«بلاك تيما» وسلاح الكلمة

بلاك تيما
بلاك تيما

أعترف بكل شجاعة أنه حدث جفوة بيني وبين الأغنية من زمن ظهور كاظم الساهر وأصالة وسميرة سعيد وأنغام وعلي الحجار ومحمد منير ومدحت صالح ومحمد الحلو.. وآخرين، وهم الجيل الذي بدأ في الظهور عقب جيل العمالقة أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد الأطرش.. الخ. 

أستمع بين فترة وأخرى إلى بعض الأصوات التي تترك أثرًا طيبًا في نفسي، وتنتقي كلمات جميلة، ونغمة موسيقية راقية،  وهم قلة، ولا أدعي عندما أصفهم بالندرة أيضا. 

إلى أن وقعت واقعة جذبت انتباه مجموعة من الكتاب والصحفيين العاملين في مؤسسة "أخبار اليوم" من أعمار وأجيال مختلفة، حينما التقينا معا وإذ بصوت العندليب يشدو أغنية "عدى النهار" للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وساد صمت غريب وإنصات لكلمات الأغنية. التي تصف لحظات الانكسار عقب 67. وكيف أن هذه الكلمات التي تخطت زمنها أكثر من ربع قرن، مازالت تنقل لنا لحظات هزيمة 67 التي لم أعشها في الواقع ولكنها ارتبطت في نفسي من مطالعتي للتاريخ والأفلام بالنكسة.  وأن الاستماع لهذه الكلمات يعيد علينا المشهد وآلامه مرة أخرى، فإحساس "الأبنودي" بالكلمات والمعاني يعكسه صوت "حليم" الشجي المتخم بالهزيمة والانكسار، ويبرزها نغمات بليغ حمدي.

ويقول مطلع الموال: "عدّى النهار والمغربية جايّة، تتخفّى ورا ضهر الشجر، وعشان نتوه في السكة، شالِت من ليالينا القمر،  وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها، جانا نهار مقدرش يدفع مهرها، يا هل ترى الليل الحزين،  أبو النجوم الدبلانين، أبو الغناوي المجروحين، يقدر ينسّيها الصباح،  أبو شمس بترش الحنين، أبداً بلدنا ليل نهار، بتحب موّال النهار".
  
وإذ بالزميل الدكتور محمود عطية المتخصص في علم النفس، يفتح جهازه المحمول ويطلعنا على أغنية "إيه يعني" لفريق "بلاك تيما"، وأشهد أنها المرة الأولى التي أستمع لهذا الفريق "وهذا تقصير من جانبي"  وكلمات الأغنية تقول: "إيه يعني لما سبتيني بشكل مش معقول، مانا عايز اسيبك من بدري لكن مكسوف أقول، ماضيكي مش لطيف ودمك مش خفيف، وشيطانك اللي جوا حيوانك الأليف، ماضيكى مش لطيف ودمك مش خفيف، وشيطانك اللى جوا حيوانك الأليف، إيه يعنى لما سبتينى بشكل مش معقول، ما أنا عايز اسيبك من بدرى لكن مكسوف أقول، رغم من انك بليدة أستاذة في الخيانة، فاكره نفسك حويطة وانتى في أولى حضانة، تتغذى على الباتيه وعامله بنت بيه، أمال لو كنتى حلوة كنتى عملتي إيه، إيه يعنى لما سبتينى بشكل مش معقول، مانا عايز اسيبك من بدرى لكن مكسوف اقول، مسكنتك خلت قلب يدق وقعت فى حبك ليه، أنا حاسس أنى كنت بلؤ في جزمة حبك دى، صبرت عليكى كتير وكنت في حبي أمير، واعصر على نفسي لمونة وأقول قشطه الأيام ها تطير".

 

للوهلة الأولى لم أدرك وصلة "الردح" الذي قام بها أعضاء الفرقة، وأعدت سماعها، وأيقنت أن شباب "بلاك تيما" يقدمون لونًا جديدًا من ألوان التلوث الغنائي والسمعي للشباب، وأن لغتهم في التعبير تقتصر على التجاوز في المعاني، واللامبالاة في المشاعر والتبلد في الأحاسيس، والثأر من الآخر هو الهم الأزلي الذي يشغل فكره،  كلمات مباشرة وسطحية وساذجة، هي أقرب "للخناقة" عن كونها كلمات أغنية يرددها عاشق سابق أو حبيبان جفت ينابيع الحب بينهما. 

أين تلك الكلمات من رائعة أم كلثوم "الأطلال" إبراهيم ناجي: "يا حبيبي كل شيء بقضاء.. ما بأيدينا خلقنا تعساء، ربما تجمعنا أقدارنا.. ذات يوم بعدما عز اللقاء، فإذا أنكر خل خله.. وتلاقينا لقاء الغرباء، ومضى كل إلى غايته.. لا تقل شئنا فإن الحظَّ شاء".

فاللغة مرآة عاكسة لثقافة أي مجتمع، فعندما تتقدم اللغة ينمو المجتمع ويزدهر فيه العلم وتكثر نظرياته واختراعاته، وتنشط اللغة وتنمو لتعبر عن أفكار المجتمع ونظرياته. وتتراجع اللغة عندما يصاب المجتمع بالكسل والخمول ويتوقف البحث عن العلم فيتوقف المجتمع عن التقدم والرقي، وينتج عن ذلك ضعف اللغة.. كما أن رجال التربية يؤكدون أن من يتقن ويفهم لغته، يتسنى له استيعاب لغة أخرى بكل سهولة.

والغريب أن العالم يتجه إلى معرفه لغة الشعوب الأصلية، وهذا من شأنه أن يعيد إلينا الأمل في أن تسترجع لُغاتنا حيويتها وانتشارها، شفهيّا وكتابيّا.. وقد أنشأت العديد من المجموعات الأصليّة بنفسها أجهزة لإعادة إحيائها، على غرار ما قام به الآينو، في اليابان، الذين وضعوا نظاما يتولّى فيه القدامى تعليم لغتهم للشبان وكذلك  الفلبين، للحفاظ على حيوية اللغات وغيرها من الوسائل الثقافية القادرة على نقل القيم التقليدية للأجيال القادمة.

ونشرت منظمة  اليونسكو بالاشتراك مع جامعة كامبريدج سنة 2018 تحت عنوان "معارف الشعوب الأصلية لتقييم تغيّر المناخ والتكيّف معه"، والذي يُؤكّد الدور الحاسم للمعارف الأصليّة في مواجهة التحدّيات الكونية الجديدة.

ولأن اللغة ظاهرة نفسية مكتسبة تمليها نوازع الحاجة للتعبير والتفاهم، أصبح من الضروري مراجعة كلماتنا الجميلة في الأغاني.