يوميات الأخبار

فى ذكرى الباشا الكبير

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

محمد السيد عيد

أفكر كثيراً فى مصير مكتبتى، وأعرف أن كل أصدقائى الكتاب يفكرون مثلى

الباشا الكبير هو محمد على، مؤسس مصر الحديثة، الذى رحل عن دنيانا فى الثانى من أغسطس 1849، أى منذ أكثر من مائة وسبعين عاماً. والحقيقة أن حياة وأفعال هذا الرجل يمكن أن تكون مسلسلاً بديعاً، إلا أن الرجل الذى كان محظوظاً طوال عمره لا حظ له مع منتجى الدراما المصرية، فقد كتب صديقى الكاتب المسرحى أبو العلا السلامونى مسلسلاً عن هذا الرجل العظيم لكى يروى صفحة من أهم صفحات التاريخ المصرى، إلا أن المسلسل تعثر، ثم كتبت السيدة لميس جابر مسلسلاً آخر عنه، وجاء حاتم على لإخراجه، لكنه لم يظهر للنور أيضاً. وكأن قدر محمد على ألا تعرف عنه الأجيال الجديدة شيئاً. ومن القصص المثيرة فى حياة محمد على:
قصة المرحوم بوغوص الحى
كان بوغوص مسئولاً عن خزانة ميناء دمياط، لكنه دخل فى حوار مع الباشا ذات مرة، ويبدو أنه قال كلاماً لم يعجبه، فغضب الباشا، ولأن الباشا كان حاكماً مطلقاً، لا يستطيع أحد أن يراجعه فيما يأمر به، فقد أمر القواس بقتل بوغوص. أخذ القواس بوغوص، واستأذن الباشا أن يقوده ناحية النيل ليلقى بجثته فى النهر بعد قتله، ووافق الباشا، واقتاد القواس بوغوص ومضى به.
كان بوغوص قدم لهذا القواس خدمة من قبل، لذلك قرر أن يصنع فيه معروفاً، وبدلاً من قتله وإلقائه فى النيل ذهب به إلى مبنى مهجور، وخبأه هناك، وعاد إلى سيده ليخبره بأنه نفذ أوامره. وبعد فترة قصيرة من الزمن واجهت الباشا مشكلة مالية عويصة، فتذكر بوغوص الذى قتله، وقال نادماً: رباه، لو كان بوغوص حياً لأنقذنى من هذه المشكلة. وحين سمع القواس كلام محمد على ركع على ركبتيه تحت قدمى محمد على، وقال مستعطفاً: مولاى، الرحمة.
- لم تطلب الرحمة؟
-لأنى لم أقتل بوغوص.
- حقاً؟ بوغوص حى؟ إذهب إذن واحضره حالاً، وإلا دفعت رأسك بدلاً من رأسه.
وذهب القواس، وأحضر بوغوص، وعاش بوغوص بعد هذا طويلاً فى خدمة محمد على، وكان آخر مناصبه: مسئولاً عن ميناء الإسكندرية، وحين توفى تشكلت لجنة لجرد خزائنه، فوجدوا ضمن ما وجدوا أوراقاً ممضاة على بياض من محمد على باشا، حتى يستخدمها بوغوص فى الأمور التى لا تحتمل التأجيل.
فهل رأى أحد حاكماً يعطى أحد موظفيه أوراقاً موقعة على بياض مثلما فعل محمد على مع بوغوص، الذى يبدو أنه كان محل ثقة مطلقة لديه؟ أما ثروة بوغوص التى عثرت عليها اللجنة فكانت تسع عشرة قطعة فئة خمسة قروش. أى أقل من جنيه واحد. هل رأى أحد موظفين بهذه الصورة. والطريف أن محمد على لم يقرر لبوغوص راتباً محدداً، بل كان مسموحاً له بسحب ما يحتاج إليه من خزانة الدولة، ورغم هذا كان الرجل يعيش على الكفاف، كما يروى قريبه نوبار فى مذكراته. المهم أن الوفاة أدركت بوغوص، فقامت أسرته بدفنه فى هدوء، ولما وصل الخبر للباشا، غضب، وأرسل لوالى الإسكندرية يؤنبه بشدة، ويأمره بإخراج الرجل من قبره، وتنظيم جنازة عسكرية له، وتشريفة، ويمشى فيها هو وكل الضباط فى حامية الإسكندرية.
حكاية محمد على والمحبظاتية
