًا، فيبقون محفورين في الوجدان، وعالقين بالأذهان، حتى بعد رحيلهم، ومرور الأيام والأزمنة على فقدانهم.

في هذا الكون، هناك أناسٌ طعنوا في السن وبلغوا من العمر أرذله، وماتوا دون أن يدري بهم أحدٌ إلا ذويهم.. وهناك من اختاره الله للموت كي يخلد اسمه في هذه الدنيا، ويظل اسمه حاضرًا ويردد على الألسنة أبدًا ما حيينا.

ومن هؤلاء كان محمد جمال الدرة، الذي رحل عن عالمنا قبل تسعة عشر عامًا برصاص الغدر الإسرائيلي، تاركًا جرحًا غائرًا في النفوس، لا يندمل أو ينضب مع مرور السنين، واليوم تحين ذكراه التي لا تُنسى.

محمد الدرة لم يعش في هذه الحياة إلا بضع سنين، لكنه ظفر بالخلود في ذكرى الفلسطينيين، هو يحيا بداخلنا إلى الآن، وأيقونة فلسطينية تظل يُضرب بها المثال في تضحية أطفال فلسطين، وشبحٌ يوشي على جرائم الاحتلال ويعري وحشيته أمام العالم إلى الآن.

لم يهنئ الصغير كثيرًا تحت أشجار الزيتون، لم تطأ أقدامه ثالث الحرمين فتلمس جبهته ساحة المسجد الأقصى، لم يلهُ ويلعب مع الصبيان في شوارع فلسطين، وبدلًا من أن تحمل يده الورود في صباه كان يحمل الحجارة دفاعًا عن أرضٍ سلبها المحتل قبل أن يولد هو بأربعين عامًا.

لم يسلك الخوف لقلبه بابًا، فآخر كلماته لأبيه وطلقات الرصاص تغدق من حولهم وابلًا ''لا تخف يا أبي''، فقضى نحبه في حضن أبيه شجاعا، لقى جوار ربه بقلب سليم، ذلك هو محمد الدرة، الطفل الذي سالت دماؤه في أحضان أبيه وروت تراب أرض فلسطين، يوم الثلاثين من سبتمبر عام 2000.

ونصحبكم اليوم في ذكراه في رحلة في حياة محمد الدرة القصيرة، التي لم تتجاوز حاجز الاثني عشر عامًا، لكنها كانت كافيةً ليبقى في قلوب أهله وكل العاشقين لتراب فلسطين.

ويأخذنا جمال الدرة، والد الشهيد محمد الدرة، في حديثٍ يروي فيه ومضاتٍ من حياة نجله الشهيد، فيقص علينا أنه تلقى تعليمه في المدرسة الابتدائية جيم داخل مخيم البريج، والتي كانت تبعد عن المنزل 300 مترٍ.

حفظه من القرآن

ويقول جمال الدرة "في صغرنا في كل مدارسنا من الروضة تكون البداية بتعاليم الأطفال القرآن الكريم، ومحمد الدرة كان حافظًا لكثير من السور من كتاب الله قبل استشهاده، كحالنا جميعنا نحفظ آياتٍ من كتاب الله".

ومع ذلك، لم يزر المسجد الأقصى طيلة حياته، حسبما ذكر والده، وذلك "لأن المسجد كان بعيدًا عنا بمسافة 100 كيلو متر، كما أنه لم يكن يُسمح من قبل سلطات الاحتلال بزيارة المسجد إلا بتصريحٍ من هذا الكيان الصهيوني".

هوايات محمد وتطلعاته

ويكمل جمال الدرة حديثه قائلًا "كنا نحتفل بمناسباته الخاصة كأعياد ميلاده.. العائلة كانت تجتمع وأصدقاء محمد كذلك.. وكنا نأتي بالكعكة، أو كما تسونها في مصر "التورتة"، ونحتفل وبالشموع والبالونات وكانت فرحة كبيرة".

