«يونيو» أنقذت المثقفين والتيارات اليسارية.. لكنهم لم يخلصوا لمشروع الدولة المدنية

 ثورة 30 يونيو
ثورة 30 يونيو

كانت ثورة 30 يونيو صرخة وطن ضد الفاشية الدينية والتعصب والفوضى والإرهاب التى زرعها الإخوان فى قلوب الناس، معركة كل المصريين ضد جماعة حاولت تغيير هويتهم ونمط حياتهم، وتلاعبت فى دينهم ورهنتهم لمشروع اقليمى يعيد مصر إلى عصور الاستعباد والقهر الذى دمغ فترة الاحتلال العثمانى، والذى عاد فى حكم الإخوان ومهد الطريق لتدخلات تركيا وقطر المستمرة فى الشأن الداخلى المصرى، ونبرة الاستعلاء العثمانلية فى الخطابات السياسية الموجهة الى مصر.

ظهر المصريون كتلة واحدة، وبينهم المثقفون والنخبة السياسية، بخطاب واحد موجه للعالم، مصر دولة مدنية لن تكون دينية ولن يحكمها فاشى، لم يستغرق الامر كثيرا حتى سقط القناع عن قطاعات منهم بدأت فى الحنين الى زمن الاخوان متناسين ما فعلته بهم تلك الجماعة من تشويه وتنكيل وقتل، كان تغير مواقف مثقفين كٌثر مدعاة للتساؤل، هل هؤلاء مؤيدون حقيقيون للدولة المدنية ؟، ولماذا لم يحولوا مجهودهم فى مهاجمة الدولة الى القضاء على الفاشية، ولماذا يصرون على امساك العصا من المنتصف رغم ان الدولة المصرية تخوض معركة حقيقية شريفة ضد الارهاب والفاشية الدينية ؟

اليسار والأخوان

إجابة ذلك السؤال تقودنا لمحاولة فهم العلاقة الغريبة التى تجمع أجيال اليسار المصرى الجديدة بجماعة الإخوان رغم الخلافات الأيدلوجية العميقة بين افكارهم والتباعد التام بين أهدافهم، وهى علاقة تتحدى تاريخ التيارين، فاليسار يعمل فى إطار الدولة المدنية، أما الإخوان فنشأ بالاساس لاستعادة نظام الخلافة، والإخوان هم من قضوا على شعبية اليسار القديمة فى الشارع المصرى، وواجهوا بعنف اليسار فى السبعينيات والثمانينيات داخل الجامعات، وفى الانتخابات الطلابية، الا ان هناك جزءا من ذلك اليسار وعناصر ناصرية انفتحت على الاخوان وربطها مع الجماعة نوع من انواع الصداقة مع قيادتها ومن ثم الاتفاق مع الجماعة فى كثير من مواقفها التى صنفت معارضة فى فترة من الفترات، مثل الجمعية الوطنية للتغيير التى جمعت اليسار مع الاخوان، ثم ظهرت التحالفات الانتخابية وكانت احزاب اليسار والتى تحولت الى الحركة المدنية تخطب ود الاخوان على امل ان تدعمها من اجل الحصول على بعض المقاعد البرلمانية، وهو المشهد الغريب والصادم الذى تم عقب يناير 2011 ويمكن استرجاعه بالصورة الشهرية لحمدين صباحى مع محمد بديع مرشد الاخوان والاتفاق بينهم على خوض الانتخابات معا وتحت لافتة الاخوان، رغم ان حمدين صباحى يصنف نفسه ناصريا ويعلم جيدا ان الاخوان حاولوا اغتيال عبد الناصر وكانوا ضده حيا وميتا، البعض فسر ذلك التلاقى الغريب على انه سعى للحصول على جزء من التورتة التى سيطر عليها الاخوان.

كان ذلك محل تساؤل للدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع السابق الذى استغرب من انضمام صباحى لجبهة الانقاذ بعدما تعاون مع الاخوان فى الانتخابات، وهو ما اثار ضده هجوما عنيفا من اليسار رغم تاريخه الكبير فى تلك الحركة التى ارخ لها وكان دائم التحذير من تلك العلاقة الغريبة، وفى كتبه كان مذكرا بتاريخ تلك الجماعة وكان من بين رصده فى كتابه المهم «الارهاب المتأسلم » رأيا لطه حسين عقب الكشف عن التنظيم الخاص للجماعة مضمونه «ما هذه الأسلحة وما هذه الذخيرة التى تخبـّأ فى بيوت الأحياء وفى قبورالموتى ؟ ما هذا المكر الذى يكمن، وما هذه الخطط التى تدبّر، وما هذا الكيد الذى يكاد لمّ كل هذا الشر، ولمّ كل هذا الكفر وقد رخصت حياة المصريين على المصريين.. يقال إنها إنما رخصت بأمر الإسلام الذى لم يحرّم شيئا كما حرّم القتل ولم ينه عن شيء كما التعاون على الإثم والعدوان».

