يحدث فى مصر الآن..

سيرجى كيربيتشينكو.. وداعاً

يوسف القعيد
يوسف القعيد

رحل عن دنيانا مؤخراً، وبطريقة غامضة قبلها العقل بصعوبة. مع أن الموت يشكل أكبر غموض ينهى حياة الإنسان على الأرض. رحل سيرجى كيربيتشينكو، سفير روسيا فى مصر. عرفت من شريف جاد، مدير المركز الثقافى الروسى، أنه شعر ببعض الآلام، فدخل أحد المستشفيات الخاصة. وفى المستشفى توفاه الله. وكان فى الثامنة والخمسين من عمره. وتم نقل جثمانه إلى بلاده ليدفن هناك. وأقامت السفارة الروسية -دون إعلان- يومين لتدوين العزاء فى دفتر بالسفارة.
جاء سيرجى إلى مصر سنة 2011، وظل سفيراً لبلاده ثمانى سنوات. وعلمت فى الأيام الأخيرة أنه كان مرشحاً لمنصب مهم فى وزارة الخارجية الروسية. لكن الموت سبق الترشيح. أو ألغى الترشيح. وأنا أكتب عنه لأنى رأيته صبياً فى بيت عائلته فى موسكو. عندما زرتهم فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى. وكانت له شقيقتان. ولاحظت أن البيت يتكلم العربية. يوم زيارتى لهم كانت فاليريا تترجم رواية: أولاد حارتنا، لنجيب محفوظ. قضيت معظم الوقت فى الرد على استفسارات الابنتين وأمهما عن بعض تعبيرات نجيب محفوظ شديدة المصرية. فقد ولدوا جميعاً فى مصر وقضوا طفولتهم فيها.
لا أنسى لحظة أن شاهدت صورة والد السفير وهو يترجم بين جمال عبد الناصر ونيكيتا خروشوف، فى أحد لقاءاتهما. كانت موضوعة فى مكان بارز. واهتمامى بالعائلة وزيارتى لها يعود إلى فاليريا كيربيتشينكو، المستعربة الروسية التى لولاها ما عرفت بلاد الروس الأدب المصرى والعربى الحديث مترجماً إلى اللغة الروسية. ومنشوراً عندهم فى زمن الاتحاد السوفييتى التى لم تبق منه سوى الذكريات. وقد حدثنى عنها كثيراً الدكتور أنور إبراهيم، المترجم المصرى من الروسية إلى العربية ومن العربية إلى الروسية.
لها كتاب مهم عن يوسف إدريس، كان فى الأصل رسالتها للحصول على الدكتوراه. وقبل يوسف إدريس اهتمت كثيراً بطه حسين، ونجيب محفوظ، وجمال الغيطانى. ترجمت لى ثلاث روايات: الحرب فى بر مصر، يحدث فى مصر الآن، أخبار عزبة المنيسى. نشرت كل واحدة فى كتاب. ثم بعد نفاد الطبعات تم جمع الروايات الثلاث فى مجلد واحد. ونشرتها فى موسكو. ولكن الأعمال التى ترجمتها بعد ذلك، وكان الاتحاد السوفييتى قد أصبح روسيا. وانتهت أسطورة النشر الذى تقوم به الدولة. لم تجد من ينشر لها الأعمال التى ترجمتها للأدباء العرب فى موسكو.
رحلت عن عالمنا قبل عامين. وكانت دائمة الحضور لمصر. تحضر المؤتمرات الثقافية. وآخر زيارة لها اعتذرت عن الضيافة المصرية وأقامت فى بيت ابنها السفير. الذى رحل أيضاً عن عالمنا مؤخراً. ويجب أن نتذكرهما معاً، والدور الذى قاما به فى خدمة العلاقات المصرية السوفييتية. ثم العلاقات المصرية الروسية الآن.
كان سيرجى نقيض والدته فاليريا. فهى كان لها حضور مشع. تتحدث كان حديثها لا بد أن يتم بالعربية المكسرة. وكانت تتعمد إلقاء النكات المصرية التى تكون أول من يضحك عليها. أما ابنها سيرجى، فقد كان صموتاً. يشع من وجهه حزن عميق كأن حزن السنين ترسب فيه. وإن ابتسم فيكون قد اغتصب الابتسامة وأجبرها على أن تبدو على شفتيه.
رحمهما الله رحمة واسعة.