ويمضي قائلًا "وعن الرياضة.. كان محمد يعشق رياضة السباحة، ويقوم بالسباحة في البحر، وبالطبع كذلك كرة القدم.. وكان يشجع نادي خدمات البريج".

وتحدث والد محمد الدرة عن أن أمنية نجله حينما يكبر كانت أن يصبح ضابطًا كبيرًا كي يحرر وطنه من الاحتلال.

ولكن القدر لم يمنح محمد الدرة الفرصة كي يحقق تلك الأمنية، لكن برحيله، الذي بكى له كل من في قلبه إنسانية أوصل رسالةً عن وحشية المحتل، فكانت أقوى دفاعٍ وتقويةٍ لموقف فلسطين في العالم بأسره.

مواقف مؤثرة

وعن أكثر المواقف المؤثرة في حياة محمد الدرة والعالقة بأذهان والده، يقول جمال الدرة، "كل مواقف محمد كانت مثالية وعالقة، ولكن أكثر ما أثر في إلى الآن ولا زلت لا أستطيع أن أنسى أو أتناساه، عندما قال لي ونحن يُضرب علينا النار بكثافة "لا تخف يا أبي.. لا تخف يا أبي"، وأخذ يكررها وقتها".

ويضيف والد محمد الدرة "مواقف محمد في حياته كانت كثيرة جدًا.. كان شجاعًا وكان ذكيًا للغاية، وكان يجلس مع الأكبر منه سنًا بعدة عقود، وكان يجلس معهم كأنه من سنهم".

ويشير الدرة الأب إلى أن محمد كان كريمًا وكان شهمًا، وكان لا يجب لأي إنسانٍ أن يعتدي على أي إنسانٍ آخر.

وعن قدوة محمد الدرة في حياته من الزعماء الفلسطينيين كان الرئيس الراحل ياسر عرفات، حسبما ذكره والده في حديثه لـ"بوابة أخبار اليوم".

مقعده الشاغر في الفصل

وبعد وفاته، كانت مدرسته الابتدائية جيم بمخيم البريج تتشح بالسواد، ويخيم على أقرانه الحزن على فقدان رفيق دربهم محمد الدرة.

ومن أكثر المواقف الإنسانية في ذلك، أن مقعده في الفصل ظل شاغرًا، منحوتًا عليه صورته، في موقفٍ جسد كل معاني الحب والوفاء.

زيارته في قبره

ومع مرور الأيام والسنين يبقى محمد الدرة حيًا في قلوب أهله وأحبابه، يلتمسون ريحه عند قبره الذي دُفن فيه بالقرب من المخيم الذي وُلد فيه.

ويقول الدرة الأب "إن الأسرة عادةً ما تذهب إلى هناك لزيارة محمد كل فترةٍ وأخرى وخاصة يوم الاثنين ونذهب أيضًا إلى المكان الذي تم إطلاق النار علينا فيه وتم استشهاد محمد فيه".

محمد الدرة حيٌّ فعليًا في أهله

ولكن المولى عز وجل أراد أن يربط على قلب والد محمد الدرة وأمه، فبعد وفاته، أنجبت أمه ولدًا، أطلقا عليه اسم محمد، ليظل محمد الدرة حيًا في الأرض، بمحمد الثاني، وفي السماء بمحمد الدرة الأول، يستبشر بمن يلحق به من خلفه ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.

ويشكر جمال الدرة المولى عز وجل أن أنعم عليه بمحمد الدرة الثاني، الذي عوض به فقدانه لمحمد الدرة.

وفي ختام حديثه لـ"بوابة أخبار اليوم"، ترحم جمال الدرة على كل شهداء فلسطين والعالم العربي، ووجه رسالته للأمهات الثكلى "بألا يحزنوا فإن شاء الله سنلتقي بهم مرةً أخرى في جنات الخلد".