يوميات

الحياة بين الحقيقية والحكمية

يكتبها اليوم : د. مبروك عطية
يكتبها اليوم : د. مبروك عطية

يكتبها اليوم : د. مبروك عطية

هم فى حكم الأحياء، لأنهم يتنفسون، ويتحركون، لا يسكنون كما يسكن الموتى فى قبورهم، ولكنهم أموات.

السبت:
الحياة الحقيقية أن نعيش مستمتعين بنعم الله تعالى، كما قال: «كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين» أى منعمين، وقال سبحانه: «لقد كان لسبأ فى مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور»، وقال جل وعلا: «فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» وقال تبارك اسمه: «وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فأذاقها الله لباس الجوع والخوف» وقال تبارك وتعالى: «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها»، وقال جل وعز: «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون» وما أكثر الآيات التى تتحدث عن مقومات الحياة الحقيقية، التى منحها الله عز وجل عباده، وأمرهم أن يشكروه ليزيدهم منها: «وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد».
هذا فى الجانب المادى، وهناك الجانب المعنوى، وهو يساوى الجانب المادى فى الكمال البشرى، الذى يتمثل فى الحياة الاجتماعية السوية، وحسن العشرة، والتعاون على البر والتقوى، والعدل، والإحسان، وقبول الآخر، والتعامل معه لتحقيق المصالح المشتركة، وحسن الجيرة، والألفة والمودة والرحمة بين الأزواج والذرية، وإيثار السلام، وتزكية النفوس، والحياة الحقيقية محققة للفقير، كذلك ضل، فله حق لا فضل، فى مال الأغنياء: «والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم» فلا يشقى فقير بين أغنياء، ولا ضعيف بين أقوياء وإنما كان فى الحياة غنى وفقير ليعينَ بعضهم بعضا على تحقيق حياة جميلة؛ إذ لو كان جميع الناس أغنياء لما وجدوا سائقا ولا خادما ولا طباخا، ولو كانوا جميعا فقراء لقتل بعضهم بعضا، من أجل لقمة يسيرة يراها بعضهم فى يد بعض، «يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن» وفى سورة الحجرات نفسها يقول ربنا تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» فجعل معيار التفاضل بين عباده التقوى لا المال، ولا العرق، ولا الجاه، حتى يخشى بعضنا بعضا، ويرجو بعضنا دعاء بعض، ويحسن بعضنا الظن فى بعض، لاحتمال أن يكون بعضنا عند الله أفضل، ومن ثم فلا سب ولا شتم، ولا سخرية، ولا استخفاف؛ لاحتمال أن يكون المسخور منه أو المستخف به أفضل، والتقوى محلها القلب، ولا أحد يطلع على ما فى القلب إلا الله عز وجل، ونستطيع أن نقول إن الحياة الحقيقية التى خلق لها الإنسان حياة تتوفر فيها مقوماتها المادية والمعنوية.
وهذا لا يعنى أنها صفو دائم، ونعيم مقيم، بل يعتريها من الابتلاء ما هو امتحان للناس، يصبرون، ولكن حتى يحكم الله، ويزلزلون ولكن حتى يأتى نصر الله، ويبشرون بوعد غير مخلوف بالنصر والفرج القريب، أما أن يعيش الناس بلا مقومات أعمارهم، ولا يجدون فى الصبر سعة، ولا عند أحد من رحمة، وإنصاف، فتلك حياة حكمية، أى هم فى حكم الأحياء، لأنهم يتنفسون، ويتحركون، لا يسكنون كما يسكن الموتى فى قبورهم، ولكنهم أموات.
أسباب الحياة الحكمية
الأحد:
ومن كان حيا حياة حكمية غير حقيقية عليه أن ينظر فى أسبابها، وأهم تلك الأسباب سلوكه مع الحياة التى تدعوه بإذن ربها إلى أن يعيش حقا، فلا يقولن أحد إن الله أراد له ذلك، فالله لا يعذب عباده، ولم يخلقهم ليفتقروا، ثم يزدادوا فقرا، وإنما خلقهم للحياة الحقيقية، والابتلاء استثناء، وقدر، يطهرهم به، ويخلف عليهم من بعد بما أخلف به على المسلمين الذين حوصروا فى شعب بنى هاشم ثلاثة أعوام، أكلوا خلالها ما لا يؤكل، وأجهدوا فيها، كانوا فقراء؛ فأغناهم الله، وكانوا قلة فكثرهم الله، وفى ذلك يقول الله لهم: «واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون» ومن هذه الآية أقول: إن الفقر والحرمان فى حياة المسلمين ينبغى أن يكون من وادى الذكريات، لا أساسا يعيشون فيه، ظلم الإنسان نفسه؛ فلم يعمل، ولم يتوكل، بل نام وتواكل، وآثر الدعة والراحة حيث لا تعب على الجهد والعرق، والضرب فى شعاب الأرض، والله عز وجل من أجل هذا البحث عن رزق أوسع، وعيش أرغد شرع الفطر فى رمضان، وقصر الصلاة الرباعية، والتخفيف فى قراءة القرآن، قال فى خاتمة سورة المزمل: «فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله» فأصر الناس على الشدة، وآثروا البقاء فى أحضان أهليهم، ورأوا أن ختم القرآن خير من الدنيا وما فيها، وكأن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، وابتلى الناس بالمفاهيم الخاطئة لكثير من قضايا الدين والحياة، فمنهم من زعم الكرم إسرافا، وإنفاق جميع ما فى الجيب سبب لجلب ما فى الغيب من خير وفير، فقالوا: اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب، ورأوا القناعة تعنى الرضا بالقليل، مع توفر الطاقة والقدرة على مزيد من العمل، نام سائق التاكسى قائلا بعد أن توفر له طعام يومه وأسرته: عشت كده، ثم تولى مدبرا إلى بيته، فأكل ونام، حتى إذا انخفض هواء إطار فى سيارته لم يجد فى جيبه بضعة جنيهات يعطيها من يزيده هواء، فقد أنفق ما رزق به، وهو يتوهم أنه سعيد، لأنه أسلم أمره إلى الله، ورضى برزق يوم بيوم، وإن حدثته عن تصاريف غده قال لك هذه العبارة الشائعة: أما يجى بكرة يحلها ربنا، يا عالم، مع أن ربنا حلها، فى قوله: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما» وفى قوله تعالى: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا». كيف لقارئ القرآن الكريم أن يقول قولا على خلاف قوله، وقد قال ربنا تعالى: «فبأى حديث بعده يؤمنون»! إن مسئولية الخطاب الدينى أن يصوب تلك المفاهيم الخاطئة التى صارت معششة فى قلوب كثير من الناس، تلك المفاهيم صارت كالأمثال لا تغير، ويتناقلها كل جيل عن جيل، حتى باتت راسخة، تسر الشياطين، وتحزن المؤمنين، أفلا يرون إلى قول الله تعالى: «وجاهدوا فى الله حق جهاده» ومعناه: بذل جميع الطاقة فى العمل الذى يحقق عائده معنى الحياة الحقيقية، وفى قوله تعالى: «فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب» أى كلما فرغت من عمل فاتعب فى عمل جديد، لأننا كما قال الشاعر:
نروح ونغدو لحاجاتنا.... وحاجات من عاش لا تنقضى