فرق المحبظاتية كانت فرقا فنية جوالة، تقدم تمثيليات مرتجلة للجماهير فى الشوارع، وأحياناً تدعى لقصور الأثرياء فى المناسبات السعيدة للإضحاك. وقد أراد محمد على ذات يوم أن يحتفل بطهور أحد أبنائه، فاستدعى فرقة من هؤلاء للمشاركة فى الحفل. وفى المساء جلس ليشاهد الفرقة، فإذا بالفرقة تقدم عرضاً ينتقد رجال الإدارة بقسوة، إلى حد أننا يمكن أن نعتبر هذا العرض هو أول عرض معروف فى تاريخ المسرح السياسى المصرى.
بطل المسرحية فلاح، اسمه رجب بن عوض، فقير معدم، استدعاه حاكم الإقليم ذات يوم، ودار بينهما الحوار التالى:
الحاكم / رجل 1 : يا رجب بن عوض، لماذا لا تدفع ما عليك من ضريبة ؟
عوض / رجل 2 : والله يا مولاى أنا لا أملك إلا الهدمة التى ألبسها. الفلوس شحيحة، والحالة ضنك.
الحاكم: أتعرف كم وصلت ديونك؟
عوض: لا
الحاكم: ألف قرش
عوض: لقد سددت مبلغاً منها
الحاكم: كم سددت؟
عوض: خمسة قروش
الحاكم: خمسة قروش من ألف قرش؟ خذوه إلى السجن
وأخذوه إلى السجن، لكن زوجته لم تستسلم، بل قررت أن تسعى لإنقاذ زوجها. ذهبت للكاتب. دفعت له رشوة، فأمرها أن تذهب لشيخ البلد، فذهبت له ودفعت له رشوة، فأمرها بأن تذهب للناظر، فذهبت إليه وقدمت له، وأظهرت له أنها مستعدة لتقديم مقابل لهذه الخدمة، وحينئذ قام الناظر بالدفاع عن الفلاح وإخراجه من السجن.
من أين جاءت الشجاعة لهذا الفنان المجهول ليقدم هذا العرض أمام الباشا؟ كيف واتته الجرأة ليكشف له فساد رجاله جميعاً؟ الغريب أن محمد على الذى أمر بقتل بوغوص لأن كلامه لم يعجبه لم يؤذ أحداً من هذه الفرقة.
محمد على فى أيامه الأخيرة
كانت الأيام الأخيرة لمحمد على صعبة، قاسية، فقد راح يتوجس خيفة من ولده إبراهيم، القائد العسكرى الفذ، وكان يشعر أنه قد يغدر به، ويسميه الغادر، وفى المقابل أحس إبراهيم أن والده يريد قتله، فاستعد لتوجيه أقسى الضربات لو حدث غدر من والده. ويروى نوبار باشا الذى كان سكرتيراً لإبراهيم، إن محمد على باشا استدعى ولده ذات مرة، فأخذ الابن حارسه الشخصى معه، وقال له: أقتل فوراً من يصدر الأمر بقتلى. فهل نتخيل شقاء الأب والابن معاً؟
ولم ينته هذا العداء إلا بإصابة الباشا الكبير بألزهايمر، وخلال مرضه كان كثيراً ما يذهب إلى الإسكندرية، ويقيم فى بيوت بناها على ترعة المحمودية، وحين تنتابه نوبات المرض يصرخ قائلاً إنه سيسافر إلى مكة ويقيم بها، ومن المفارقات الغريبة أن ولده الذى كان يخشى غدره مات قبله، وتوفى هو بعد ولده بشهور. إن حياة محمد على تفيض بالقصص التى تستحق فعلاً تصويرها فى مسلسل.
مكتبات الكتاب والأرصفة
من الأمور التى تشغل بال الكتاب فى شيخوختهم: مصير مكتباتهم الخاصة، فالمكتبة جزء من حياة الكاتب، كونها خلال عمره، وتربطه علاقة حميمة بكل كتاب فيها، ويحفظ لونه، ورائحته، لكن الواقع القاسى كثيراً ما ينتهى بهذه المكتبات على الأرصفة لمن يشترى.
