بالشمع الأحمر

الأرقام تفقد براءتها!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

 يُفترض أن تكون الأرقام حيادية، لأنها تقدم معلومات خالصة، وقد ظلت بالفعل محتفظة بتلك السمة الجوهرية، حتى نجحت ألاعيب البشر فى سلبها أعز ما تملك.. وهى البراءة! عبر تعامل سطحى لا يخلو من أغراض، فاستدرجها البعض إلى استنتاجات تقترب أحيانا من حافة السذاجة، لأنها تفتقر إلى الدقة، وتفتقد الحد الأدنى من الجهد المطلوب لتحليلها.
الاستنتاج السابق نتاج متابعة سنوات طويلة، لأسلوب تعامل الكثيرين مع الأرقام، التى يستخدمها الباحثون عن الأضواء لإثارة شهية الإعلام، دون أن يجدوا من يتصدى لهم، مما جعل الممارسات نفسها تتكرر بشكل موسمى، ولإثبات ذلك أسوق مثالين فقط.
عقب عطلة عيد الأضحى التقط البعض تقريرا مصرفيا، أكد أن المصريين سحبوا من البنوك ٣١٫٥ مليار جنيه خلال ثلاثة عشر يوما، تدور فى فلك الاحتفال بالعيد، وخرج من يُنظّر ليؤكد أن ضخامة المبلغ تُثبت أن المصريين بعيدون عن خط الفقر. ويمكن أن يكون الاستنتاج السابق مبعثا للشعور بالزهو، فالثراء نعمة تستحق الفخر، بشرط أن يكون التحليل قائما على منطق صحيح، غير أن من تبنوه لم ينتبهوا إلى أن المبلغ السابق يتضمن المُرتبات والمعاشات الشهرية، أى أن المواطنين صرفوا مستحقاتهم وفق المعدلات الطبيعية. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبمجرد زيارة سريعة إلى الآلات الحاسبة، ستتضح لنا حقيقة غائبة، لأن قسمة المبلغ الضخم على عدد المواطنين يشير إلى أن نصيب الفرد منه لا يتجاوز 315 جنيها، وهو ما يعنى جنيهات قليلة يوميا، إذا تم تقسيمها على أيام الشهر، دون أن نضع فى الاعتبار مصروفات العيد الإضافية، وعلى رأسها تكلفة الأضاحى التى يتحملها الراغبون فى أداء هذا المنسك الدينى.
الأمر نفسه حدث فى رمضان الماضى، حيث خرج موقع إلكترونى لجريدة شهيرة، بتحليل لثقافة استهلاك المصريين. كان سياق التقرير يميل إلى انتقاد مبالغتهم فى تحضير الموائد. ولكى يُثبت كاتب الموضوع وجهة نظره، أشار إلى أن المصريين استهلكوا فى الأسبوع الأول وحده، نحو 2،7 مليار رغيف. الرقم يبدو مخيفا بالفعل، ويوحى بأن شراهة المصريين تفوق المُعدلات الإنسانية الطبيعية، رغم أن استخدام نظام القسمة نفسه، سيجعلنا أمام موقف نقيض.
فى العام الماضى ذكرت إحصائية للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، أن عدد الأطفال تحت سن الأربع سنوات يدور فى فلك 13 مليونا، إذا افترضنا لمزيد من المبالغة أن كلهم رُضّع لا يأكلون الخبز، يتبقى 87 مليون مواطن يعتبرون «رغيف العيش» جزءا أساسيا من وجباتهم، وبعملية حسابية بسيطة نكتشف أن متوسط نصيب كل فرد أربعة أرغفة ونصف يوميا، أى أقل من نصيبه الذى حددته الحكومة على بطاقات التموين، وهو ما يمتد بالتأكيد إلى بقية السلع، ومنها كميات الدجاج المهولة التى تؤكد التقارير التهامها خلال الشهر الكريم، لنكتشف أن نصيب الفرد لا يتجاوز ربع دجاجة يوميا.
الغريب أن هواة العبث بالحقائق يتجاهلون أرقاما أخرى أولى بالعناية، فلم يهتم واحد منهم مثلا برقم ذكره الكاتب الصحفى مصطفى بكرى، عن إنفاق المصريين 210 ملايين جنيه على حفل جينيفر لوبيز! والرقم الأخير تحديدا لا يقبل القسمة على عدد السكان، لأنه رغم ضخامته يخص فئة محدودة، ويستحق الكثير من التأمل.
المشكلة من وجهة نظرى لا تتمثل فى سذاجة التحليلات لكن فى دلالتها، فهى تشير إلى تراجع الرغبة فى التحليل الموضوعى، وليت الأمر يقتصر على مسحوبات المواطنين وطعامهم، لكن المأساة أن غياب المنطق يهدد كل مناحى الحياة.. وهذا مكمن الخطر الحقيقى.