وطالب العلم يجعلنا فى مأساة عليه ولا يبالى هو بمأساته، حيث لا يقبل على طلب العلم على الوجه الذى ينبغى، لا يعتكف على كتبه اعتكافا يحقق بينه وبينها علاقة لزوم، كى يخرج من أعماقها درر النفع، وآى الإبداع، إنه مثل سائق التاكسى، والعامل الذى رضى بدراهم معدودة قائلا: هذا رضا، ونعمة من الله، حتى إذا أصبح عليه صباح الحاجة لم يجد له نورا، ولم يبصر فى أفقه شعاعا، ولم يعثر على خير إلا كلمات عزاء لا قوة فيه، من نحو: تلك إرادة الله، وأنا راض بما قسم لى، والرزق بيد الله، وساحة الله براء من هذا الافتراء البين، والظلم الكبير، فالله عز وجل يقول: «اعملوا»، والنبى  لم تكن له راحة، وقد حفظنا تورم قدميه شكرا لله أن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أى من قيام الليل، ولم نحفظ أنه عمل بيديه، وجاهد فى سبيل الله بماله ونفسه، قال تعالى: «لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون» فقد جاهد  قبل المؤمنين بماله ونفسه، وحفظنا تورم القدمين من قيام الليل، وانصرافنا عن جهاده أدى بكثير من الناس لا سيما الشباب أن قيام الليل - وهو سُنه - مقدم على العمل وهو فريضة، وفى ذلك خلق أمة تعيش حياة حكمية لا حقيقية، حياة يرضون فيها بالدون من الطعام والشراب والمسكن، وبالدون من التعامل، فيرضون بالذل فى الحل والترحال، إن كان ثمة ترحال.
فى ظلال الحياة الحقيقية
الإثنين:
وقد وجدنا الفتية الذين آمنوا بربهم؛ فزادهم الله هدى، بعد أن بعثهم الله من رقادهم يقول بعضهم: كم لبثنا؟ فكان الجواب : لبثنا يوما أو بعض يوم، ولم يكن غير خاتم الكلام فيما لا يعلمون، وهو: «ربكم أعلم بما لبثتم» ثم اتهموا بما يعلمون، فقالوا: «فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذن أبدا»، قالوا: ايها أزكى طعاما، أى أحله وأطيبه، لم يقولوا فليأتكم بأية لقمة والسلام كما نقول جميعا فى هذا الزمان، ولست أدرى من جئنا بأى؟ أى طعام، وأى حاجة، وأى كلام، وأى ملبس، وأى دكتور إلى آخره ؟؟
إن طعام المسلمين ينبغى أن يكون أزكى طعام، ورأيهم ينبغى أن يكون أرشد الآراء؛ لأنهم يتبعون قرآنا قال الله فيه: «إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم» وينبغى أن تكون حياتهم على الجملة خير حياة؛ لسبب واحد أنهم يعملون، ويتقنون ما يقدمون من عمل، وعلى ربهم يتوكلون، والمتأمل فى جوانب قصة أصحاب الكهف يجد أن الفتية لما وجدوا حديثهم عن زمن اللبث فى الكهف، وكان ذلك غيبا لم يعط أحدهم سوى سؤال واحد، أى لم يكن الكلام فيه إلا جملة واحدة بخلاف كلامهم فى الواقع البين، أن يبعثوا أحدهم بمالهم الذى صحبوه فى هجرتهم، وأن يأتيهم بأطيب طعام، وأن يتلطف فى حركته، حتى لا يشعر بهم أحد؛ لأنهم لو غلبوهم ما رحموهم، ولى وقفة حول قوله تعالى: «ولا يُشعرنَّ» بضم الياء دون فتحها، فالأحد لن يشعر بهم إلا إذا أشعره صاحبهم، تستطيع أن تمشى، ولا يشعر أحد بك، وتستطيع أن تمشى ويشعر كل أحد بك، وأنت السبب فى شعوره بك، بمخالفة ملبسك، وانحراف خطوتك، وارتفاع صوتك، وكأنك تناديه بلسان حالك قائلا له: أنا هنا، ألا تشعر بى، وبمثل هذا الكلام أقول لكل امرأة تأبى أن يتحرش بها ذئب مريض القلب، أقول لها: لا تقولى لمثله أنا هنا بمشيك، وملبسك، ورنات صوتك، وخضوعك بالقلب، وبمثل هذا الكلام أقول لكل أمرئ يريد أن يغنى دون أن يشعر به أصحاب العيون المريضة، كن كالطيف فى مرورك، ولا تستعرض بنعمة الله عليك، ألا ترى إلى قول بعضنا ونحن فى زمان التجسس العينى الجهور، والتأويل الفاسد: فلان يدخل ويخرج، ولا أحد يحس به، فاسأل نفسك لماذا يقول الناس هذا؟ لأنه لا يدب دبيبا، ولا يسمع الناس قوله فى هاتفه لمن يهاتفه: أنا خارج بعد ربع الساعة، نحن فى حاجة إلى حياة حقيقية.