«فن السادو»| كوب للشاي.. وطقوس للمحبة

صورة من غرفة الشاي في مدينة كيوتو
صورة من غرفة الشاي في مدينة كيوتو

كيوتو - آية سمير

«القهوة لا تُشرب على عجل، القهوةٌ أخت الوقت تُحْتَسى على مهل، القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة تأمّل وتغلغل في النفس وفي الذكريات».

هكذا يرى شاعرنا العربي والفلسطيني محمود درويش القهوة، التي تشكل جزء من ثقافتنا نحن العرب، لكن الأمر ليس بالضرورة هكذا في كل الثقافات، ففي الوقت الذي شكَلت فيه القهوة ذكرياتنا وأصبحت جزء من ثقافتنا وحتى شِعرنا، يحتل الشاي «الذي يُصنع على مهل» حرفيًا، مكانة مماثلة في اليابان.

فصناعة الشاي في اليابان لا تقتصر على كونها «صناعة مشروب دافئ سريع» لكن الأمر جزء من ثقافة البلد التي ترى في صناعة الشاي حرفة لا يمتهنها إلا من يفهمها ويعي جيدَا أنها ثقافة الاحتفاء بضيف، أو التعبير عن محبة للآخر.

«عندما كبرت وأصبحت أقضي ساعاتٍ طويلة في العمل بدأت أحضّر دائمًا الشاي لنفسي، وبدلا من الشاي المصنوع من البودرة -والذي يستخدمه اليابانيون- عندما يجدون الوقت، أصبحت أستخدم الشاي الأسهل الذي لا يحتاج سوى الماء الساخن، لكنه لا يبدو لي حلو المذاق كالذي يُصنع خصيصًا من أجلي»..هذه لا تعتبر فقط وجهة نظر «كاوري نيشياما»، لكنها وجهة نظر كل اليابانيين في طقوسهم المسماة بـ«السادو»..أو فن صنع وتقديم الشاي.

لا يجب اليابانيون البيوت الكبيرة أو المليئة بالزخارف و الديكورات المُبالغ فيها ولا حتى في حدائقهم، فهم يرون الكمال في «قِلة المثالية» أو أن يكون الشيء بسيطًا جدًا، غير مُتقن الصنع بشكل مبالغ فيه فيفقد مصداقيته. 

لن تجد الكثير من التكلف في غرفة الشاي القريبة عادة من المعابد، فهي ككل شيء في حياة اليابانيين تعود جذوره لفلسفة و اتجاهات دينية. غرفة صغيرة الحجم، لا يوجد فيها قطعة واحدة من الأثاث، ومصنوعة تقريبًا بشكل كامل من الحصير.



هذه الغرفة المُحاطة بحديقة صغيرة، عليك أن تبدي الكثير من الاحترام ليس فقط وأنت داخلها بل قبل أن تدخلها حتى. فتخلع حذائك وتضع كل مقتنياتك في الخارج، ثم تدخل وتجلس على ركبتيك في انتظار السيدات اللاتي سيقُمن بإعداد الشاي من أجلك.

نوعان من الشاي يمكن إعدادهم، الساخن والبارد، إلا إن مراسم تقديمهم لا تختلف كثيرًا.

في البداية تدخل سيدة لتُقدم لك حلوى يعتقدون أن «حلو طعمها» سيجعلها تعادل مذاق الشاي الخالي من السكر. تأكلها بواسطة عود خشبي رفيع أشبه بـ«خلة الأسنان»، ثم تضع الطبق الصغير أو الورق التي يُقدم لك عليها، فارغًأ على الأرض، فتعرف السيدة التي تجلس أمامك في كل مرة وتنتحي وهي تقدم لك الطبق، أنك انتهيت من الحلوى وأصبحت جاهزًا لتناول اللشاي.


في تلك الأثناء تكون هناك سيدة أخرى تجلس في ركن بعيد من الغرفة الصغيرة نسبيًا وهي تحضر لك الشاي بطريقتها الخاصة وتحوله من «بودرة» إلى سائل ساخن أو بارد.

مراسم تحضير الشاي قد تأخذ حتى ثلاثين دقيقة، يعتبرها كل الحاضرين فرصة من أجل الهدوء والسكينة والتواصل، فرصة من أجل إظهار الاحترام والاحتفاء بالضيوف والتعبير عن المحبة لهم.


بعد الانتهاء من وعاء الشاي الذي يجب عليك أن تحمله بكلتا يديك، تضعه أمامك، وتنحني احتراما للمجهود الذي بذلته السيدة من أجل الترحيب بك، ثم ترحل.



سيدات الشاي لا يحببن التصوير كثيرًا، فمن غير المسموح التقاط صور لهن وهن يقمن بإعداده، وفقط المسموح لهن بذلك الفتيات اللاتي يدرسن فن إعداد الشاي، مسموح لهن بالتقاط الصور حتى يتذكرن الخطوات التي يتعلمنها في غرف التحضير.

هؤلاء النساء كن من القلائل اللاتي مازلن يرتدين «الكيمونو» وهو الزي التقليدي الياباني الذي يشتهر به اليابانيون، لكنهم لم يعودوا يرتدونه اليوم وهو عبارة عن طبقات من القماش ذو الطابع الخاص يلففن به أنفسهن بطريقة غاية في الإتقان.


«تجاره متراجعة»..هكذا أصبح حال «الكيمونو»، فلم يعد أحد يرتديه حتى في المناسبات الخاصة كالزفاف أو في داخل غرف الشاي، فقط هؤلاء النساء يعتبرن من القلائل اللاتي مازلن يتمسكن به كجزء من ثقافتهن بشكل عام.

كما حدث لحوالي50% من كتب الصين، تمكن كاهن يتبع إحدى الطوائف البوذية من إحضار بودرة الشاي الأخضر إلى اليابان لأول مرة في القرن الثامن عشر. وبمرور السنوات تغيرت عادات تناول الشاي في اليابان لكنه ظل دائمًا جزء من ثقافة البلاد التي يحترمها الجميع، وطقس خاص يُميز الثقافة اليابانية عن غيرها.