أذكر أنى فى فترة دراستى الجامعية بالإسكندرية، كنت أتردد على مكتبة فى بحرى تسمى المكتبة الحجازية، وهى مكتبة متخصصة فى بيع الكتب القديمة، وكان صاحبها يعرفنا، ويعرف أننا ندرس الفلسفة، وبمجرد أن رآنا قال: لقد اشتريت مكتبة الدكتور ابو العلا عفيفى، أدخلوا شوفوا ما يلزمكم منها. لم نصدق. الدكتور أبو العلا عفيفى أستاذ أساتذة التصوف فى مصر والوطن العربى، وصاحب الاسم المعروف عالمياً، باعتباره أكبر متخصص فى ابن عربى، كيف ينتهى أمر مكتبته الخاصة فى المكتبة الحجازية؟ بالسؤال عرفت أن الدكتور أبو العلا كان متزوجاً من سيدة إنجليزية، ولم ينجبا سوى بنت واحدة، وحين مات الرجل شدت الزوجة والبنت الرحال إلى بلاد الإنجليز، وقبل سفرهما أهديتا مكتبة كلية الآداب جزءا من المكتبة، أما الجزء الآخر الذى لم تتسلمه مكتبة الكلية لأنه كان مصاباً، فكان مصيره عند عم حجازى بدلاً من أن يعالجوه.
وذهبت ذات يوم مع الدكتور أحمد مرسى لزيارة العالم الجليل الدكتور أحمد أبو زيد بمكتبه فى كلية آداب اسكندرية، فوجدنا المكتب يمتلئ بأكوام من الكتب، فسألناه: ما هذا كله؟ فأجابنا بأنه أهدى مكتبته للكلية، ويقوم بعمل بطاقات الوصف والتسجيل بنفسه، ضماناً لحسن الاستفادة بها.
وأظن أن أحمد أبو زيد كان محظوظاً بالنسبة لصديقى الشاعر السكندرى الذى كان يضع مكتبته فى شقة مستقلة، وحين أراد ابنه أن يتزوج قرر أن يعطيه الشقة ليتزوج فيها، وجمع الكتب فى كراتين تمهيداً لنقلها لشقته التى يعيش فيها، لكن ولده نادى بائع روبابيكيا وأعطاه الكتب شروة مقابل خمسين جنيهاً. كاد صديقى أن يجن، ولف على كل تجار الروبابيكيا الذين يشترون الكتب القديمة، إلا أنه لم يعثر على أثر واحد لمكتبته، وقاطع الشاعر ولده حتى فارق الحياة.
الآن تغيرت الدنيا، ولم تعد المكتبات الورقية الضخمة مطلوبة، لأن المستقبل سيكون للمكتبات الإلكترونية، حيث يستوعب دى فى دى واحد مكتبة كاملة، ويمكن وضعه فى أحد أدراج المكتب دون أن يشغل مساحة. لذلك أفكر كثيراً فى مصير مكتبتى، وأعرف أن كل أصدقائى الكتاب يفكرون مثلى، ولا أدرى إن كانت الهيئات الكبرى، مثل هيئة دار الكتب، ومكتبة الإسكندرية، وهيئة قصور الثقافة، ستقبل أن يهديها الكتاب مكتباتهم الورقية مستقبلاً أم سيشترطون أن تكون الإهداءات نسخاً الكترونية فقط ؟ وربما يكون الرصيف، الذى لا يعجبنا الآن، غير متاح لمكتباتنا بعد فترة وجيزة.
 أوبرا الإسكندرية
أوبرا الإسكندرية واحدة من أقدم وأجمل مسارح مصر، وأروعها معماراً وزخارف. بنيت عام 1918، وكانت تسمى مسرح محمد على، وفى أوائل الستينات غيروا الاسم فصار: مسرح سيد درويش، وهى تسمية موفقة تماماً، لأن سيد درويش فنان سكندرى الأصل، ودوره لا ينكر فى موسيقانا القومية، كما أن بيته لا يبعد عن موقع الأوبرا أكثر من نصف كيلو متر. لكن وزارة الثقافة بدلاً من أن تضع تمثالاً للفنان السكندرى سيد درويش فى واجهة المسرح وضعت تمثالاً لنوبار باشا، ونوبار باشا رجل أرمنى الأصل، جاء إلى مصر فى عهد محمد على، واشتغل بالترجمة، ثم عينه محمد على فى حاشية ولده إبراهيم ليكون عينا عليه، ثم تدرج فى المناصب حتى صار وزيراً، ثم رئيساً لأول وزارة مسئولة فى تاريخ مصر، فى عهد الخديو إسماعيل، وعاصر أحداثاً شديدة الحساسية، مثل: الأزمة المالية، والاحتلال البريطانى، وغيرها. وكان من أنصار النفوذ الإنجليزى. المهم أن الرجل لا علاقة له بالأوبرا، ولا بالموسيقى، لذلك يطالب مثقفو الإسكندرية باستبدال تمثاله بتمثال لابن بلدهم الموسيقار سيد درويش، وأنا شخصيا أضم صوتى لصوتهم، فهل تسمع وزارة الثقافة؟