صدى الصوت

أحمد رجب.. مصارع اليأس!

عمرو الديب
عمرو الديب

جراحة من نوع خاص، استطاعت أنامله المرهفة أن تتقنها، ولا تمل من إجرائها صباح مساء، فالموجوعون كثيرون، وضحايا الألم ينتشرون، والحشود تبحث عن بلسم للجروح، وتكد فى السعى كى تلقى دواء يسكن أوجاعها، ويخفف عنها أحزانها، وبقلمه الأخاذ برز ذلك البارع فى الأفق، وكأنه ذلك الذى تفتقده الليلة الظلماء، وتبحث عنه الليالى المسهدة الكئيبة، وتناديه الآلام المزمنة، والأوجاع المقيمة المنهكة، فتلقته الحشود الظامئة وكأنه نبع الماء فى تيه الصحراء، وأخذت ترتش كلماته فى تلهف واشتياق، وتتشوق للمساتها على الرغم من انها تنكأ الجراح، لأنها تستشعر من بعد الوخز راحة، وتجد من الأوجاع تراجعا وسكونا، وهكذا استقر فيلسوف السخرية اللاذعة فى الضمائر والقلوب، طبيبا لأوجاع السنين، وجراحا يقتحم الأدواء المزمنة اللعينة، ويبدد صديدها المتراكم فى النفوس، وصدأها الرائن على الأرواح، ولذلك أصبح الكاتب الفذ الراحل أحمد رجب -الذى نحتفل بذكرى وفاته الخامسة فى هذه الأيام-الزائر الصباحى الدائم لملايين المتعطشين لكلماته.. المتشوقين لوخز قلمه اللاذع الذى يقتحم الجراح ويبدد أولا بأول صديدها، ثم يربت عليها ببلسم البسمات، ويضمدها بالضحكات، ويستدعى من أعماق النفوس قدرتها على الصمود والتصدى لزحف اليأس، وتجهم الأمراض المزمنة التى أرقت البلاد والعباد طويلا، كأوجاع عتيدة تتراكم آثارها، وتتجمع سمومها لتنهك المجتمع وناسه، وعلى متن هذه الجريدة العريقة «الأخبار» كانت إطلالة الطبيب الصباحية عبر تذكرته المداوية المسماة «نصف كلمة» كفيلة بأن تبعث فى الضمائر أملا فى الشفاء، ووعدا بالتجاوز والعبور، وقدرة على المضى قدما فى ركب الحياة على الرغم من شراسة الأوجاع، فبدا كأنه مصارع لليأس، والفارق الكبير بين سخرية أحمد رجب البناءة، ونقده الساحر الأخاذ وغيره، هو أن كاتبنا الفذ لم يكن يضحكنا كى يلهينا عما يتهددنا، أو يصرفنا عن تحديات واقعنا، وإنما على عكس ذلك تماما، انطلقت سخريته المخلصة، ونقده البناء دوما كى يوقظ ضمائرنا، ويحفز طاقاتنا، ولذلك أظن أن أحمد رجب سيعيش طويلا فى الأذهان والضمائر، على الرغم من رحيله عن عالمنا، فالبعض يمرحون فى نفوسنا مع ان أجسادهم غائبة، وآخرون كثيرون لا نشعر بأية حياة لهم، مع ان ضجيجهم يملأ العوالم الافتراضية المسمومة!