يوليو ويونيو

و فى كتاب «مجرد ذكريات» يقول السعيد لقد كان رد الفعل الإخوانى على العدوان الثلاثى عام 1956م غريباً، ففى حين كان الشيوعيون يرفعون شعار «الدفاع عن الوطن» رفع الإخوان شعار «لا عدوان إلاّ على الظالمين، وبينما كانت عاطفة الشيوعيين مشدودة إلى الوطن،ومواجهة العدو،كانت جماعة الاخوان تمتلىء سروراً بالعدوان على جيشهم ووطنهم على خلفية صراعهم مع عبد الناصر. والحقيقة ان ما نقله السعيد عن الجماعة اذا ما طبقناه على الوضع الحالى نكتشف ان هناك تشابها كبيرا بين ما قام به الاخوان مع ثورة يوليو وبين ما يقومون به الان مع ثورة يونيو من تحريض وتشكيك واساءة للدولة المصرية، لكن اليسار ومن يرتبط بهم من المثقفين لا يرون ذلك بل وتراجعوا عن مشروع الدولة المدنية التى استعادتها 30 يونيو ويدعمون الفاشيست الاخوان.

نموذج فيرمونت الذى عقد لدعم مرشح الاخوان فى الانتخابات الرئاسية كان شكلا اخر من اشكال الانبطاح امام سطوة الاخوان، وتأكيد اخر على ان تلك النخبة ليست نخبة وليست جادة فى مواجهة الفاشية الدينية وان الاخوان نجحوا فى اختراق تلك النخب وبسط سيطرتها عليها بطريقة او باخرى، وظهر ذلك اكثر بعد 30 يونيو، وعبر نماذج مثل علاء الاسوانى الذى دعم 30 يونيو ثم انقلب عليها بعد هجوم الاخوان عليه ومطاردته فى احدى ندواته فى باريس، تواجد الاخوان فى الخارج والدعم الدولى الذى يحصلون عليه من تيارات يسارية جعلهم تنظيما مخيفا لمثقفين يبحثون عن علاقة قوية مع الخارج، ومؤسساته مثل الصحف ودور النشر والمنتديات الثقافية الدولية.

بيزنس النضال

نموذج أخر مثل حازم عبد العظيم وعصام حجى اللذين ايدا دولة 30 يونيو وكان الأول يبحث عن منصب وزارى أو عضوية فى البرلمان معتقدا أن دولة 30 يونيو تشبه الانظمة السابقة التى كانت توزع المناصب على اتباعها، أما حجى فقد تغير موقفه تماما بعد استبعاده من منصبه مع الرئيس السابق عدلى منصور ووضع يده فى يد الاخوان وأصبح جزءا من الجماعة الارهابية.

ورغم أن ثورة يونيو انقذتهم من الإخوان الذين كانوا يستعدون للانقضاض عليهم كما انقضت الثورة الايرانية على حلفائها من اليسار إلا أن الحركة المدنية وتنظيم الاشتراكيين الثوريين، نسوا كل ذلك، ونسوا مشاهد التعذيب والقتل امام الاتحادية وحصار المحكمة الدستورية ومدينة الانتاج الاعلامى والاعلان الدستورى الذى نصب به مرسى ديكتاتورا فوق السلطات، وتوعد شباب الاخوان لهم بالقتل، تناسوا كل ذلك وتذكروا تعاونهم مع الاخوان قبل 25 يناير، وانصهارهم فى العمل السرى لاسقاط الدولة، وأكبر دليل على ذلك اعتراف سابق لزياد العليمى المحسوب على اليسار الذى أكد فى حوار نشرته دويتش فيله الالمانية « ان إئتلاف شباب الثورة كان مكونن من خمس فصائل شبابية هي: حملة دعم البرادعي، وحركة 6 أبريل، وشباب العدالة والحرية، وشباب حزب الجبهة الديمقراطية، وشباب جماعة الإخوان المسلمين. وقد عملت المجموعات الخمس مع بعضها البعض منذ عام، ثم بنينا تنظيما أقرب للسرية « وهو ما يعنى ان اغلبية شباب اليسار الحالى بتنوعاته عملت مع الإخوان فى تنظيمات سرية ضد الدولة وبالتالى أصبح من الطبيعى أن تذوب الاختلافات الايدلوجية بينهم ويحل محلها بيزنس النضال المشترك مدفوع الأجر وهو ما كشفته قضية خلية الأمل الاخيرة وكم الاموال المضبوطة عبر شركات تابعة للجماعة وتعمل فى خدمة التنظيم الذى جمع اقصى اليسار مع الفاشيست الاخوان لهدم الدولة.

مثل هذه النماذج تمثل خطرا شديدا على مشروع الدولة المدنية وعلى عملية التحول الديمقراطى نفسها، فلا يمكن الثقة فى مثل تلك النخبة المشوهة لبناء عملية ديمقراطية، لانهم فى الواقع غير مخلصين لافكارهم او للدولة المدنية، ولا يعنيهم حرب الدولة على الارهاب الذى تديره تلك الجماعة، وسكوتهم على جرائم الاخوان بحق الشعب المصرى يؤكد انهم مجرد عرائس يحركها التنظيم الفاشى .